نصوص أدبية

المستبدل / مسلم السرداح

التي هجروها منذ زمن صار الان  بعيدا . وكانوا توارثوا لبسها والتغطي بها كاللحاف والمعطف الجبلي الطويل الثخين وموقد الفحم القديم لكفايته الفائقة امام وسائل التدفئة الحديثة التي بدت عزيزة المنال، وغير مجدية .

ابعد الرجل عنه لحافه الثخين ، الذي كان يتدثر به متجنبا بوساطته  الليل الشتائي الطويل مع مايحمله من برد وارق يتناسبان طرديا مع طوله الذي يزيد عن حاجة حتى ذوي الهم  المتعبين الى النوم، ليجد نفسه هكذا كما هو عليه الآن عاريا منكشفا، حائرا، أكثر غربة وضياع، من تائهٍ متوحدٍ في عمق الصحراء .  وراى وكأن سورا صينيا كان بناه، ليفصل بينه وبين العالم العريض، ويعزله عن الاذى، قد تهدم الان وبدا وكان العالم، لم يعد واسعا كما كان من قبل، والذي لم يعد يحتويه  من اثر المصيبة  التي وجدها الان نابتة قبالته، فجاة، كما ينبت الشَعر فوق ذقون الموتى ، غير المحتاجين لرجولة اللحى . 

دون مقدمات تمهيدية، احس بانغمار السنوات الطويلة،  وقد حدث كل ذلك فجاة . يستيقظ من منامه ليخامره ذلك الإحساس الغريب . وكما  صرصار كافكا احس احساسا مدهشا ان كل شيء  فيه لم يعد اكيدا له ، ليحس بعد قليل ان لا شيء فيه، ولا خارجه، يشبه ما كان عليه من قبل .

نظر الى وجهه عند  اول مرآة، وجدها  مركونة في بيته . كانت قديمة نوعا ما  لكنها تحمل بعض صفات المرايا . فبدا غريبا امامها وأحس بشعور من استبدل وجهُه  .

قلّب نفسه بكل الاتجاهات أمام المرآة ليتاكد من اكتشاف، ان ما يحمله فوق رقبته لم يكن وجهه . وان شيئا قبيحا مشوها لم يكن معه طيلة الفترة الزمنية التي عاشها فيما مضى . لقد تم استبدال  وجهه القديم الجميل، سوية مع جسده الرشيق القوي بجسد مرهق مترهل، اقرب مايكون لمن اتلفت البلوى والغفلة الطويلة،  تلافيف دماغه . هكذا صار يشعر . وراح يسال نفسه متى بدا شعوره هذا لاول مرة؟ واين كان خلال كل ذلك ليكتشفه الان؟ وتساءل عن افكاره وكيف انها لم تتغير . اليس الوجه مظهرا من مظاهر الراس؟ وتاكد للرجل ان ذلك كان حدثاً طارئا الان، ولم يحدث معه من قبل .

شعر بالقلق، وراوده الاعتقاد ان عملية الاستبدال كانت انتقائية جدا . اختاروا مايروق لهم منه وتركوا له افكاره وعقائده . وركن الى فكرة التقدم التكنولوجي الذي بات يستبدل ماشاء ليترك ما لايتناسب مع الحداثة  . وفكر كيف انهم من قبل كانوا يستبدلون بعض الاعضاء الداخلية للمرضى . والان يستبدلون كل شيء وكأن الإنسان سيارة قديمة .

 لذلك راح  يبحث عن نفسه  مشدوها في  المارة، في جميع الاماكن، وليس في اماكن بعينها  اعتقادا منه  انها عملية معقدة لها اوّلٌ مجهول ولا اخر لها . لكنه وجد ان البحث يجب ان لايكون هكذا . فمن العبث ان يبحث عن وجهه في كل الاماكن . وان عليه ان  يحدد اماكن بعينها، يبدا البحث منها . ليبعد احتمال الصدفة العمياء ما امكن له .

راى وجوها عديدة واجساما احس، انها كانت له . ولكن كيف يحدث ذلك؟  ان يكون الوجه لك وليس مع جسدك . او جسدك وليس مع وجهك؟ انها قضية تعود للتطور الذي وصلته التكنولوجيا . ولقد ضيعت كثرة الوجوه عليه جديّة الموقف . اذ كيف يكون اكثر من وجه مسروق منك مع ان للانسان وجها  واحدا .

وفكر ان يشرك احدا ما فيما يسعى اليه . ولكن انّى له ان يجد من هو حميميا معه،  لهذا الحد مثل امه مثلا،الذي يصدق فيه مايزعمه؟ وهم سيقولون ان كل شيء على مايرام ولو تغير أي شيء او استبدل عشر مرات في اليوم الواحد، راكنين انفسهم الى الغفلة التي تحقق طمانينتهم .

 ثمّ راح يروي حكايته لقاض محقق اجبره على الاعتراف . قال :

لقد كنتُ اكثر وسامة مما انا عليه الان، بجسد اكثر رشاقة، وعضلات قوية، مع  راس متقن الصنع  يحمل افكارا،  لم تكن لي وحدي، بل كانت اكثر صفاءا وشاركت الجميع معي في بلورتها، والايمان بها واما الان لاشيء من ذلك . وكانت غرائزي محكمة الغلق مسيطر عليها من قبلي لاتُفتح الا بكلمة سر .  وكانت النساء، يتمنين ، اشارة مني ليبدان الحديث عما يعانين من الم ومعاناة  . واحسست اني الان بسبب تفشي التارجح القلق ،  اتمنى، لو اشم عبير امراة جميلة تتقاطع معي في الدروب فجاة . ولقد تم اصطناع حواجز تدعم هذا التحول العجيب  . و بدا لي اني اصبحت ملولا في صفة غريبة،  لم تكن بعضا  من صفاتي .

واحد من المارة توسمتُ فيه ان اكون هو انا قبل استبدالي . وجّهت اصابع الاتهام له انه هو من سرقني . ورحت اتبعه في امل الاهتداء لدربه عساني اباغته فجاة فاستعيد منه وجهي . وبعد ذلك ابحث عمن سرق اجزاء جسدي الاخرى . ترى لمَ استهدفوني وسرقوا مني ملامحي مع كثرة الوجوه لدى الاخرين، الاني اكثر وسامة من غيري؟ ام لانه استضعفني؟ اما  كان بامكانه ان يصنع له وجها من عدم  يزوقه كما شاء، بدلا من ارتكاب هذه الجناية، امتلاك شيء هو  ليس لك وحصلتَ عليه بضياع اخرين؟ . كنت حاقدا على تكنولوجيا استبدال الوجوه، وعلى سارقي وجهي . ولكثرتهم ضقت ذرعا بالبحث في دروب حيرتي ونفسي  .

 تبعته لمسافة بعيدة حتى ظننت اني مغادر لمدينتي ضائع في دروب غيرها قبل ان انتبه الى ان هذا الذي كان  انا ربما يسكن مدينة اخرى ويطأ دروبه الخاصة به كما في مثل هذه الحالات التي لاتبدو انها نادرة . ربما كثيرون غيري يعانون من ذلك الان لكن اسبابا كثيرة ترغمهم على  السكوت الممض من العذاب الذي يعانيه من يحسون بمثل هذه الحالة . وربما هم راضون عن وضعهم لان ما استبدل لهم من اجساد ووجوه ليست قبيحة بالنسبة لهم، كما ليس بالنسبة لي . حتى ان احدهم ممن سُرقت بعض اشيائه وقد تعرفت عليه، قال لي انه لايهمه من يكون هو الان مادام لم يتغير منه شيء فهو يمارس اعماله اليومية وفروضه البايولوجية وياكل ويشرب ويقضي حاجاته مثلما لو عاد اليه وجهه او جسده ولا فرق . لان لديه زوجة واطفالا .

وقال لي اخر انه راض عن وجهه لاسباب كثيرة منها انه غير مغرم بالنساء ولم يعد يبالي . كثيرون صرت اعرفهم في علاقة هامشية ماكنت اريد لها ان تتعمق، في صداقة لاطائل من ورائها، طالما اننا قد نستعيد ماكنا عليه قبل هذا التحول الغريب، فيضيع كل منا عن صاحبه، وينساه تحت وطاة هذا التحول وما سياتي بعد ذلك من امور لا يتوقعها احد الان .

واستمر الرجل ساردا اعترافاته للقاضي :

وقال لي ثالث، وهؤلاء عينة ممن تعرفت عليهم اثناء بحثي الدائب المقلق بلا كلل عن وجهي، انه يتمنى ان تكون له طموحاتي وقدرتي على تحمل كل هذا التعب والمشقة وسالني فيما اذا كان الشخص الذي سرق وجهي، متفهما للحالة دون ان يدخلني مداخل تافهة او مضحكة او يقودني في دهاليز المحاكم الطويلة حول امر لاثوابت فيه ولا اطلاق .

 لقد كنت اظن نفسي اني انا الوحيد من كان يشعر بهذه الحالة الغريبة، لكني تاكت ان الكثيرين من الساكتين على مضض اكتشفوا ذلك قبلي لكنهم ركنوا للحالة التي اصبحوا عليها . وكدت اصير مثلهم امام حالة الاحباط التي يزرعونها في نفس من يتعرف عليهم، وهم اشبه بديدان تكيفت مع وضعها دون ان يهمها فهم ما حدث لها .

بعد متابعاتي العنيدة للشخص الذي سرقني واستدلالي على مكان سكنه واصراري على استعادة نفسي منه لم يعد يهمني ان اتفاهم معه اذا كان من النوع الذي يمكن للتفاهم ان يوصلني معه الى نتيجة مقتعة والا حتى لو اضطررت لقتله فهو الذي بدا القتل معي ولااظلمه  امام  حكم العين بالعين، والسن بالسن والبادئ اظلم .

حين وصلت للرجل وتعرفت على حاله تراجعت عنه مباشرة بعد ان عرفت انه متزوج من امراتين وله اطفال كثر اقرفني وضع العوز الذي يعانونه، والتخمة التي يعاني منها، واشياء اخرى كثيرة ليس اقلها تلك الرائحة الثقيلة التي تنبعث منه والتي لاتشبه رائحتي قبل سرقتي واستبدالي .

بعد كل عناء البحث ومشقة الاستدلال على الكائن المستبدل معي،  كان يفترض بي الركون الى حالة القناعة وايصال نفسي الى حالة الامان المفترضة لمثل حالتي في وضع كوضعي ولكن الالم الذي كان يعتصرني جعلني ابحث طويلا في وجوه المارة عن واحد اخر، له جميع اشيائي الضائعة مني ولكن بلا جدوى . واخيرا وجدت كائنا اخرا وتعقبته طويلا، لاجد انه يختلف عني من حيث العمر والعصر والركض الذي كنت اعيشه فابعدت نفسي عنه . كانت الوجوه كثيرة اختلط بينها اليقين واللايقين .

وسمعت فكرة من احد اولئك الذين تعرفت عليهم قال لي ان الشخص الذي استبدلت به ربما كان  قد مات لانه لم تعد لديه القدرة على التلاؤم مع هذا الوضع . ونصحوني ان ابحث عنه في صور الموتى التي توضع فوق شواهد قبورهم، او ان  اطيل الانتظار مع الاستمرار في البحث لعلي مع الايام اعثر على من استبدلني .

ولكن لمعت في ذهني فكرة اما الركون او الانتحار ورحت اقلب ذهني بين الحالتين ذلك اني لم اعد استطيع العثور على احساس  يتلاءم مع ضياعي امام وجوه باتت الان لاتشبه وجهي . فقتلته لانه سرق وجهي . وبذلك انتحرت وانتهى كل شيء .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2017الاربعاء 01 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم