شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: يوسف إدريس.. أمير القصة المصرية وتشيخوف العرب (1)

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من ذي قبل بأن أرض مصر خصبة غنية في كل مجال من مجالات الحياة، لها دور كبير في تطوير العلوم الإسلامية واللغة العربية وآدابها في العصر الحديث؛ حيث نهض الأدب فيها. وكانت مصر هي المنبع والمنهل للأدب واللغة العربية ، كما ظهرت فيها المدارس الأدبية التي كانت منهاجا لأدباء العرب، مثل مدرسة الإحياء والبعث، ومدرسة الديوان، ومدرسة أبولو. وبرز هناك عدد كبير من العلماء، والأدباء، والشعراء، والكتاب، والمؤرخين، وأصحاب الفلسفة، في العصور المختلفة الطويلة إلى عصرنا هذا والذين قاموا بخدمات جليلة في مختلف المجالات الأدبية من الرواية، والمسرحية، والقصة القصيرة وما إلى ذلك. ويرجع الفضل كله إلى أدبائها وكتابها في تجديد اللغة العربية ورقيها في العصر الحديث، بعد أن غزا "نابليون بونابرت" مصر عام 1798م. وهذه الحملة الفرنسية تسببت عن تطوير الأدب العربي الحديث في مصر بعد عهد طويل من الركود بسبب عدم اهتمام الخلافة العثمانية تجاه اللغة العربية وآدابها. وقد لعب هؤلاء الأدباء دورا حيويا في تطوير اللغة العربية وإيصالها إلى قمة الكمال.

وهناك أدباء مصريين لا تُنسى رغم الرحيل؛ فأعمالهم مازالت باقية لتحيي داخلنا الكثير بل تمنحنا الفرصة مرات لا تنتهى في اعادة اكتشاف تلك الشخصيات من جديد بين سطورها، ومن بين تلك الأعلام البارزة أمير القصة العربية يوسف إدريس الذى يمر علينا شهر أغسطس  الجاري حاملا نفحات ذكرى رحيل أمير القصة العربية بدون منازع واحد من الأعمدة الكبرى للثقافة المصرية والعربية الدكتور يوسف إدريس، فمنذ ثلاثين عاماً وما بين الثالث والخامس من شهر أغسطس لعام 1991 كان الرحيل الفاجع لأمير القصة المصرية والعربية يوسف إدريس ، وقد لا أكون مبالغاً ولو قلت وعن دراسة وإعادة دائمة لتأمل وقراءة وتقصي عالمه القصصي والروائي والمسرحي الشاسع الإنساني المصري ، الخاص والمنتمي بوعي للمهمشين في الريف المصري؛ حيث ولد في قرية البيروم، بمركز فاقوس، بمحافظة الشرقية في ١٩ مايو عام ١٩٢٧م. عاش طفولته معَ جدته بالقرية، ثم أكمل دراسته بالقاهرة، عمل كطبيب بالقصر العيني 1951-1960، حاول ممارسة الطب النفساني سنة 1956، مفتش صحة، ثم صحفي محرر بالجمهورية، 1960، كاتب بجريدة الأهرام، 1973 حتى عام 1982.

ورغم مرور أكثر من ربع قرن علي الرحيل إلا أنه مازال محتفظا بالصدارة ومكانة خاصة لم يستطع أحد أن يصل إليها في مجال القصة القصيرة، الأصعب كتابةً وتكنيكاً كونها حكاية في عدد قليل من الكلمات لها بداية ووسط ونهاية، فأعطاها روحا جديدة وكان مجددا لها من حيث اللغة والمضامين نقل القصة القصيرة العربية من موقعها الصغير إلى موقعها الكبير فأصبحت قصة عالمية، وقد لقب يوسف إدريس بأنه مفكر، وأديب مصري، من أبرز كتاب القصة القصيرة في الأدب العربي في العصر الحديث، وأشهر المجددين في فنونها، يتميز قلمه بالدقة والتركيز والتعبير المميز

وقد تميزت القصة عند يوسف إدريس بالواقعية والوصف وكانت انعكاس للواقع المصري فأبرز تركيب الشخصية المصرية واهتم في أعماله بحياة البسطاء والمهمشين الذين يصنعون تفاصيل الحياة اليومية فرسم لنا بانوراما تشريحية لفئات المجتمع المصري الفلاح الموظف العامل الطالب المثقف طبقة المعدومين من النساء والرجال فانتمى لمدرسة الواقعية النقدية.

كان يوسف إدريس غزير الثقافة واسع الاطلاع بالشكل الذي يصعب معه عند تحديد مصادر ثقافته أن تقول إنه تأثر بأحد الروافد الثقافية بشكل أكبر من الآخر.. حيث اطلع على الأدب العالمي وخاصة الروسي وقرأ لبعض الكتاب الفرنسيين والإنجليز، كما كان له قراءاته في الأدب الآسيوي وقرأ لبعض الكتاب الصينيين والكوريين واليابانيين، وإن كان مما سجله النقاد عليه أنه لم يحفل كثيرا بالتراث الأدبي العربي وإن كان قد اطلع على بعض منه.

هذا من ناحية أدبية وفنية وثقافية عامة ساهمت في تشكيل وعيه العقلي والأدبي، ولعل ممارسته لمهنة الطب وما تنطوي عليه هذه الممارسة من اطلاع على أحوال المرضى في أشد لحظات ضعفهم الإنساني، ومعايشته لأجواء هذه المهنة الإنسانية ما أثر في وعيه الإنساني والوجداني بشكل كبير، مما جعل منه إنسانا شديد الحساسية شديد القرب من الناس شديد القدرة على التعبير عنهم، حتى لتكاد تقول إنه يكتب من داخلهم وليس من داخل نفسه.

