شهادات ومذكرات

زين الدين الخطيب.. وداعاً أيها المفكر المستنير

محمود محمد عليفي اليومين الماضيين افتقدنا رائداً من رواد الدرس الفلسفي في مصر المعاصرة، وأحد الأساتذة الجامعيين الذين يقومون بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خاصة، حيث قدم لنا رؤية جديدة تقوم علي تلمس نشأة التفكير الإسلامي الفلسفي في كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية ويدرسوها دراسة وافية، ودعا إلي البحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامي.

إنه الأستاذ الدكتور "زين الدين مصطفى زين الخطيب"، أستاذ الفلسفة الإسلامية المتفرغ بكلية الآداب – جامعة طنطا بجمهورية مصر العربية، وكان الدكتور الخطيب قد حصل علي الليسانس - (جامعة طنطا) - بتقدير جيد جدا - عام 1981، ثم حصل علي شهادة الماجستير في الفلسفة الإسلامية بعنوان " المذهب السلفي من النصف الثاني من القرن الثالث إلى منتصف القرن السابع الهجري (ابن حنبل 241 هـ 661 هـ ابن تيمية)"، عام 1986، كما حصل علي رسلة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية أيضا في موضوع بعنوان " المذهب السلفي من منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري ( 661 هـ ابن تيمية عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب 1242 هـ ))" عام 1989م.. وبعد ذلك أخذ يتدرج في المناصب الجامعية إلي حصل علي رتبة الأستاذية عام 2004م، وبعدها أخذ يباشر مهامه الإدارية إلي أن تولي منصب عميد كلية الآداب بجامعة طنطا .

كان الدكتور زين الدين الخطيب قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

لم يكن زين الدين الخطيب ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

كما جمع زين الدين الخطيب بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة، فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً، ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه في كل أحكامه، وأراءه وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين.

أضف إلي ذلك حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حفياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع.

وقرابة أكثر من خمسين عاما قضاها الدكتور زين الخطيب فى خدمة الفلسفة الإسلامية، فقد كان وأحدا من أعظم الأساتذة المصريين الذين نقدوا السلفية، فقد ناقشهم وكشف عيوب ومسالب فكرهم ؛ حيث رأي أن هذا الاتباع للسلف ليس مراداً ولا مطلوباً لمجرد أنهم سلف هذه الأمة فى الترتيب الزمنى بل لكونهم أحرى الناس بفهم كلام الله ومعرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم يؤكد الدكتور زين الدين الخطيب في رسالتيه  ( الماجستير والدكتوراه) بأنه حين يُذكَر الفكر السلفي، أو المنهج السلفي يطرق السمع أول ما يطرقه أهل الحديث، وهو مصطلح شاع في القرن الثاني الهجري - فيما أذكر- لا بالمعنى الاعتقادي بل بالمعنى العام الذي لا يفيد إلا اتجاها عاما يعتني بالروايات والجرح والتعديل والاستناد إلى المرويات في التلقي والاستدلال في مواجهة أهل الرأي؛ ثم أضحى بعد ذلك علَما على طائفة من طوائف المسلمين لها منهج معلوم، ومقولات محددة في العقائد، من خالف هذا المنهج وتلك المقولات لا يعد من أهل الحديث بهذا المعنى. لكنها لم تكن مقولات متوسعة في الاستدلال، ولم تؤسس على بنيان عقلي وفلسفي وكلامي تفصيلي. ثم في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع جمع أحد العلماء (المعروف بأبي بكر الخلّال) تراث الإمام أحمد بن حنبل في كتاب جامع، وأصبح للحنابلة مذهب منتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل، في الأصول والفروع، ومن وافقهم في الأصول يسمّى حنبليا بهذا المعنى وإن لم يأخذ بمذهب أحمد في الفروع؛  ثم جاء عصر ابن تيمية رحمه الله؛ فبرز بروزًا عظيمًا، وقام بدور هائل فريد لم يسبقه به أحد من الحنابلة في القديم، ولم يلحق به أحد منهم بعد ذلك، ولو شئت أن أقول إن إمام الحنابلة بلا منازع هو ابن تيمية لما أسرفت ولا تجاوزت الحدّ، لا من حيث سعة الكتابة والتأليف، ولا من جهة مقارعة المخالفين والخصوم، ولا من جهة البنية المعرفية الاستدلالية التي أستطيع أن أزعم أنها عمارة فكرية متكاملة قائمة على أصلَيْ العقل والنقل باتساع وتفصيل، ووسع دائرة نقد الخصوم، وكتب كتبا خالدة مطوّلة في الرد على الأشعرية (الخصوم التقليديين للحنابلة ثم السلفيين)، وعلى الاثني عشرية، والصوفية، والفلاسفة، وكتب كتابا معرفيا فذا في نقد المنطق الصوري (منطق أرسطو) في جانبيه وأساسييه: التصور والتصديق.

وعن كيفية هذا الاتباع زين الدين الخطيب بـ «أن اتباع السلف لا يكون بالانحباس فى حرفية الكلمات التى نطقوا بها، أو المواقف الجزئية التى اتخذوها، لأنهم هم أنفسهم لم يفعلوا ذلك، وإنما يكون بالرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص وتأويلها وأصول الاجتهاد والنظر فى المبادئ والأحكام، وليس اتباع السلف أن نعمد إلى كلمة السلف فنصوغ منها مصطلحاً جديداً طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي، فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة من المسلمين تتخذ لنفسها من هذا الاسم مفهوماً معيناً، بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك جماعة إسلامية جديدة فى قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف فى هذا العصر، تختلف عن بقية المسلمين بمزاجها النفسى ومقاييسها الأخلاقية، كما هو الواقع اليوم فعلاً.

كما يرى زين الدين الخطيب أن «اختراع هذا المصطلح (السلفية) بمضامينه الجديدة بدعة طارئة فى الدين لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأمة ولا الخلف الملتزم بنهجه، فالسلف رضوان الله عليهم لم يتخذوا من معنى هذه الكلمة بحد ذاتها مظهراً لأى شخصية متميزة، أو أى وجود فكرى أو اجتماعي خاص بهم يميزهم عمن سواهم من المسلمين، فقد كان بينهم وبين من نسميهم اليوم بالخلف منتهى التفاعل وتبادل الفهم، ولم يكن يخطر ببال السابقين ولا اللاحقين بهم أن حاجزاً سيختلق، ليقسم الأجيال الإسلامية إلى فريقين، يصبغ كلاً منهما بلون مستقل من الأفكار والتصورات والاتجاهات، بل كانت كلمتا السلف والخلف فى تصوراتهم لا تعنى أكثر من ترتيب زمانى كالذي تدل عليه كلمتا (قبل وبعد)".

وثمة نقطة أخري مهمة نود الإشارة اليها ألا وهي أن الدكتور زين الدين الخطيب كانت له أفكار مهمة في الفلسفة الإسلامية نذكر منها قوله أن :"الإسلام دين، والدين وحي، والوحي يقين وإيمان، والفلسفة علم ونشاط فكري وأداة تحليلية مصدرها الإنسان ومركزها العقل، ووظيفتها الأولي تدور حول عدم التسليم، وهناك وهم كبير لدى كثير من الناس بأن الفلسفة تتعارض مع الدين، وهو قول يقوم على غير ذي أساس، لأن الفلسفة هي نشاط عقلي يسعى لإدراك الكون الذي نعيش فيه، وتحليل العلاقة بيننا وبين هذا الكون، والدين بدوره يقوم بتفسير هذا الكون، كما يحدد كيفية تعاطينا مع الحقائق الموجودة فيه، سواء كانت مادية أم روحية.

وحول مصدر الفلسفة الإسلامية، فقد كان زين الدين الخطيب من المؤيدين لفكرة أن الحركة الفكرية لمدارس علم الكلام الأولى هي الأب الشرعي للفلسفة الإسلامية، التي استقت فيما بعد من ينابيع أخرى على رأسها فلسفة اليونان، وأن الفلسفة الإسلامية ماهي إلا فلسفة يونانية بلسان عربي، زينت بأفكار أخلاقية أملاها الإسلام، لكن هذه الإضافات لا تبدل جوهرها، ولعل أقرب الآراء للاعتدال القول إن الفلسفة اليونانية استمرت في المحيط العربي، مع ملامح جديدة للفكر الإسلامي.

وفيما يتعلق بموقف المسلمين من الفلسفة اليونانية يري زين الدين الخطيب بأن الفلسفة اليونانية كان لها تأثير في غير العلوم الطبيعية والرياضيات «الفقه، والكلام، والنحو، والتاريخ، والأدب». فمثلًا الخطابة لأرسطو والمنطق اليوناني عمومًا أثرا في النحو العربي والبلاغة بشكل واضح، فالجاحظ، مثلًا، أدخل أشكال القياس المنطقية في أساليب البلاغة. وقد كان التأثر العربي إيجابيًّا متفاعلًا؛ إذ أضاف العرب إليها إضافات ضخمة أصيلة ومبتكرة، ومن ثم أسسوا منها علومهم الخاصة.

وفي نهاية هذا المقال أقول : تحية طيبة لزين الدين الخطيب الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله الدكتور زين الدين الخطيب، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت إمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم