نصوص أدبية

الحائر / مسلم السرداح

دونما تاريخ ولا أي ذكريات، عبارة عن دهليز ضيق يتفرع عن دهاليز عديدة بجدران سوداء سميكة صلدة، تشبه مستشفى محترقة بنيت منذ زمن بعيد على طراز الزقورات السومرية التي تتسع جدرانها لاحتواء عربة، مع حصانها القوي، الجامح، وكامل حمولتها، في تحدٍّ غاضب للزمن . وانا وحدي هنا فيها غير معنِي بأحد، ربما كنت حارسا او عاملا او أي شيء اخر بمهمة او بدونها في هذا المكان المهجور الا من نفسي - لاادري - .

أحسست بالبرد يجتاحني . فكرت في ان أغطي جسدي ولكن من أين لي بغطاءٍ يكفي ليكون ساترا لي؟ . وتراءت لي اصواتٌ لاعهد لي بها تختلط وانفاسي . وتساءلت ياترى ما تكون؟ ولمن؟ ااعداء، ربما جاءوا هنا الان ليزيدوا حيرتي، او للاستحواذ على المكان الذي يحتويني مع اشياء مهمة لااعرفها او نسيتها . انا بحاجة الى سلاح . كان عندي سلاح نسيت اين وضعته في غمرة انشغالي في هذا الدهليز الذي سيغمره الظلام الدامس بعد حين فيضيع في عتمته كل شيء الا الشعور بالضجر .

تحسست وجهي . كا ن يجب عليّ ان اتاكد من وجود جسدي هذا، للتعرف على مدى متانته، ومن ثم التعرف على  طبيعة المكان الذي انا فيه، اذ من غير المنطقي ان اظل انتظر المكان يفعل فعلته بي وانا لاشيء عندي سوى ردة فعلٍ قد لايتسنى لي امتلاك ما ياتي بعدها . فالبرد والخوف وعما قريب سيكون هناك عطشٌ وجوع وغربة وانا لا اعرف ايّ شيء عنّي، وعن طبيعة هذا الدهليز المفازة الذي وضعت فيه عنوة لاادري كيف او متى ولماذا؟

فكرت ان ابدا من حيث المكان الذي انا فيه قبل حلول الظلام الدامس، معتبرا ان لاسلاح عندي سوى جسدي المغترب الاعزل، وهذا الدهليز المتفرع الطويل الضيق المظلم بحيطانه السود الفارغ من كل شيء سوى حطام ما يخرج من بقايا معركة شرسة تكثر بعدها الاقاويل والتكهنات .

بدأتُ بالحركة. الدهاليز تنتشر هنا وهناك . دهليز يقود لنفق، ونفق ينتهي بدهليز .  من اين ابدا اذن؟ امن جهة اليمين ام من جهة اليسار؟ هذه المنطقة الدائرية، وكما هو حال الدوائر كلها، لايوجد فيها يمين او يسار، وانت هنا وحدك، ليس من احد معك . اذن عليك ان تبدا، من النقطة التي انت فيها . يمينك هذه اليد التي تمسك بها الاشياء ويسارك هذا القلب الذي ينبض مختلطا مع صوت الرياح والسكون والشك .

في هذه اللحظة تذكرت . لقد كانت لي في بداية الدهليز بندقية وفراش وغطاء ولم اكن وحدي فقد كانت هناك اصوات وكان قسم منها يدعوني والقسم الاخر خارج عني ولم يكن معنيا بي . واتذكر جيدا اني كنت قد اغلقت باب الدهليز واتجهت يسارا تاركا كل شيء في امل العثور على اشياء مبعثرة هنا وهناك، في امل ان اجمعها معا واعيد ترتيبها، حتى وصلت الى هنا بعد ان فقدت ذاكرتي تحت حطام الانقاض ليس معي أي شيء سوى ضياعي، وبقايا الانقاض التي بعثرت اهدافي .

لقد مرّ على ذلك زمن طويل، منذ ان بدأت أتخبط في ظلام الدهاليز، والأنفاق . لاالوي على شيء سوى اللاتاكد والبحث الاصم . انَّ عليّ السير الآن منعكسا على الاتجاه الذي انا فيه، علِّي اعثر على الطريق الذي جئت منه وان اجد نهاية لهذا الدهليز المتاهة  الطويل وان اجد المكان الذي وضعت فيه أشيائي ، فراشي، وسلاحي قبل ان يهدّني الضياع مرة اخرى في مغبة صراعي مع ذاكرتي في الدهاليز المتلوية مثل افعى هاربة .

في هذه اللحظة تذكرت الدفءَ الذي كان يمنحني اياه جسدُها، حين قالت لي :

- الموت اختراع جميل، اكتشفه ربّان ماهر في طريق عودته من اكتشاف الانسان .

- كيف ذلك؟ والموت يغيّب العاطفة . سالتها .

- لانه المنقذ الوحيد . وهو الذي يصحح المعادلات الخاطئة ويوازنها في اخر المطاف، مثلما المعادلات الكيميائية .

من سيجازف بالموت لإنقاذ نفسه؟ ومن يضمن ان يكون الموت منقذا؟ فهل سنمتلك عندها فرصة العودة، كما لست عائدا  أنا من رحلتي الطويلة بعد، لاكتشف اني لا ازال اجدّ البحث في هذا الطريق البعيد الوعر وغير السالك ذي المتاهات التي قد لاتحمد عقباها والمركونة الى الحظ والصدفة في العثور على الفرصة الصحيحة في اللحظة المناسبة؟.

نظرت في عينيها قلت لها ان لابد ان الحظ قد وقف في طريقي لاني فعلت شيئا صحيحا . كان كل شيء مركون في الجزء الفعّال من ذاكرتي .

ربما كنت نصف يقظ حين قلت ذلك فانا في الحقيقة لم اُعطَ الفرصة الصحيحة مع هذه الظروف التي وضعت بها  الآن .

كنت أواصل السير وأنا أفكر بالصدفة والحظ والإصرار على ان أصل لاادري الى اين . ان الذي يفكر بالموت ليس من جماعة الاموات بالتاكيد . انه ذلك التشبث الفريد بالامل البعيد في احلك الازمات .

اتذكر كل ذلك الان بومضة تشبه الى حد بعيد، ذكرى الغريق للغواص الذي سياتي بعد حين لينتشله من مازقه العميق . كنت متشككا في موضعي من المكان مع اعتقادي في اني قد لا افعل الشيء الصحيح .

ورغم اني كنت غير اكيد من وضعي فقد رحت اجدّ البحث عن شيء يضع حدّا لغموض هذا الدهليز .

 

مسلم السرداح

بصرةُ العراق

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2013 الخميس 26 / 01 / 2012)

 

في نصوص اليوم