نصوص أدبية

سفرة / جيكور

 

قد يعيق سفري وعودتي الى البيت أشياء بسيطة، صغيرة، تبدو للاخرين تافهة ولاتدعو الى تأجيل ذلك السفر..

من هذه الاشياء شعوري بالضيق من راكب يجلس الى جانبي، قذارة المقعد والمكان، أو عدم وجود مكان شاغر في الجهة اليمنى التي أفضل الجلوس فيها .

 لم تكن هذه الاشياء سوى ذريعة وإستجابة لنداءٍ في داخلي يدعوني الى العودة وترك السفر. لا أؤمن بالقدر والصدفة، ولا أتشائم من قط أسود يفاجئني عند ولوجي أول منعطف في الشارع، أو نعيق غراب على شجرة، أو رشقة ذروق تسقط على رأسي من طائر مصاب بالاسهال، لكني أؤمن إيماناً قاطعا ً لاشك فيه هو أنني أنحس الناس في السفر، وهذا النحس لاينسحب علي فقط، بل حتى على الذين يرافقوني في رحلتي.

ركبنا الحافلة الفاخرة من مدينة مالمو السويدية المتجهة إلى كوبنهاكن في الدنمارك ثم هامبورك في المانيا ومنها الى مدن صغيرة وكبيرة على طول الطريق المؤدية الى أمستردام في هولندا ..

أسرعت بإتخاذ مقعد من جهة اليمين كعادتي قرب النافذة، تفحصت المقعد جيداً حركته الى الامام والخلف لأتأكد من أن كل شيء على مايرام، أتابع المسافرين وهم يفتشون عن مكان للجلوس، أفرد رجلي قليلا لأغطي حيزاً من المقعد الذي بجانبي عندما يمر رجلا أو إمرأة مسنة، وأضمُها الى رجلي الاخرى حتى يبدو المكان خالياً وفسيحاً عندما تمر إمرأة جميلة تفتش عن مكان للجلوس، دعوت الحظ وتوسلت به أن يصالحني لمرة واحدة في سفري..

هل المكان شاغر؟؟ قالتها بلغة إنكليزية ناعمة ..

يس يس.. أجبتها بلساني ويدي، ثم إلتصقت على جهة الشباك خشية أن تغيررأيها وتبحث عن مكان أخر..

دست حقيبتها في المكان المخصص للامتعة فوق رأسي،فاح عطر آخاذ من كل أرجاء جسمها الرشيق، أزاحت بظاهر كفها خصلات الشعر الناعمة عن وجهها وجلست الى جانبي..

إنطلقت الحافلة رغم وجود مقاعد فارغة هنا وهناك، أخرَجت تفاحة صفراء من كيس كان في حضنها وراحت تقضمها، ثم سحبت كتاباً صغيراً من حقيبة يدها، تقضم وتقرأ، تقرأ وتقضم .. وأنا أرهف السمع الى هذه السيمفونية الرائعة ..

 لم استطع معرفة عنوان ذلك الكتيب لانه بلغة غير الانكليزية، كنت حذرا من الالتفات بشكل مكررالامر الذي قد يعطي إنطباعاً سخيفاً على فضولي وتطفلي..

ليس مهماً أن نتحدث مادام العطر يسكرني، ومادامت الاكتاف تتلامس مع تماوج الحافلة لدى المنعطفات والمطبات الاصطناعية داخل المدن التي نمر بها..هاهو النحس يصيخ السمع ويستجيب لي، مودعاً إياي في هذه السفرة التي تمنيت أن تطول ولاتنتهي عند أسوار أية مدينة، مادامت هذه الحسناء ترافقني وتناديني بهذا الصمت اللذيذ.

من أي بلد أنتِ ؟؟ سألتها بعد صراع بين جرأتي وخوفي، خوفي من فرارها الى مقعد أخر من المقاعد الشاغرة..

 من الدنمارك، أجابت بعد أن إبتسمت شفاهها الممتلئة وعيناها الصغريتين اللتين لم أعرف لونهما بالضبط، وذلك لجهلي بالالوان الهجينة والمستحدثة الاسماء ..

وأنتَ من أي بلد؟؟

من العراق، أقيم في هولندا ..

هل تعرفين شيئأً عن العراق ؟؟ نعم أسمع أن هناك حروباً كثيرة ودائمة، لكني لاأعرف لماذا..

صحيح هل أولئك أفضل، أم هؤلاء ؟؟؟؟ فاجئتي اللعينة بهذا السؤال.. قلت:

كلهم أولاد كلب، هؤلاء وأولئك .. ضحكت، ضحكت معها.. ولكي أبعدها وأبتعد معها عن هذه المواضيع اللعينة، سألتها: هل وجهتك الى هولندا ؟؟

كلا سأنزل في مدينة كوبنهاكن المحطة القادمة ..

إذن ستنزل بعد دقائق، يا لفرحتي التي لم تدم،هاهو النحس يندم على فراقي ليعود إلي من جديد!!

سحبت حقيبتها وودعتني بلطف متمنية لي رحلة سعيدة.. ودعتها وبودي لو يودعني صفو الحياة وإني لااودعه *، تبسمنا لبعض، نَزلت بخفةٍ مثل قطة جميلة، لم تلتفت الى الوراء، أما أنا فقد تسلقت عيوني على كل مكان في جسدها ..

ركاب جدد يصعدون، يبدون اكثر من الذين نزلوا، عدتُ مرة أًخرى الى لعبة فرد الرجلين وضمهما، رجل ضخم الجثة يرتدي معطف كبير يفتش بعينيه هنا وهناك على مكان للجلوس، مددت رجلي حتى كادت تغطي المقعد الذي غادرته تلك الحسناء وتركتني بحسرتي.. وبدون أي إستاذان أو تحية إرتمى على المقعد وكأنه كان يتعمد الجلوس على رجلي التي تجاوزت حد مقعدي ..

نظرتُ الى وجههِ الذي عكسته زجاجة الشباك، كان وجهه عريضاً أحمراً بذقن كثيف، تدلت خصلات شعره فوق المعطف الذي لم يخلعه رغم إعتدال الجو داخل الحافلة.. كان يتنفس بلهاث ويصدر صفيراً مقرفاً من انفه، حاصرني كتفه والجانب الايمن من مؤخرته حتى إلتصقت بالشباك، كان ضخماً كأنه فيل الماموث ..

ياإلهي مالعمل .. كيف سأتخلص من هذه المصيبة ؟؟!! الطريق طويل، ليلة كاملة، بدأت أشعر بالضيق والاختناق، دفعته قليلا بكتفي لأنه تجاوز على نصف مكاني من الأسفل والأعلى، إعتذر ضاحكاً : لست الوحيد الذي يعاني من جلوسي الى جانبه وراح يقهقه وهو ينظر إلي بعينيه الحمراوين، لاأعرف كيف ضحكت معه !! فاحت عفونة لاتطاق من فمه، كما وأنه قضى على أخر نسمة من العطر الذي تركته تلك الحسناء على المقعد..

أخرج سندويشة كبيرة من البيض المسلوق وراح يلتهمها بشراهة، إبن الكلب يبدو أنه مجنون .. بل أكيد مجنون، لايمكن لعاقل أن يأكل البيض المسلوق في هذا المكان المغلق، الرائحة خنقت المكان كله، راح بعض الركاب يتهامسون، مددت رأسي الى الخلف، الكل منسجم، صعدوا فرادى وها هم الان مثنى وثلاث ورباع، يضحكون ويتهامسون ويتبادلون أرقام الهواتف والعناوين.

 أدرت رأسي الى كل الجهات لعل أحداً ينقذني أو لعلي أجد مكاناً شاغراً نزل من السماء أو إنبثق من داخل الارض..

فكرت أن أنشغل بالقراءة، أخرجت رواية الاشجار وأغتيال مرزوق، حسدت منصور عبدالسلام على رفيق دربه المرح الياس نخلة، وكيف أنهم قضوا الطريق نحو الحدود يتبادلان كؤوس العرق اللذيذ، ويجتران الماضي بحزنه وفرحه..

أين الياس نخلة من هذا الماموث الثقيل؟؟ نظرت اليه عندما راحت شفاهه تبقبق بالشخير..

 إنتابني شيء من الخجل والاشفاق، بسبب قرفي من هذا الرجل الذي لاأعرفه ولايعرفني، لم نلتق من قبل، ربما يكون مريضاً، مسكيناً، معتوهاً، أو ربما مجنوناً، لقد دفع أجرة المقعد مثلي ومثل أي راكب أخر، مثل الحسناء التي لملمت العطر والسحر ورحلت، من حقه أن يجلس في المكان الذي يريد، هكذا حدثت نفسي لعلي استطيع مقاومة هذه الليلة التي لاأرى نهاية لها لا في الافق القريب ولا البعيد.

أخاف من النوم، من كوابيسي التي مازالت تلاحقني حتى في يقظتي، في قيلولتي، في اي أغفائة مهما كانت قصيرة، لكن هذه المرة سأرغم نفسي على النوم، لإن صاحبي هذا لايبعدني عنه غير النوم أو الموت..

رشفت جرعتين من الزجاجة التي احملها لمثل هذه الحالات الطارئة، كرشه يرتفع مع شهيقه، وينخفض مع بقبقة الشخير وصفير الانف الذي دفعني الى شرب جرعات كبيرة وسريعة وبشكل هستيري كي أتخلص من سماع هذا الجحيم..

إستلسمت لإغفائة لاأعرف مصدرها، هل هي جرعات الكحول أم الغثيان الذي اصابني من رائحة أبطيه وأكياس الاكل الفارغة التي كانت تحوي سندويشات البيض واشياءا أخرى لاأعرفها؟؟

 لم أر كابوساً من كوابيسي التي تزورني كل ليلة، حلمت كأني دخلت مرحاضاً عاماً في الباب الشرقي، فجأة غاب الذين كانوا هناك وأغلقت الأبواب وانا داخل تلك المراحيض القذرة، صرخت بأعلى صوتي لكن أحداً لم يسمع،

 قدماي ثقيلتان، الرائحة تخنقني، رفست الباب بقوة، إنفتحت فاذا بي في جبهة القتال والجنود يصرخون غاز الخردل، ضربة كيميائية، إرتدوا الاقنعة، كنت أركض مذعوراً أمامهم، الغاز يخنقني صرخت بأعلى صوتي خردل خردل خردل إرتطم رأسي بزجاج الحافلة، افقت من الكابوس الرائحة مازالت موجودة، نظرت الى الرجل الذي بجانبي، إبن الحرام هو مصدر هذه الغازات القاتلة، قفزت فوق فخذيه، ركضت، ثم إرتميت بين قدمي مساعد السائق، صرخت أوقفو الحافلة وافتحوا الابواب، إنه يريد قتللللللللللي!!

من هو؟؟ صاح السائق ومساعده، أشرت اليه، كان الذين حوله مستنفرون، قرصوا أنوفهم، وضعوا المناديل على وجوههم وهم يسعلون، أما صاحبي فقد غرق في عالم وردي من الشخير.

 

قصة قصيرة     

 

جيكور

 

...................

*مقطع من قصيدة لإبن زريق البغدادي

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2033 الجمعة 17 / 02 / 2012)


في نصوص اليوم