كان يوسف ادريس يعشق هواية تدمير التابوهات، وزلزلة المألوف، ويعتبر نفسه فوق أي سلطات سواء سياسية أو علمية تكون معلّبة القوالب الأيديولوجية الجاهزة، فتمرد على قواعد صنعته الفنية نفسها، وعلى قواعد ونحو وصرف اللغة العربية فقد خاصم سيبويه ولم يعقد صلحا ًمعه حتى يوم وفاته، ودخل كلية الآداب ولم يطق دروسها سوى ثلاثة أيام. وانتقده في هذه النقطة نقاد كثيرون وعلى رأسهم طه حسين، وحصل سجال ثري بينه وبين الناقد عبد القادر القط، أعلن فيه نظريته في اللغة الأدبية وبالأخص لغة القصة، فكتب في جريدة الجمهورية بتاريخ 13 أيار مايو 1960: "اللغة أي لغة لا تهبط على أبنائها من عالم الغيب ولا تتفجر لهم من باطن الأرض، ولكنهم هم الذين يخلقونها ويطوّرونها ويبدّلون فيها ويغيّرون، والقواميس والمعاجم التي وضعت للغتنا أثبتت ألفاظها لا على أساس أصلها وفصلها، ولكن على أساس أن العرب استعملوها لأداء هذا المعنى أو ذاك، أي أن اللغة العربية هي فقط اللغة التي يستعملها الشعب العربي بصرف النظر عن منشأ مفرداتها وعن التطور الذي يصيبها. ولو كانت اللغة العربية هي فقط اللغة التي وردت على ألسنة أجدادنا الأقدمين، لكان معنى هذا أننا نتكلم اليوم لغة أخرى".

وكان يوسف إدريس كذلك من أكثر الكتاب ارتباطا بالشارع والمجتمع يذوب في الشخصيات فيحولها إلى شخوص تتحرك أمامنا بحرفية شديدة نشعر بها تكلمنا وتلمسنا ونحن ننتقل بين سطور القصة فتخلق صورة ذهنية تظل محفورة في الذاكرة يفوح منها عبق إبداعي خالد يخلد ساطر هذه الجمل وهو ما جعله يتخطى بموهبته، حدود المحلية للعالمية وظهر هذا بوضوح في رائعته الحرام التي تعد من أعظم الروايات العربية وتحولت لفيلم عرض بمهرجان كان السينمائي الدولي عام 1965 وأثار إعجاب النقاد وروت السيدة فاتن الحمامة بطلة الفيلم رواية تختصر مكانة هذا المبدع فقالت أثناء العرض في كان لاحظت 3 سيدات يبكين بشكل هستيري وهو ما دفعها إلى سؤال إحداهن عن سر البكاء والتأثر ببطلة الفيلم وهي من بلاد بعيدة وواقع مختلف تماما فإجابتها أن كاتب الرواية قدم الإنسان بعيدا عن ظروف الزمان والمكان وأنا تأثرت بعزيزة أكثر من تأثري بجارتي التي تقاربني في الزمان والمكان لأنني عرفت ما بداخل عزيزة وشعرت بها ورأيتها من الداخل.

وقد خط بقلمه المبدع ثروة أدبية مكوّنة من عشرين مجموعة قصصية، وخمس روايات، وعشر مسرحيات، ومن أشهر أعماله القصصية الأولى "أرخص ليالي" التي أحدثت دويًا كبيرًا في الوسط الأدبي، مما دعا عميد الأدب العربي طه حسين للقول: "أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول "أرخص ليالي" على تعمق للحياة وفقا لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها وجعلته يشعر بأنه ولد نجما منذ اللحظة الأولى".

وبالفعل كانت مجموعته الأولى هي الشرارة التي أضاءت الطريق لظهور الأديب الكبير يوسف إدريس التي توالت أعماله القصصية والروائية والمسرحية المميزة بعد ذلك مثل "جمهورية فرحات" و"البطل" و"العسكرى الأسود" و"البيضاء" و"اللحظة الحرجة" و"المهزلة الأرضية"، "رجال وثيران" و"الفرافير" وغيرها من الأعمال الإبداعية التي مازالت قيد اكتشاف السينما المصرية التي لم تكتشف إلى الآن سوى 11 فيلماً أهمها "لا وقت للحب" و"الحرام" و"النداهة" و"العيب" و"حادثة شرف" و"ورق سيلوفان"؛  وفي 1954 ظهرت مجموعته أرخص الليالي.. وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

..........

مراجع المقال

1-وسيم أحمد : الدكتور يوسف إدريس أمير القصة القصيرة (1)، الأيام، العدد 9063 السبت 1 فبراير 2014 الموافق غرة ربيع الثاني 1435.

2- مى إسماعيل: أمير القصة العربية.. يوسف إدريس، جريدة الأهرام، نشر بتاريخ الثلاثاء 24 من ذي الحجة 1439 هــ 4 سبتمبر 2018 السنة 143 العدد 48119

3- محمد الشماع: فى ذكرى رحيله.. لماذا لم يحصل يوسف إدريس على جائزة نوبل؟، جريدة مبتدأ ، نشر بتاريخ 2021-08-01 12:26.

4-عاطف بشاي: يوسف إدريس بين الأدب والسينما، المصري اليوم، الثلاثاء 03-08-2021 01:33

5- محمد علي فقيه: الأديب يوسف إدريس.. تشيخوف العرب، المصدر: الميادين نت 1 اب 2017 20:26.

6-  مني احمد: يوسف إدريس حكاية مصرية جدا، صوت الأمة، الخميس، 26 أغسطس 2021  09:12 ص.

 

 

 

في المثقف اليوم