تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

البانتولايم / قصي الشيخ عسكر

 الاختراعات العجيبة الفريدة التي قدمت خدمات جلى ليس لمجتمعنا وبلدنا فحسب بل شملت خدماته العلمية جل شعوب المعمورة لذلك جاءت وفاته غير المتوقعة خسارة كبيرة للبشرية وحقول المعرفة والعلوم.

و لاشك أنني قاومت رغبة جارفة تدفعني للقائه متعللاً بالفرق العلميّ الكبير بيني وبينه وكونه يسكن في منطقة محمية أشبه بالحصن أو المستعمرة الخاصة به وإن ترتيب موعد ما معه  لاستقبال باحث صغير مثلي يتطلب إجراءات معقدة قد تستغرق وقتا طويلا. تلك الأفكار جعلتني أؤجل مشروع اللقاء إلى أن أقدر علىاختراع جديد يضعني في دائرة  الشهرة والضوء عندئذ أسعى  لزيارة مَثـَلي الأعلى في العلم الدكتور " ود القلوب المحض ".

لكن الأحداث أبت إلا أن تجري على غير ما وضعته في الحسبان، ففي ليلة هادئة ازدهت بالقمر وتلألأت بالنجوم وغاب  مايعكر المزاج من برد أو مطر ورياح تلك الليلة  ضرب زلزال شديد الوطأة الجزء الشمالي من البلد حيث يسكن الدكتور " ود القلوب المحض " فدمر الجهة الأمامية من السن الصخري عند المنزل والسور وكأنه شمل البيت ومركز الأبحاث فقط  ليمتد بعدئذ إلى عمق البحر والأغرب من كل ذلك أن بلدنا بعيد كل البعد عن نطاق الزلازل المعروف على الأرض وحدوث هزة أرضية فيه يشبه وفق تقدير المراصد عثور تائه في صحراء مشمسة مترامية الأطراف على كأس ماء بارد!

هكذا خيل إلي وأنا أوقف سيارتي عند الحد الذي لم يلمسه الزلزال ثم أترجل وأسير باتجاه الساحل متحاشيا المنزل المهدم والبركة المائية. وكانت عيناي تقعان على مناظر أشد هولا من الرعب نفسه.أشلاء طيور وحيوانات وزواحف وحشرات..على بعد خطوات من البحيرة وأظنها بحيرة تجارب تشظى إلى قطع صغيرة حوت ضخم وانعجنت دماؤه وأحشاؤه بالرمال.. لو روى لي أحد المشهد لظننت أن في الأمر مبالغة  لكن رأيت أمورا أظنها أقرب إلى الحلم. خراب هائل حدث في بقعة صغيرة بسبب انفجار نووي لازلزال.

كنت أقف بين البحيرة المدمرة  وحافة الساحل، وعيناي تنتقلان متكاسلتين من مدى البحر الهاديء إلى القلعة الحطام فالبيوت المطلة على الغابة التي نجت من النكبة. كان الهدوء في هذه الساعة _ ساعة الغروب _ يلف المكان، فخيل إلي أن الزلزال حشر نفسه حشرا بين سكونين  لايشك أحد في هدوئهما: البارحة وجوها الدافيء الجميل ونورها الساطع الذي يغذيه البدر الكامل والليلة حيث هو الصفاء يتحرك والماء يمتص الضوء الهابط من السماء ويغري النجوم بالنزول فيه. كانت صورة القلعة  والمنزل ومؤسسة البحث تنطبع في ذاكرة الماء وقت صفاء السماء فتبدو كلوحة  رائعة تجتذب القلوب من بعيد  يراها الناظر ولايدري قط بما يجري حولها إلا حين يطل علينا الدكتور نفسه عبر وسائل الإعلام فيعلن عن كشف جديد ويبدو أن تلك الأسرار ماتت وذهبت في باطن الأرض ويوم أمس فقط أوقفت فرق الإنقاذ  عمليات البحث عن الدكتور نفسه بعد أن عرفوا أنه الضحية الوحيد إذ لم يكن معه  أحد غير حيوانات التجارب وتيقنوا أن من الصعوبة انتشاله من أعماق الأرض وسط كل هذا الحطام الهائل.

