شهادات ومذكرات

أحمد فؤاد الأهواني وفلسفة الانسان العربى

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد الأهواني واحداً أهم أساتذة الفلسفة، وعلم النفس، والفكر الإسلامي في جامعة القاهرة على امتداد تاريخها العريق؛ حيث قدّم للمكتبة العربية والدراسات الفلسفية العديد من المؤلفات، والمترجمات في الفلسفة وتفرعاتها المتشابكة، ما بين تأليف وتحقيق وترجمة وفي القضايا الفكرية العامة، وهو ينتمى إلى جيل الستينات من القرن المنصرم، وصاحب الفضل فى تأسيس مدرسة وطنية أصيلة فى الفلسفة الإسلامية فى مصر والوطن العربي، حيث كان من سماتها الصدق والموضوعية والوعي الحضاري، كما استطاع أن يجمع في شخصه وفكره ونشاطه المفكر، والمترجم، والعالم والمناضل السياسي، واتسمت دراساته الفلسفية بالعمق واستشراف المستقبل وتجاوز الأنماط التقليدية في الفلسفية، حيث شرع  في العمل علي دراسة موضوعات مبتكرة تغاير الصور النمطية للفيلسوف، وهو مفكر عملاق صنع فلسفته بنفسه، وعلمها ليعلم الآخرين، وصقلته التجارب الفكرية وعاصر أخطر الأحداث المعاصرة في تاريخنا المصري المعاصر؛ وهو من جيل أساتذة الفلسفة الذين علمونا كيفية التعامل مع أصول الفقه، والتصوف، وعلم الكلام باعتبارها علومًا أصيلة لا تنفصل عن سياق درس الفلسفة الإسلامية ككل من حيث هي طرائق في النظر وطرح الأسئلة عن ماهية المعرفة وطرقها وتأسيس العلم.. إلخ

علاوة علي أنه أحد أساتذة الفلسفة الإسلامية الذين استطاعوا من خلال بحوثهم ومؤلفاتهم في الفلسفة الإسلامية أن ينقل البحث في دراستها من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

كما تميز أحمد فؤاد الأهواني (مع حفظ الألقاب) بالثقافة الواسعة التي كسبها في أناة وصبر، والذاكرة الواعية الحافظة، فهو عندما يقدم علي الحديث لا يتعجل، بل يحاور ويعلق،وبعد ذلك يلم بأطراف ويدلي برأيه، لا تفوته ملاحظة ولا تغيب عنه ذكري، عشق الفلسفة الإسلامية، عني بالمشكلات التاريخية والسياسية والاقتصادية والمسائل الاجتماعية في الفلسفة الإسلامية، واستطاع أن يكتب عن فلسفة الإنسان العربي بمعرفة ودقة وعقل فاحص، وهو ناصري حر، ومثقف موسوع الثقافة  كان واقعياً تناول الثقافة التاريخية من جوانبها التطبيقية .

لقد كان الأهواني دون شك بشهادة الكثيرين أحد سادات الثقافة الرفيعة في مصر والعالم العربي في القرن العشرين، وأحد كبار الأساتذة في الفلسفة الذين قدموا كتابات ومؤلفات وترجمات أقل ما توصف به أنها «ممتازة»، وأنها من أفضل ما كتب في العربية في بابها، لمن يبتغي البحث عن البدايات والخطوات الأولى في مدارجها.

وقد حصل الأهواني علي الليسانس في الآداب في مايو 1929م بتقدير امتياز، ثم دبلوم التربية الثانوي من معهد التربية العالي 1931م، واستطاع أن يجتاز درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف أغسطس 1943م، ثم أستاذ مساعد 1950، وأخيراً أستاذ كرسي الفلسفة الإسلامية 1958 وعقب ذلك تولي منصب رئيس قسم الفلسفة 1965؛ ومن الوظائف التي شغلها قبل دخوله خضو هيئة تدريس بجامعة القاهرة : مدرس بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، ومفتش بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، مدرس بكلية الآداب جامعة القاهرة اعتبارًا من 1/7/1946.

وللأهواني مؤلفات كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: معاني الفلسفة، وفي عالم الفلسفة، وفجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، والتربية في الإسلام،  والمدارس الفلسفية، كتاب النفس لأرسطو طاليس (ترجمة) .. كما كتب الأهواني عن ماهية الفلسفة، وتاريخها، وأعلامها، وقضاياها وموضوعاتها الرئيسية، توقف عند بعض شخصياتها التأسيسية (الكندي الفيلسوف، وأفلاطون، وجون ديوي)، وكتب عنها أفضل ما يمكن أن تقرأه بلغة عربية سلسة وعميقة في الوقت ذاته؛ وبالتوازي مع هذا الجهد التعريفي والتثقيفي العام مارس الأهواني الترجمة أيضا وقدم إلى اللغة والثقافة العربية نصوصًا فلسفية لم يكن ممكنا أن نقرأها ونفيد منها إلا بفضل ترجمات الأهواني الرائقة.

والأهواني من نوعية المؤلفين الذين إذا قرأت لهم كتابًا واحدًا أو حتى كتيبا صغيرًا تشعر بفارق عقلي كبير بين حالتك قبل القراءة وبعدها؛ لأنه عالم وباحث جاد حقيقي غزير الاطلاع، ومتنوع الروافد والمصادر، جمع بين التبحر في محيطات الفلسفة القديمة منذ ميلادها وفجرها البازغ؛ وصولًا إلى الفلسفات الإسلامية والمسيحية في العصور الوسطى ؛ وذلك حسب قول إيهاب الملاح  في مقاله مرفأ قراءة.. إحياء تراث فؤاد الأهواني الفلسفي.

وثمة نقطة مهمة وجديرة بالإشارة وهي أنني في هذا المقال أحاول أن أعرب عن تقديري الكبير لجهود أحمد فؤاد الأهواني فى فلسفة الإنسان العربي، حيث يتساءل فيقول :هل للإنسان العربي في الوقت الحاضر فلسفه يمكن أن تصاغ صياغه نظرية ـ ويصدر منها سلوكه في الحياة ـ وتعبر عن آلامه وآماله التي يتطلع اليها في مستقبله ـ ويمكن أن تلخص في مذهب من المذاهب الكبرى التي تتخذ شعاراً وعنوانا ـ كما نقول أن المذهب الذي يعبر عن فلسفه الإنسان الأمريكي هو البرجماتية ـ أو الانجليزي التجريبية ـ أو الفرنسي الوجودية ـ أو الألماني المثالية ـ أو الروسي الماركسية اللينينية ـ وهكذا .

وهنا يؤكد الأهواني  فيقول : نعم، للإنسان العربي في الوقت الحضر فلسفه ـ وله مذهب ونظريه - هي التقدمية التطورية.. إنها فلسفه ثورية في صميمها ـ ولذلك فان منهجها المنطق الثوري ـ لا منطق المادية الجدلية الذي تعتمد عليها الماركسية، ولا المنطق التجريبي أو الرياضي أو البراجماتي الذي تسير عليها الفلسفات الغربية .

وهي فلسفة إنسانيه تضع الانسان في المحل الأول - من الاعتبار كما يؤكد الأهواني حيث تحاول أن تلتمس له المكان الذي يجي أن يشغله في هذا العالم ـ وفي هذا الكون ـ وكيف يستطيع أن يتغلب علي الطبيعية المحيطة به وان يسخرها لمصلحته .

