شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: فرانز فانون .. المفكر الأممي الذي ارتدى معطف التاريخ (2)

محمود محمد عليالثورة الجزائرية لم يخدمها مثقفوهـا فقط، وإنما هناك مـن الفرنسيين سخر قلمه وعمله للوقوف مع شعب جرد من حقوقه منهم “فرانز فانون” ومـن هنا جاءت رغبتنا تسليط الضوء علي فرانز فانون تلك الشخصية العظيمة التي لا يعرفها الكثير من الشباب، وهنا في هذا المقال نكمل حديثنا فنقول :" في 1960 صار سفير الحكومة الجزائرية المؤقتة في غانا. توفي فانون عن عمر يناهز الـ36 بمرض سرطان الدم ودفن في مقبرة مقاتلي الحرية الجزائريين. يعد أحد أبرز من كتب عن مناهضة الآخرين في القرن العشرين. ألهمت كتاباته ومواقفه كثيراً من حركات التحرر في أرجاء العالم, ولعقودٍ عديدة. آمن فرانز فانون بأن مقاومة الاستعمار تتم باستعمال العنف فقط من جهة المقموع، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة (16).

وتوفي فانون في الحكومة الجزائرية المؤقتة صار سفير 1960 وفي عن عمر يناهز الـ 36 بمرض سرطان الدم ودفن في مقبرة مقاتلي الحرية الجزائريين، ولم يعش ليرى بنفسه تحرر بلده بالتبني من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وهو شيء كان يعتقد أنه أصبح أمرًا حتميًا. وكان هذا المفكر الراديكالي والثوري قد كرّس نفسه وجسده وروحه للتحرر الوطني الجزائري، وكان يُعَدّ مرآة من خلالها فهِم عدد كبير من الثوريين الموجودين في الخارج الجزائر، وأحد الأسباب التي ساهمت في أن تصبح البلاد مرادفًا لثورات العالم الثالث.

وقد قال فرانز فانون وهو على فراش المرض، قبل وفاته: “ما أريد أن أقوله هو أن الموت يلازمنا دائما، فليست المسألة هي كيف نهرب منه؟، لكن ما إذا كنا حققنا أقصى ما نستطيع للأفكار التي عملنا من أجلها. والذي يهزني حقيقة في سرير مرضي ليس حقيقة أنني سأموت، لكن أن أموت بمرض اللوكيميا في واشنطن، بينما كان يمكن أن أموت منذ ثلاثة أشهر في مواجهة الاستعمار الفرنسي (17).

وكان "فانون"، قد نمّى روحه النضالية وموهبته للكتابة، من خلال احتكاكه بالشاعر البارز والمختص في قواعد اللغة الفرنسية، إيمي سيزار، الذي يعتبر من المناهضين البارزين للاستعمار والتمييز بين الشعوب والأعراق، وتوفي بعد صراعه مع مرض سرطان الدم، ودفن بمقبرة مقاتلي الحرية الجزائريين، تنفيذاً لوصيته التي سجلها بالجزائر، حيث عاش فيها، وظل يحلم على أرضها بأمرين: استقلالها، ووحدة كل الأفارقة (18).

إن المتمعن في تطور كتاباته يجد فيها تفسيراً لكيف ولماذا أصبح فرانز فانون شخصية ملهمة في منظري الافكار الثورية و الأخلاقية لحياة الشعوب , ولهؤلاء المناضلين الذين يواصلون العمل من أجل العدالة الاجتماعية للمهمشين والمضطهدين علي مستوي العالم حتي يومنا هذا (19).

كما ألهمت كتاباته ومواقفه كثيرًا من حركات التحرر فى أرجاء العالم، ولعقودٍ عديدة، حيث كان من المؤمنين بأن مقاومة الاستعمار تتم باستعمال العنف فقط من جهة المقموع، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ومن مؤلفاته نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : كتابه "  بشرة سوداء أقنعة بيضاء، وكتاب "علم  اجتماع الثورة"، وكتاب " العام  الخامس للثورة الجزائرية أو سوسيولوجيا ثورة، وكتاب " من أجل أفريقيا"، وروايته " معذبو الأرض".. الخ. ولا يمكن التطرق لسيرة فرانز فانون دون الحديث عن دفاعه وفكره المقاوم والمستميت ضدّ الاستعمار، وهو الفكر الذي صقلته تجربة مقاومته للاستعمار الفرنسي في الجزائر؛ فقد آمن فرانز فانون بأنّ فكرة التحرّر من الاستعمار، هي حركة ذات طبيعة عنيفة تتخذ أشكالاً متعددة، أهمها المقاومة الثقافية، وهذه القناعة استمدها من تجربته الشخصية، فهو الطالب الأسمر القادم من جزر المارتنيك المستعمرة الفرنسية (20).

وفلسفة فانون مستمدة من تراكمات عاشها وعايشها، وكانت الإهانات التي تعرّض لها من طرف أساتذته في كلية الطب بمدينة ليون الفرنسية، بسبب لون بشرته، مدخله إلى دراسة الفكر الكولونيالي الذي قال عنه إنه يهدف إلى تشييئ تصوّر المستعمَر عن نفسه. (21).

وهناك العديد من العوامل التي أثرت علي فكر فانون  بدأت باستقطابه الأفكار الماركسية والأفكار الوجودية التي من شأنها أن تنشيء الحركات الراديكالية الرافضة للانقسام والسيطرة من قبل فصيل علي الاخر (برجوازية وبروليتاريا) , والذي اورده في مقدمة كتابه “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” المناهض للعنصرية بشتي أشكالها (22). .

لقد استطاع فانون أن يصل بأفكاره التحرّريّة إلى جميع أنحاء العالم، ويؤثّر في العديد من المجتمعات والشعوب بأفكاره التحررية ونقده لوضع مأساوي كارثي سببه الدول الاستعمارية التي تدعي أنها تصدر الحضارة والديمقراطية لمستعمراتها وهي في الواقع تسبب لها الجهل والفقر والأمية. كما كانت كتاباته وأفكاره خارطة طريق لحركات التحرر وقوى محاربة الظلم والاستبداد والاستعمار في جميع أنحاء المعمورة. من خلال كتاباته حارب فانون الاستلاب والاغتراب والذوبان في الآخر، أي المستعمِر الذي عمل جاهدا على محاربة الثقافات الأصلية المحلية وفرض ثقافته وقيمه والتي هي في الأساس أنظمة وقيم لا تصلح إلا لموطنها الأصلي، إن كانت تصلح أساسا (23) .

وقد كان الحل الوحيد للخروج من الاستعمار من وجهة نظر فانون والتي أوردها في كتابه “معذبو الأرض” هي العنف فهو يري أن العنف هو السبيل الأوحد للقضاء على الاستعمار (24) ؛ فهو يري أن الجلوس على موائد التفاوض لن يكون إلا في صالح بروز استعمار جديد تمثله البرجوازية الوطنية والتي ستحكم بعد الاستعمار وتكون ذراعاً له , ومن خلفها جماهير ذليلة ضاعت هويتها في غمار الثقافة الاستعمارية التي فرضت نفسها (25)؛ ويقول فرانز فانون: “أنا أريد شيئا واحدا، ألا وهو نهاية استعباد الإنسان للإنسان، واستعباد الآخر لي، ذلك سيضمن لي أن أكتشف وأن أجد الإنسان في أي مكان يكون”، وبهذا أعلن وقوفه ضد المستعمر الفرنسي (26).

وقد ذكر فرانز فانون في هذا الشأن  “إن محو الاستعمار وهو يستهدف تغيير نظام العالم إنما هو، كما ترون، برنامج لقلب النظم قلبًا مطلقًا. ولكنه لا يمكن أن يكون ثمرة عملية سحرية أو زلزالًا طبيعيًا أو تفاهمًا وديًا؛ أي إنه لا يمكن أن يعقل، ولا يمكن أن قوتين تستمد كل منهما صفتها الخاصة من ذلك التكوين الذي يفرزه الظرف الاستعماري ويغذيه، إن التجابه الأول الذي تم بين هاتين القوتين إنما تم تحت شعار العنف” (27).

وأخيرا نجد أن فانون كان أكثر عنفا ودموية  في التعامل مع المستعمر حين نادي بالعنف المطلق والعنف المطلق هذا يقترب فكريا من سلوك الجماعات الإرهابية مثل “داعش” و “القاعدة”، ففانون لم يقتصر فقط بالمطالبة بالعنف إزاء المستعمر بل طالب باستخدامه ضد بعض الطبقات الموجودة في المجتمع في إشارة منه إلى ضرورة الاتجاه نحو شن الحروب الأهلية في المجتمعات الأفريقية حتي يتسني تحقيق توجهاته الماركسية التى يحاول إخفاؤها، إذا في النهاية يحمل فانون الكثير من المتناقضات الفكرية التى لا يمكن بأي حال من الأحوال تطبيقها في الدول الأفريقية حاليا (28).

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي أنه في كتابه " بشرة سوداء أقنعة بيضاء" يرى فرانز فانون أن الاغتراب تجربة فردية أولًا، وتجربة جمعية ثانيًا حين تمتد إلى تحنيط ثقافات عاشت آلاف السنين في نفوس أبنائها. وحيوية الثقافة، وبالتالي قدرتها على مقاومة الإفناء، مرهونة أساسًا بشرط معرفة أبنائها لماهية ذواتهم وماهية هويتهم. ويصبح ذلك مستحيلًا حين يتمّ إحلال أساطير الدونية الثقافية (التي يصنعها ويروّج لها المستعمِر) محلّ الوعي الجمعي عند أبناء البلد الأصليين. وهنا «لا تكون العنصرية رفضًا لجسد ابن البلد ونفسه فحسب، بل تنقلب إلى حكم عليه بعقدة الذنب الأبدية )29).

وكذلك تفاعل  فانون كثيرا مع أفكار الزنوجة، التي علمه إياها إيمي سيزار، الناقد الشهير في مارتينيك للاستعمار الأوروبي، مما شكل أفكاره  والتي كانت ممزقة في البداية بين كونه من ذوي الطبقة المتوسطة في مارتينيك الفرنسية وانشغاله مع الهوية العرقية التي روجها مفكري عصره (30) .

وبناء على فكرة الزنوجة اتجه فانون في فترة لاحقة إلى الإعتماد على أليات الزنوجة في البحث عن مرجع حضاري مناوئ ومنافس للحضارة الأوروبية لكي يعترف الاسود بذاته دون الحاجة إلي أن تفرض عليه ثقافة أخري برضخ لها؛ وتجلي ذلك في كتابه ” بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” الذي حاكي فيه فانون المؤثرات الإنسانية البالغة التعقيد للاستعمار والعنصرية على الدول الأفريقية وبناء على فكر الزنوجة اتجه فانون في مرحلة لاحقة إلى الإعتماد على أدوات الزنوجة في البحث عن مرجع حضاري مناوئ ومنافس للحضارة الأوروبية وفي هذا الاتجاه أولي فانون عناية واهتمام خاص بطبقة الفلاحين في الجزائر ودورها المحوري في الثورة الجزائرية بل وصل الأمر إلى اعتبارها الطبقة الثورية الوحيدة الموجودة في الجزائر، حيث أن عفوية القرويين (الريفيين) تدفعهم في الغالب إلى التحرك بعفوية شديدة دونما أي ترتيب من أي قوي سياسية وتقوم بمداهمة مراكز ومخافر الاحتلال وتقتلهم جميعا مما يؤدي إلى استنفار المستعمر ويرسل أرتال جيوشه إلى المناطقة الريفية من أجل وأد الثورة في مهدها إلا أنه في الغالب يفشل في القضاء عليها وتكون تحركات الريفيين متقدمة خطوة أو اثنين على أقل تقدير عن خطوات النقابيين وأعضاء الحركات الثورية (31).

يختلف الكثيرين حول فانون فمنهم من يراه بأنه مستقل الفكر لم يتم استيعابه في فكر معين من أفكار السائدة في أوروبا في تلك المرحلة التى عايشها فانون والبعض الأخر ينفي ذلك معتبرا أن فانون كان بمثابة شخص ملئ بالغربة الذاتية يحاول جاهدا أن يلقي نفسه في أي فكر أو تيار سياسي سائد في تلك المرحلة فمثلا في البداية تأثر بالزنوجة إلا أنه ما لبث أن انقلب عيها عندما انتقل بعد ذلك إلى باريس والجزائر وذلك لتأثره بأفكار معلمه الجديد بول سارتر بل قد يذهب البعض إلي اعتبار أن كتاب “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” ما هو إلا تجرمه حقيقية لأفكار إيمي سيزار عن الزنوجة، أما كتاب”معذبوا الأرض” فكان واقع تحت تأثير واضح من أفكار الفلسفة الوجودية والماركسية لبول سارتر، وأن الرأي الأخير الرامي إلى الدفع بعدم استقلالية فكر فانون هو ما يراه الباحث مناسبا لفكر فانون الذي غلبت عليه افكار الأخريين ولم يكن هناك أية استقلالية حقيقية في فكر فانون ولعل السبب في الدفع عند البعض بالادعاء بقول الاستقلالية الفكرية لدي فانون هو البروبجندا الإعلامية التى صاحبت فانون أينما ذهب حيث يعد فانون من المفكرين القلائل الذين قرروا التنازل عن جنسيتهم الفرنسية واعلان الانقطاع التام بالوطن الأم فرنسا لصالح قضية الاستقلال والتحرر الوطني كما أن البعض عادة ما يوصف فانون بأنه مفكر الثورة الجزائرية مثلما فعل روسو مع الثورة الفرنسية وهو الأمر الذي لانزال نلمسه إلي اليوم حيث أن العديد من الكتاب خاصة اليساريين منهم يحاولون بشتى الطرق الربط بين موجات الربيع العربي وفكر فرانز فانون (32).

هذه شخصية “فرانز فانون” المناضل والفيلسوف والطبيب الذي أمن بالإنسان الجزائري  وحريته فدافع عنه وضحى من أجله وأصبح يرى في نفسه جزءا من القضية الجزائرية وجزءً لا يتجزأ منها فاحتضنته بدورها الثورة الجزائرية لتبوئه المكانة التي يستحقها، وهو ما يؤكد أن الثورة الجزائرية لم يخدمها مثقفوها فحسب وإنما هناك الكثير من الفرنسيين من سخر قلمه وعلمه وحتى روحه للوقوف بجانب شعب جرد من حقوقه المشروعة (33).

 

أ.د محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – بجامعة أسيوط.

................

(16) شعبان ياسين: المرجع نفسه.

(17) فيصل شيباني: فرانز فانون.. الثوري الأسمر الذي رافع للثورة وآمن باستقلال الجزائر، أوراسر، 06/12/2020

(18) مختار بوروينة: فرانز فانون.. فرنسي كافح الاستعمار وحلم بحرية الجزائر-جريدة الاتحاد-الجمعة 9 ديسمبر 2016 14:13

(19) محمد عبد المجيد حسين، حنان ابراهيم امام المراكبي: ايديولوجية فانون واثرها علي فكره السياسي،  المركز الديمقراطى العربى..12. مايو 2019

(20) فيصل شيباني: المرجع نفسه.

(21) المرجع نفسه.

(22) محمد عبد المجيد حسين، حنان ابراهيم امام المراكبي : المرجع نفسه.

(23) محمد قيراط : فرانز فانون..الاستلاب..الاغتراب والثورة، الشرق، ١٠‏/١٢‏/٢٠١٦

(24) الوطن , “فرانز فانون , الرائي من بعيد.. قراءة في كتاب معذبو الأرض “, اخر دخول 3/3/2018 في 5:5 ص , متاح علي : http://www.wattan.tv/news/140277.html .

(25) المرجع نفسه.

(26) المرجع نفسه.

(27) المرجع نفسه.

(28) محمد محمود محمد الدابولي: فرانز فانون ومقاومة الإستعمار في أفريقيا : قراءة في جدلية العنف الثوري، المركز الديمقراطى العربى16. ديسمبر 2017

(29) محمد قيراط : المرجع نفسه.

(30)  Blake T. Hilton ,” Frantz Fanon and Colonialism: A Psychology of Oppression” , Journal of Scientific Psychology (Oklahoma : University of Central Oklahoma, VOL1 , 2011)P.45.

(31) طه طنطاوي، مقاومة الاستعمار في فكر فرانز فانون، رسالة ماجستير( جامعة القاهرة، معهد البحوث والدراسات الأفريقية، قسم السياسة والاقتصاد، 2009.

(32) محمد محمود محمد الدابولي: فرانز فانون ومقاومة الإستعمار في أفريقيا : قراءة في جدلية العنف الثوري، المركز الديمقراطى العربى16. ديسمبر 2017

(33) شعبان ياسين: المرجع نفسه.

 

 

في المثقف اليوم