وحالما مالت الشمس في عمق البحر وصفا الساحل إلا  من أصوات نوارس كانت تنقض على بقايا جثث حتى خيل إلي أني اسمع نشيجا ما ... أنينا من جهة غير محدده أرهفت السمع فأدركت أنه قادم من جهة السن الصخري قرب نهاية البحيرة الشمالية من طريق الساحل.

هل يعقل أن يكون الدكتور نفسه؟

حدثت نفسي وحثثت الخطى وأنا أعجب من هذا اللقاء الذي جاء متأخرا في ظروف أبعد ماتكون عن المعقول!

هو نفسه الدكتور " محض القلوب " إذ ليس في القلعة المدمرة غيره لحظة وقوع الزلزال وثمت رغبة عارمة تدفعني في أن أجري واختصر المسافة .كادت قدمي تهوي بي في عمق الحفرة..كنت أقف وأنا الهث بين فتحة كونكريتية وسن النتوء الحاد والصوت الخافت يأتي من العتمة:

هل هناك من أحد يسمعني؟

نعم أنا هنا لاتتحرك.

أرجوك.

انتظرني لحظة.. لاتتحرك

وهرعت إلى السيارة . لم يكن بامكاني أن أفعل شيئا والظلام يخيم على النفق الجانبي المحشور بين السن الصخري.أحضرت كاشفا وعدت أدراجي ووقفت عند الجرف ثانية. ارتجفت يدي. تراجعت متشنجا بين الخوف والرهبة والفزع إنه ليس الدكتور " ود القلوب المحض ". كان ضوء المصباح يقع على جثة كلب يغطيه الدم والتراب. جثة حية تتنفس تئن وتبكي ترجو. كلب يصرخ ويهتف بصوت متهدج:

أرجوك أطلق علي رصاصة الرحمة أرجوك!

لا أبدا لن أفعل.

قلت ذلك ولما أتحرر من هول الصدمة بعد. أنا بكل ثقلي العلمي وثقافتي التي ترفض الخرافة وتنفي اللامنطق أقف أمام كلب. كلب يتكلم. إنسان كلب. هل أصبت بلوثة في عقلي أم الدكتور نفسه خرج علينا من تجربته الجديدة بعد الزلزال بشكل آخر عصي على التصديق؟

لحظات وقد استعدت رباطة جأشي وعدت إلى توازني من جديد.. كلب يتكلم بالتأكيد صورة من صور المنجزات العلمية وأثر ناج من آثار الدكتور. اقتربت بحذر وانحيت بقامتي إلى حيث القعر . رحت أستند إلى السن الصخري وأنا أحاول أن أجذب الكلب الناطق إلي ربما لو لم يكن يتكلم لترددت في أن أنتشله حذرا من أن ينقض علي بمخالبه أو تفتك بي أنيابـه. راح يصرخ بصوت عال مجرد أن لمست قائمته الأمامية. هناك رضوض في قائمته الخلفية اليمين. وكسر في يده اليمنى.رائحة دم متخثر أسفل منخره لكن تنفسه كان يجري على مايرام. نظر إلي بعينين ذابلتين مستسلمتين كأنه يتسول إليّ ويرجوني فخففت نظراته المتوسلة من قلقي وظل  اللغز وحده يرتسم أمامي على الرغم من تلاشي الخوف والصدمة والذهول. قلت :

هل أنت الدكتور " ود القلوب".

أجاب بصوت متهدج:

أنا أحد تجاربه.

وازدادت حدة اللغز في ذهني. رحت أتمايل من ثقل الكلب وتحاشيت ما استطعت أن ألمس قائمتيه المعطوبتين لئلا يصرخ أو يأتي بحركة تؤذيني:

إنسان ممسوخ؟

فأجاب بصوت خافت :

بل كلب ممسوخ كلب حقيقي.

اقتربت من السيارة وقد بلغ بي التعب منتهاه ووضعته بحذر في المقعد الخلفي.

 

2

تلك الليلة لم أستنطق الكلب مراعيا الإنسان في داخله هيأت له ظروف الراحة ومستلزمات العناية وأول ما عملته له البدء في تضميد جروح عميقة أصيب بها من تناثر الصخور في النفق وقت الزلزال وعالجت  كسورا أصابت  مناطق غير حساسه من جسده. وفرت له من طعامي الخاص. لم أفكر قط أن هناك كلبا يشاركني السكن وهو معي في غاية الصفاء.قلت له لتتكلم الآن. لكني يجب أن أعرف فأنت طلبت مني أن أنفذ رصاصة الرحمة بك. أنا الآن وحدي معك بمخالبك وأسنانك تستطيع تمزيقي فهل أنت حقا " ود القلوب المحض " أم شخص آخر؟

فقال ساخرا:

ماذا تعرف عنه؟

مخترع عظيم كان يطل علينا بين فترة وأخرى بإنجاز ينفع البشرية وأضفت  أنا شخصيا كنت آمل لقاءه يوما ما !

قهقه بصوت خافت وتساءل:

وماذا عن إنجازاته المدمرة؟

كنت أحلم بلقائه فقط هل تصدق ذلك؟وأردفت قبل أن أنتظر الجواب: إلى هذه اللحظة أظن أنه أنت وأنك تختفي بالصورة التي أراك عليها.

إذن أصغ إليّ جيدا بإمكانك أن تصبح كبيرا عبر تجربة عثرت عليها مصادفة  فأنا واحد من مجموعة خضعت لتجربة الدكتور الفريدة أنا وأسد وحوت وعجل وفيل  كلنا نتكلم لغة الإنسان ونفكر تفكيرة من دون أي نقص.

ياه كيف تم ذلك؟

هو الوجه السلبي الآخر للدكتور والروح الشريرة فيه لقد تمكن من معرفة أن البانتوليم هو العامل المشترك بين الكائنات الحية الحيوانية على الأرض فطوره في مرحلة لاحقة لمادة أخرى سماها البانتولايم التي تجعل الحيوان يفكر وينطق بمستوى الإنسان.

هاهو الحيوان ينطق والدكتور تحت الأنقاض يثبت أن الإنسان انفرد بهذا التعريف قرونا طويلة وما عليه الآن إلا أن يجد له تعريفا آخر بل أنا بالذات أقف خجلا أمام نظرات الكلب:

كنا صغارا لانعي شيئا وكنا في جنس الحيوان وحده ثم حقننا بالبانتولايم فأدركنا آدميتنا وتعلمنا اللغة وكنا نعاني كثيرا من ذلك.

هل كان على احتكاك مباشر بكم ؟

أبدا كان يحجز الأسد والفيل والثور كلا منهم في أقفاص  محكمة الغلق والحوت في حوضه الخاص ولايقترب من أي  منا إلا بعد أن يخدره !

الحوت التي تبعثرت جثته وانقضت عليها النوارس كان يتكلم كان إنسانا مثلي يفكر يضحك في لحظات. ما أصعب أن نختصر الزمن بزلزال يدوم لحظة أو أقل. الحكمة اليونانية تهاوت أمام قدمي وتشظى منطق أرسطو وتعريف الاشياء بأجناسها وخواصها. إني أقف أمام كلب واسأله:

ماذا عنك أنت ؟

كنت في قفص. لم يأمن لي ايضا فتركني في الأسطبل مع حيوانات أخرى اقتناها لتجارب جديدة وكانت الأرض  تحتي هشة فاستفدت من مخالبي في الحفر واستندت إلى ماعندي من عقل في التورية والاختفاء والمكر والدهاء.