وقد مرت الفلسفة في نظر الأهواني منذ ظهورها علي ايدي اليونانيين في تيارين كبيرين ـ فهي أما كونيه تجعل محور بحثها الأمور الطبيعية ـ وأما انسانيه ينبثق تفكيرها من الانسان ويدور حوله .   وهكذا كانت فلسفة سقراط الذي قيل انه أول من أنزل الفلسفة من السماء إلي الأرض ـ بمعني أنه حول الفلسفة من البحث في الطبيعة الي البحث في الإنسان .. وتأجحت الفلسفة خلال تاريخنا الطويل حول هذين القطبين.. ولقد كانت الفلسفة العربية منذ ظهورها حتي اليوم فلسفة انسانية ـ تجعل الإنسان العربي محور تفكيرها وبحثها واهتمامها .

ولم تظهر الفلسفة العربية كما يقول الأهواني إلا مع إظهار الاسلام - أما قبل ذلك فلم يكن للعرب سوي الحكمة الجارية ـ أو المثل السائر الذي يعبر عن روح الأمة - كما هي الحال في سائر الشعوب قبل أن تجتاز مرحله الحكمة العملية الي مرتبة الفلسفة النظرية .

فلما جاء الاسلام حمل معه كما يقول الأهواني ثورة شاملة في الفكر والأخلاق والاجتماع والدين .. إن جوهر الإسلام أنه ثورة أكبر علي الانسان نفسه الذي ظل يرسخ في أغلال التقليد أزمنة طويلة ـ دون أن يحاول النظر الحر والتفكير المستقل الصحيح ليهتدي في هذا العالم الفسيح ويسير في الطريق المستقيم . ومن الإسلام انطلقت الثورة العربية في كل مكان ـ شرقاَ وغرباَ ـ فحررت الانسان في ظل الدين الصحيح - وهو الدين الحنيف ـ دين ابراهيم الذي انبثقت منه أديان سماوية أخري منها اليهودية والنصرانية - وكان آخرها الاسلام .

ولم تمنع هذه الفلسفة الدينية الإنسان من الأخذ بالفلسفة أو السير مع طريق العلم كما يري الأهواني، ولذلك فتحت صدرها لجميع الفلسفات وسائر العلوم ـ فلم يكد القرن الثالث الهجري يبدأ حتي استمرت للعرب حضارة باهرة أعظم كان هدفها تقدم الانسان في شتي المناحي ـ فكانت نبراسا اهتدي العالم كله بضوئها ـ حتي لقد سعت أوربا الي نقلها والسير علي منوالها ؛ ثم خمدت هذه الفلسفة العربية بسبب جمود التفكير ـ والوقوف عند التقليد ـ وسد باب الاجتهاد ومعارضة حركات التحرير والتقدم .

وقد شرع الانسان العربي منذ منتصف هذا القرن يتأمل في نفسه كما يري  الأهواني، ونشأ من هذا التأمل شعوره في ذاته التي أصبح بها واعيا، فاستيقظ من غفوته، وهب من قدرته، واستمده من وعيه بذاته قوة وعزماً، وإرادة لا تلين، هي وقود الثورة العربية المشتعلة في كل مكان .

إن الوعي بالذات في نظر الأهواني أساس كل فلسلفة ـ ومصدر كل تقدم ـ وسبب كل تحرر وتحرير . ان وعي الانسان العربي بذاته هو الذي أدي الي ثورته علي الاستعمار حتي قضي عليه قضاء كاملا في بعض اجزاء الوطن العربي ـ وعلي رأسها قلب هذا الوطن في مصر ـ ولا تزال بقية الأجزاء الأخري علي الطريق الثوري الي استكمال هذا الاستقلال .

كما أن الوعي الانسان العربي بذاته في نظره أيضا هو الذي أدي الي ثورتها علي المرجعية التي كانت تعوق التقدم الاجتماعي لملايين الشعب العربي . ثم ان وعي الانسان بذاته هو الذي افضي بعد القضاء علي الاستعمار والرجعية ـ بعد الثورة السياسية والاجتماعية ـ الي السيطرة علي اقتصادياته ـ والتحكم فيها بغية ترقية الانسان الذي يعيش فوق رقعة الوطن العربي ـ وتحقيق حياة أفضل تتفق مع ما يتطلع السه من حضارة من فكان لابد أن يسير في طريق الاشتراكية حتي يتلاءم مع المرحلة الجديدة التي انتقل اليها من الزراعة الي التصنيع .

هذه الجوانب الثلاثة كما يقول الأهواني،حققتها التقدمية العربية ـ وأصبحت واضحة المعالم ملموسة الأثار ـ وهي التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي .

إن الانسان العربي الواعي كما يري الأهواني لم يغفل من حسابه النظر في القيم الأخلاقية التي يجب أن تتطور حتي تتلاءم مع الاوضاع الجديدة . ولذلك أشار مشروع الميثاق الوطني الذي قدمه الرئيس جمال عبدالناصر في مقدمته إلي أن الشعب المصري تحت ظروف هذه المعارك الثورية المتشابكة المتداخلة كان مصراً علي أن يستخلص للمجتمع الجديد الذي يتطلع اليه علاقات اجتماعية جديدة ـ تقوم عليها قيم أخلاقية جديدة ؛ كما أن الإنسان العربي يخضع اليوم لعملية التغيير والتطوير والتحرير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهي عملية تتم جنبا الي جنب مع تلك العملية الخارجية.

فهناك نوعان من البناء الجديد، نشهد معالمهما في سرعه مذهلة كما يقول الأهواني : بناء المجتمع وما عليه من مظاهر حضارية مثل مشروعات الإسكان، وشق الطرق، والترع، والمصارف، وزراعه الأرض البور، بل زراعة الصحراء نفسها - وتشييد المصانع المختلفة واستخراج المعادن من باطن الأرض ـ أي استغلال جميع الثروات التي يمكن استغلالها من رقعة الارض العربي ؛ ثم بناء الانسان نفسه - بناء الانسان العربي بناء جديدا ـ وصياغته صياغة جديدة . انه تجديد في الأخلاق ـ وفي النفسية - وفي العقلية .. إن أخلاقية الانسان العربي - ونفسيته - وعقليته هي التي تميز هذا الانسان من غيره من البشر الذين يسكنون هذا العالم . هي التي تميزه عن الشرق وعن الغرب علي حد سواء .. لقد جمدت الأخلاق العربية مع جمود القيم، وركود المجتمع، وتمسكه بالقديم البالي ورفضه أي تقدم وتغيير، وأصبحت تلك القيم وما تعبر عنه من فضائل مجرد ألفاظ يتشدق بها دون أن يتبعا عمل يتطابق معها .

لقد بلغت الأخلاق العربية في نظر الأهواني مرحلة من الانفصال التام بين النظر المجرد والسلوك العملي القائم بالفعل . وانتهي الأمر بها إلي أن تكون مواعظ كلامية تلقي من فوق المنابر ولا تؤثر في النفوس، ولابد في هذه المرحلة من الانطلاق الثوري أن تحدث في الأخلاق العربية ثورة تتمشي مع الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؛ وذلك علي النحو التالي :

أولاً ـ بأن يعدل في الأخلاق من السلوك نفسه ـ وأن يلغي ذلك الانفصال بين مفهومها النظري وتطبيقها العملي .

ثانياً ـ بأن يعدل في الأخلاق _ ما دام محور الارتكاز فيها سيصبح السلوك _ عن تربيتها بالمواعظ الكلامية ـ وأن تبث بالتربية والتنشئة والتعويد حتي ترسخ في النفوس الفضائل الجديدة التي تريد أن نطبع الانسان العربي عليها .

ثالثاً ـ أن نرجع في أخلاقنا العربية الي تراثنا الماضي نستخلص منه الفضائل التي كانت سببا في نهضة الأمة العربية خلال عصور الازدهار .

رابعاً ـ أن نضيف الي هذه الفضائل ما يتلاءم مع العصر الحاضر ـ وبخاصة الانتقال من المرحلة الزراعية الي الطور الصناعي .

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور أحمد فؤاد الأهواني الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم