شهادات ومذكرات

عبد الامير كاظم زاهد: العلّامة السيد هاني فحص.. إطلالة تنويرية متوهجة من الوسط الديني

عبد الامير كاظم زاهد ترددت كثيراً قبل ان اكتب شيئا عن الصديق الفقيد العلاّمة السيد هاني فحص رغم اني كتبت اربع اطروحات جامعية وعشرين كتاباً وخمسين بحثاً علمياً، لاني حينما كنت إجالسه يمتلأ وجداني دهشة به، لانه لا يشبه رجال الدين تماماً ولا يشبه المسكون بقضايا الادب والجمال والفلسفة والتاريخ والحفريات المبتكرة في قضايا الوطن ومحن الفقراء فلقد كان يمتلك منطقا يتفرد به، و اظن ان المنطلق الذي كان يستمد منه السيد هاني ثراءه المعرفي متعدد ومتجانس وولاد وكان ابرزه تراثه الشيعي الذي لطالما كان ينطوي على تحمله للقهر والظلم على طول التاريخ ولا يزال

وقداعتمده وسيلة لاعادة بناء الانسان بدءاً من بناء ضميره وتحرير وجدانه، فلطالما جعلت المظلومية ذلك الانسان اداة لتحرير ذاته ومجتمعه وإحداث التغيير والسياسي والثقافي فيه، ولطالما ظهرت الاديان تحت لواء المظلومية في أبرز تجلياتها كحركة اجتماعية تعبر عن قوى مضطهدة او مهشمة وكان الدين وسيلتها للتحرير، فقد حررت اليهودية بني اسرائيل من قبضة وقسوة فرعون وكانت دعوة الاسلام وسيلة لتجميع القبائل العربية على حلف ديني مقدس للدفاع عن الانسان والحق، والمتتبع لتاريخ الاديان يجد هذه النزعة فاعلة في ذات السيد فحص متطلعا نحو صيرورة انسان كريم له حق الوجود وله بقية الحقوق الحضارية المكتسبة .

واذا كان الفكر الديني يحمل بين طياته ماهو رفيع وما هو محل جدل الا ان

السيد هاني فحص كان عقلا تربى على الفهم التنويري للدين فلقد إكتشف مبكراً انحيازه لخيار الايمان بالله ذلك الايمان الذي يستلزم الايمان بالقيم الانسانية وخيار التانيس والانسنة والانس بالانسان،

لقد كان ايمانه بالله عميقاً بالقدر الذي كان تضامنه مع الانسان عميقا وكلما كان الايمان بالانسان وحقوقه عميقاً كان اكثر قوة وفعلا .ويتواردفي خاطري ان خصوصيته اللاهوت الشيعي جعل المرموزفي وجدانه الأمام علي (ع) الذي لم يعرف تاريخ الانسانية نظيراً اخر له في تجسيده للقيم الانسانية وفي رؤيته المعيارية التي لاتفرق بين مظلوم ومظلوم كما لاتفرق بين ظالم وظالم ومن تلك مشاركة السيد هاني في انتفاضة مزارعي التبغ 1972 فقدكان ذلك منه فعلامبكراً، وعلى مستوى جماليات المفردة فمن يقرا ادبيات السيد هاني فحص يكاد لا ينفك من دهشته لما يشتمل عليه نصه من معانٍ ومضامين لا توجد الا بعد معاناة شديدة االوجدانية. وما تتميز به عبارته من سحر بالغ مرجعها تاملات عميقة في القران ونهج البلاغة وسحر البيان. 

ولو لم يكن السيد هاني فحص لبناني الجنسية، لكانت لي امنية ان يكون كذلك لانه عاشق للجمال ومجسد لذلك العشق.. كما هو لبنان الذي اختار ان يستريح على سفوح طبيعة ساحرة وعلى سواحل بحر مترامي الاطراف حتى انعكس جماله على اخلاق اهله وعلى قيمهم وظهر على لغة السيد هاني وتعبيراته الذي يغوص فيها في البديع ويتمرس في التوظيف الرائع لفضاءات المعنى في المفردة والتركيب والسياق

ولو لم يكن السيد هاني من جنوب لبنان المقاوم، لتمنيت ان يكون كذلك، لانه مشهد لا ينفك منذ عقود يبدو عقلاً مقاوماً ومدافعاً عما آمن به واعتقده وجدانه من حقائق اجتماعية وسياسية ودينية، ومن يمارس صلة قربى ثقافية مع السيد هاني فحص يجده سفراً يكتنز الكثير من الخلاصات المعرفية التي لايزال الناس في جدل على مقدماتها مثل العلاقة بين التشيع والعروبة فهو يؤمن ان الشيعة اكثر من غيرهم حماساً لعروبتهم.. ومنها ايمانه المطلق بضرورة التعدديات سواء كانت دينية او ثقافية، او منهجية، اوحتى وجودية .

وصراحة لاتزال دهشتي بهذا الرجل رغم لقاءاتي الكثيرة معه لاتنقص و لاتتناقص فانا لااخفيالقارئ انني اقف تائهاً امام قـلمة مندهشاً به لتنوعه او اولعمق ما يصدر عنه فلا يجتمع التنوع في المضمون والانسيابية في الاسلوب والعمق في التحليل الا في قلم انصهرت في مكوناته كل مقدمات العبقرية والابداع.3222 هاني فحص

ان نظرة سريعة على اصدارات السيد هاني تكشف لك عن هذه المزية.فتجدمثلا في عناوين كتابه ماض لايمضي نبرة حب مصاغة بطريقة قصدية مستفزة للفضول مثل (ذاكرة لغدنا) (ماضٍ لايمضي) (خطاب القلب) (تفاصيل القلب) وبنفس الوقت تجد مضامينها مملوءه بقلق المعرفة اضافة للسؤالات المفتوحة التي في ثناياها تجد لاهوت التنوير محركاً وجدانياً يكتنز قضاياه المقدسة (الحرية، الانسانية، التعدد، التشيع الانساني، الدعوة الى الانسجام الواعي التنويري مع التراث، التضامن مع فقراء العالم اجمع، الحقانية، العدالة، الحب، الايمان، التطلع الى الانسان المكرّم). وهكذا حباني الله تعالى ان اصطحب رجلا اسمه هاني فحص: الذي كان رجل الدين والاديب، والشاعر و القلم الساحر والصائغ الماهر للعبارة الجميلة المعّمدة ببلاغة السكاكي كلها،

وكان يفترض ان يكون الرجل رومانسياً بعيداً كل البعد عن السياسة واشكالياتها وجهلها وجاهليتها لكن من يقف على سيرة السيد فحص يجده ينصح كبار رجال السياسة في المشرق ان لم يكن في عموم العالم العربي نصائح التبر السبوك في نصائح الملوك، وحين تجده مع جموع الفلسطينيين تشعر انه يحترق من الداخل لان امة احرقها شرور البشر وكان معها طالما هي صاحبة القضية لانه انتقد دورهم بالحرب الاهلية اللبنانية فهو جزء من موضوعية منطقية صارمة . .

لقد كان السيد هاني على صلة مع ياسر عرفات وهوصاحبه او ثاني اثنين حينما رتب مقابلة له مع الامام الخميني، محاولاً ان يظهر ان حقيقة التشيع وثورة ايران الاسلامية اطراف مساندةً لقضية الشعب الفلسطيني كنموذج لقضايا الفقراء والمظلومين بالعالم اجمع

فوق ذلك فهو صديق شخصي للكثير من قادة الفكروالعلم واصحاب البصمات الكبيرة على عصورهم مثل اية الله الشيخ منتظري بما يحمل هذا الرجل من رؤية مستخلصة عن مراجعة جادة لقضايا العلاقة بين الانسان والسلطة.

لقد اختار فحص اولاً دوره كرجل دين ثم عرج الى دور الاديب المفكر وترقى الى رجل النصح والمشورة للقادة والسياسيين ثم استقر على ان يكون رجل االمؤسسات الاكاديمية لنوادي اللقاء والحوار وعضوية اكاديمية اهل البيت وفي كل ذلك لم يتخل السيد هاني عن دوره كداعية لدولة مدينة تحتكم الى القانون والمساواة والعدل وتعشق القيم الروحية في الاديان الحية وسيبقى العلامة هاني فحص داعية كبيرة لدولة المواطنة.

 

عبد الامير كاظم زاهد

 

 

في المثقف اليوم