لكن لـِمَ تبنى الدكتور فرضية أنكم تهاجمونه بدلا من أن تشكروه ؟

كنا نعاني. أنا شخصيا أملك عقل إنسان وجسد كلب .جسدي .. تغريني النساء الجميلات وأفكر  بأكلات نظيفة في الوقت نفسه  تفرز معدتي إفرازات لاينفعها إلا الجيف والفئران والقاذورات ويستاف أنفي كلبة على بعد فتعتريني رغبة في سفادها أمرأة وكلبة وطعام شهي وجيفة وأنا عقل في جسد كلب.

كان صوته يتهدج ويميل شيئا فشيئا إلى الحدة فتراجعت نحو الخلف أتحسس سلاحا قريبا مني  واضعا في حسباني أن الحياة المتناقضة التي يعانيها تدفعه إلى أن يظن السوء في البشر جميعهم فقلت بصوت دافيء بعث الراحة والهدوء في قسماته:

أنا أريد أن أساعدك أما أن تكون إنسانا أو كلبا فأن عقلك الطبيعي يرفض جسدك وأحشاءك الداخلية تفرز حوامض لاينفعها إلا ما اعتاد عليه الكلاب كذلك غريزتك القديمة والحالية كل هذا يتطلب مني أن أعرف كيف نجوت من الزلزال؟

قال وهو يعود إلى هدوئه:

كنت أستدل برائحة أنفي فأعرف أن البروفيسور ذهب إلى غرفة النوم أو أراه يخرج من القلعة إلى المدينة عندئذ أدخل إلى مختبره فأبذل جهدي في نسخ بعض برامجه من الأقراص أو تصوير مدوناته على الورق وكنت أعاني كثيرا لأني لا أملك يدين مثل الإنسان ولا أستطيع أن أمشي على رجليَ وحدهما مسافات طويلة ثم أتسلل إلى الجرف الصخري هناك قرب الحفرة التي وجدتني فيها أواري المسروقات.

ولم  لجأت إلى هذا العمل؟

فتأمل وجهي لحظات وواصل:

أنا أفكر بعقل إنسان ربما أجد متسعا من الوقت للاطلاع على أسرار الدكتور فأتخلص من جسدي أو من عقلي أو أفكر بالانتقام؟

الانتقام؟

نعم أحفر  من تحت السور وأتسلل لأكون أنا بلساني الآدمي الناطق وجسدي الحيواني والملفات معي شواهد على وحشية "ود القلوب المحض" ووجهه الآخر !

ألم تفكر  أن تمر على الآدميين الحيوانات فتحدثهم عما في نفسك؟

لم يكن بإمكاني أن أفعل ذلك فأقفاص الأسد والفيل والثور تقع عند بحيرة الحوت هناك الأرض صُبَت من البلاط الصلب وهي محاطة بسور لكني كنت أعد نفقا معتمدا على مخالبي وقابلية أنفي على الشم حتى وصلت إلى الباحة المجاورة للسور الداخلي وقتذاك كنت متسللا للعودة بعد أن أخفيت الأقراص والأوراق وعند عودتي  حدث الزلازال العظيم ولم اشعر إلا والأرض تهتز والصخور تتناثر علي داخل الحفرة فغبت عن الوعي حتى قدمت أنت؟

هل أنت متاكد من أن الدكتور كان في المنزل لحظة وقوع الزلزال؟

بالتأكيد كان نائما!

إسمع ياصديقي أنا أعدك أني سأبذل جهدي لمساعدتك حسنا أن هناك سورا منعك من الدخول إلى المدينة وإلا لعدوك مسخا وأعدموك قل لي بصراحة هل ترغب في أن تكون كلبا كاملا أو إنسانا كاملا؟

فقال بعينين متوسلتين:

تعرف أني أتحدث معك الآن بعقل إنسان فهل تقدر أن تحررني من جسد الكلب؟

لابأس شرط أن تعدني أنك تبقى هادئا ولاتثير المشاكل.

 

3

وفرت له كل وسائل الراحة وكان يتماثل للشفاء من جروحه  خلال وقت قياسي..أفهمته أننا صديقان وتخليت عن دور المحقق. لقد تركت أسئلتي تأتي على سجيتها فلست واثقا من مشاعره بعد. هناك تناقض تام بين مستوى تفكيره الراقي والأنزيمات التي تفرزها معدته الأمر الذي جعلني أحقنه إبرة طويلة الأمد من مضادات الكآبة والهستيريا محاولا أن أبعده عن أي تشنج وهستريا تفقده صوابه فتدفعه لمهاجمتي. ومازال هناك سؤال جوهري يدور في ذهني لـِمَ أقدم الدكتور " ود القلوب المحض " على هذه التجربة؟

ماالفائدة حقا من أن نجعل ثورا يفكر كالإنسان؟

من خلال علاقتي بصديقي الكلب الإنسان عرفت أنه لم يطلق عليه أي اسم ولم يسم أيا من مخلوقاته البشرية الحيوانية بل تعامل معها بالأرقام وفق الحجم أصغرها صديقي حمل الرقم 1 ثم العجل الرقم 2  فالاسد 3 فالفيل 4 ثم الحوت الرقم 5. هكذا رتب الأمور وحين سألني صديقي عن أي اسم أفضل أن أطلقه عليه أجبته أن الوقت مازال مبكرا ووعدته أن أحقق رغبته حالما أحل مشكلة جسده الغريب، والواقع كان ذهني في تلك اللحظة بعيدا عن أي مسمى بل تجاهلت أن أسأله أي اسم يختاره هو له.

صحبته معي في السيارة إلى مكان الزلزال. ترجلنا على بعد أمتار ورافقني وهو يشتم الأرض إلى المنحدر الموازي للحفرة. كان من المحال علي الوصول فالشق الضيق الذي زاده الزلزال ضيقا يتشكل من زاوية حادة ليس بمقدور آدمي الوصول إليه، واستفاد الكلب من مرونة جسمه على الرغم من أن أعضاءه لما تتعاف بعد. ولحرصي الشديد على الأقراص والأوراق رحت أزور المكان كل يوم مع الكلب وأقضى هناك ساعات طوالا في مراقبة الموقع خشية من أن يتعرض للسطو من قبل الفضوليين مع كونه بعيدا عن البيت والمختبر والبحيرة تلك الميزة ابعدت عنه إلى حين اهتمام رجال الإنقاذ وفضول اللصوص. كان من الصعب علي أن أحشر نفسي في الشق. .نعم رأيت ترددا يطرأ على جسد الكلب بفضل وازع الخوف الذي يمليه عليه عقله البشري غير أنه سرعان ما اندفع بخفة مذهلة . غاب لحظات ثم عاد وفي فمه بعض الأقراص والورق وكان يضعها بين يدي!

كنت أدرك تماما أني أكتشف للمرة الأولى أسرار القلعة التي تمتد شظاياها تحت قدمي حتى تتجاوز الساحل والسن الصخري إلى البحر وتضيع بعض أحشائها في بطون النوارس والجوارح التي لما تزال تنقض على بعض ماتناثر منها خارج الأنقاض من طير وحيوان!

ونسيت في المنزل كل شيء .. كل شيء تماما ماعدا الأقراص والملفات المهمة التي تحكي بعض أسرار القلعة ومختبرات الدكتور " ود القلوب المحض" والحق إني فوجئت بابتكاره الجديد البانتولايم وعرفت سر تركيبه لكن السبب في إصراره على تلك التجربة ظل مجهولا إلى أن اطلعت على ملف الأوراق.

هل يستطيع الإنسان أن يأكل لحم ماينطق ويفكر مثله. الإنسان حيوان ناطق! هل يستطيع أن يأكل نفسه ؟ إنه الجسد إذن" عبارة وضع تحتها خطا أحمر. في هذه التجربة بان وجهه الآخر المدمر. انصرف ذهنه إلى المادة والربح، وفق مذكراته يعترف أنه من خلال هذه التجربة يحاول أن يجتمع بمجموعة الشركات المهيمنة على أسواق لحوم البقر والخرفان والخنازير فيلوّح  لهؤلاء أنهم إن لم يرضخوا لشروطه فسوف يطلق مئات من الحيوات التي بإمكانها الحديث عندئذ سيصاب العالم بهزة نفسية. صدمة قاسية.  أي شخص لايمكنه أن يتخيل نفسه يأكل لحم حيوان يفكر وينطق مثله، وخيل إلي أنا نفسي كيف أواجه في حديقة الحيوانات مخلوقات داخل الأقفاص تتحدث معي تناقشني وترجوني. إنها صدمة نفسية تهز العالم من أقصاه إلى أقصاه.

لكن التجربة الثانية كانت كفيلة بالقضاء على حلم الدكتور فهو لم يتوقع قط أن يفاجأه الاختراع  الجديد بردة فعل  تدفنه هو وحيواناته الناطقة ماعدا مخلوقا واحدا يرقد الآن في الغرفة المجاورة لمختبر الأبحاث الخاص بي داخل المنزل.

في السنوات الثلاث الأخيرة راح الدكتور " ود القلوب المحض " يراقب الأعاصير المدمرة التي تهب من الأطلسي إلى سواحل الأميركيتين وتخلف خرابا ودمارا كبيرين. كان يدرك -  شأن أي عالم موسوعي خبير - أن الأعاصير تحدث حين تسخن كتلة هائلة من الماء في المحيط فيتحرك الهواء بين الأجواء الباردة و الحارة، من هذه الفكرة انطلق الدكتور في تجربته الوادعة المرعبة تلك. التجميد ثم الحبس. خطوتان متعاقبتان.الماء الساخن على سطح المحيط ممكن أن يتم تأيينه وتحريره عبر تحليله من آيوناته وسحبه إلى الأسفل ثم يتم حبسه في القاع البارد فتتكون هناك مستعمرات من الكتل الحارة التي خضعت لعملية التبريد والتأيين، وهكذا يتم التحرير والحبس فتحدث دورة بين القاع والسطح. أما التجربة العملية فقد شملت رقعة من البحر المجاور للقلعة تمتد إلى بضع كيلومترات في العمق المائي..كيلومترات كان الدكتور يجري عليها تجاربه كل يوم وتخضع لمراقبته وحده بحكم قربها من مكان سكنه ومختبراته.

الشيء الوحيد الذي غفل عنه الدكتور - ولو كنت مكانه لما انتبهت إليه أيضا - هو أن تلك الآيونات المحبوسة يمكن أن تتحرر حالما تجد الفرصة المناسبة فإذا ما تحررت ولـّدت قوة ضغط هائلة وأحدثت زلزالاً مدمرا وهو ماحدث أخيرا للقلعة والسن الصخري  ومن حسن الحظ أن الرقعة لم تكن واسعة وإلا لتعرضت المدينة بكاملها إلى دمار تام.

هناك قارتان سأفرض عليهما التجربة الجديدة.

كان يهم أن يجعل العالم آمنا  وربما بفضل اختراعيه هذين يصبح الشخصية العالمية الأولى. فرد واحد يهيمن على الأرض بدلا من شركات ومؤسسات قليلة لكن ماغاب عن ذهن الدكتور " ود القلوب المحض " وقتها أن العالم خارج نطاق الأرض يمكن أن يتدخل بصيغة أقوى من تجاربنا نحن. هذا الأمر اكتشفته بعد حدوث الزلزال الذي دمر القلعة. هناك إشارات وضعها الدكتور جانبا ولم يعرها أي اهتمام يمكن أن أصفها بكلمة التأثير الجانبي السلبي المخفي لأي اختراع من قبلنا نحن البشر.

من الليلة الصافية تلك إذ القمر يقترب من الكمال ليلة الرابع عشر  راح  يشد البحر إليه بجاذبيته. ظل الماء ينشد نحوه  وكانت أشعته الذهبية الساطعة تلامس سطح البحر ثم تنفذ إلى الأعماق. بدا في الليالي السابقة الميزان متوازنا بين شد البحر للماء وكمية الضوء والكتلة على السطح وحين سقط الضوء على السطح ولم يكن الماء بمستوى التوازن  ظل الضوء يتسرب إلى العمق  حيث الآيونات المحبوسة التي تفاعلت مع الاشعة فتحررت من سجنها.

إنها تشبه مائة وحش مفترس انطلقت من حبسها على جسر خشبي  ضعيف!

النتائج السابقة توصلت إليها بعدما قمت بتجربة التأيين على نموذج مصغر من الماء في منزلي وعرضتها لقمر مكتمل فوجدت أن الضوء الساطع الهابط من السماء يتسلل ببطء إلى الاسفل نحو الماء البارد حين لايجد مايتوقعه على السطح  وهي الحالة الطبيعية التي ألفها منذ ملايين ملايين السنين. كانت الآيونات السماوية تتسرب إلى العمق وتغازل الآيونات المحسبوسة في عملية أشبه بانجاذب الحمام وقت المزاوجة فتتحد مع الألكترونات الأسرى وتحررها وعلى الرغم من صغر المكان عندي إلا أن الآيونات المحررة ضغطت بحركتها البطيئة على حوض التجربة  فأحدثت به بعض الضرر ولو وسّعت التجربة ذاتها إلى مكان في البحر بحجم المكان الذي اختاره الدكتور " ود القوب المحض "  لتجمعت لدينا ملايين الآيونات والخلايا الأسرى التي يمكن أن تنطلق حالما تسطع السماء بالقمر !

هكذا ضرب الزلزال المحدود القلعة والجرف والسن الصخري في مكان بعيد كل البعد عن نطاق الزلازل  المعروف  للعالم واختفت الحيوانات الناطقة تحت الأنقاض ومات الرجل الذي أراد احتكار لحوم العالم وإخضاع الاعاصير ولم يبق من أثر لتلك التجربة سوى كلب مسكين يتكلم عن جمال النساء ويـُرغَم  من جسده على السفاد ويدفعه الجمال في أن يأكل أطايب الطعام في الوقت نفسه تنجذب معدته للجثث!

أما أنا فلم يكن بمقدوري أن أرجع به للوراء. من المحال وفق ما رأيته من تركيب عجيب اتَبعه الدكتور قبلي أن أقفز به حلقة بيولوجية إلى الماضي أو أجد له جسدا آخر يوافق عقله الآدمي،والأدهى من كل ذلك أن البانتولايم دخل في  سلسلة عالم الوراثة الخاصة بالحيوان الناطق إذ يمكن لحيوانين ذكر وأنثى تعرضا للبانتولايم  أن ينتجا سلسلة من الأبناء والأحفاد تحيي الجنس نفسه كما هو الحال عند البشر والحيوان بالتالي يمكن أن نطلق في الشوارع والبيوت وحدائق الحيوانات  والغابات مخلوقات مزدوجة بعقل إنسان وأجساد حيوانية مما يخلق اختلالا بيئيا يصعب التكهن بنتائجه.

كذلك ليس من الائق أن أحبسه أو أطلق سراحه ولا أن أجعله مدمنا لمهدئات تنسيه واقعه العجيب  وفوق كل ذلك أخشى أن ينتبه يوما ما إلى جريمتنا نحن البشر بحقه فينقض عليّ!

بهذه الصورة حسمت الأمر.....

كان يغط بنوم عميق على السرير اللائق الذي وفرته له في غرفة جنب مختبر أبحاثي.تأملت وجهه وأنفاسه وكان صوته يعبر إلي من الحفرة إذ عثرت عليه أول مرة ويهتف متوسلا :

أطلق علي رصاصة الرحمة أرجوك.

نسيت تماما وعدي السابق له، وصوبت المسدس إلى رأسه وعيناي مغمضتان دون أن أجرؤ على النظر إليه وبقتله اختفت آخر تجربة للعالم " ود القلوب المحض " الذي كان يرغب في أن يصبح الرجل الأقوى على كوكب الأرض!.

 

قصي الشيخ عسكر

5/11/2009

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1442 الثلاثاء 29/06/2010)

 

في نصوص اليوم