نصوص أدبية

سفرة الى مدينة الدواليب / مسلم السرداح

أساس المدن كلها . إن اسمها يبدو مألوفا لمن يسمع به لأول مرة كمدينة للألعاب .  زبائنها بالدرجة الأولى، هم الأطفال . ولا ادري لماذا تقترن مدن الألعاب، بالأطفال، فقط، مع  إنها هي الأخرى تشكل ملاذا مهما  للكبار الذين يظنون إن بمقدورهم الانفلات من إطار الزمن . إن الشعور باللذة في هذه المدن بُني على أساس الإحساس المؤقت بالخطر  . أتذكر مرة كنت أنا وصديقي حافظ وكنا قد خرجنا من إحدى الحانات التي تؤدي إلى متنزه عامر بملاعب الأطفال ورحنا نتدحرج وننزلق لوقت طويل . كنا قد تخرجنا من الجامعة توا واستدعينا للخدمة العسكرية . الوقت ليلا وكنا بعيدين تماما عن أعين الناس، نحاول تحقيق تلك الرغبة في اللعب  . ولم تكن هناك وقتها تلك الحلقة الكبيرة الواسعة جدا، التي تخترق عنان السماء، التي تسمى الدولاب . ويستطيع ركوبها  من امتلك رغبة صارمة بركوب الخطر وله ثقة عالية جدا بالتكنولوجيا وبصنّاعها وعمالها .

 المدينة هذه تكمن داخل المدينة الأم، التي يخترقها النهر من منتصفها فيجعلها تبدو وكأنها صورة كاريكاتورية رسمت لمدينتين شُق بينهما نهرٌ عريض وتم تقييد النهر وتسييره من ثم  في مجراه إجباريا،  ولم يترك له حرية أن يشق طريقه بنفسه . فيسير بالاتجاه الذي يراه ويشاءه كحال الأنهار الخالدة التي يؤطرها تاريخ قديم . فبدا للناظر إليه نهرا عريضا مستقيم الحافتين . وكانت ضفتاه متوازيتين تماما وكأنهما رسمتا رسما،  كحال المدن التي تبنى قبل ان يدخلها الناس . ذلك إن بناء مثل هذه المدن لايخضع لمزاج احد من ساكنيها . عماراتها السكنية متعددة الطوابق مشتركة أرضا وسماء وتصميما، وحتى النهر الذي يمر فيها فانه لايستطيع التلوي يمينا ويسارا كما تشاء له الظروف وتضاريس الأرض لانه تم تصميم مساره مسبقا .

رغم جمال المنظر للنهر العريض والذي تزين ضفتيه مناظر الشوارع والمتنزهات والأشجار والمصابيح الملونة ليلا إلا انه بدا مثل لوحة سريالية رسمت خطوطها بالمسطرة لتعبر عن الحالة التي يمر بها فنانها الرسام . وبدت مثيرة للرثاء لم يكسبها الزمن ثراءه، لأنها كانت بعيدة تماما عن فعله، وتأثيره المجيد في الأشياء وهو يكسبها قيمة تراثية تزداد مع مدى العمر الذي عاشته . وهذا مابدا عليه المنظر بأكمله، وبالشكل التالي :  مدينة كبيرة مشقوقة بخندق عميق عريض، تم تسيير الماء فيه تسييرا . الناس البسطاء السذج يعتبرون ذلك بارعا أما الناس الأكثر دقة فيعتبرون إن من السذاجة عدم إسقاط تأثير التاريخ على المكان  .ذلك ان جميع الأنهار تصمم مسارها وخط سيرها بناء على ما يقتضيه انسيابها الفيزياوي لأنها تسير في الأراضي فتنحت مسارها بأزميل نفسها . لكنها هنا تسير بمسار محدد بالاسمنت المسلح والطابوق وصخور الجرانيت القاسية . وكل ذلك قد حدث بفعل فاعل، بعد ردم المجرى القديم للنهر و تحويل مجراه .

كانت مدينة الدواليب، تقع عند الجانب الغربي . وكنت أنا والجميع الذين يطالبوني بالذهاب إلى المدينة نسكن هنا في هذا الجانب الشرقي . وأنا في حقيقة الأمر غير راغب بالذهاب إلى مدينة الدواليب ولا عبور النهر إلى تلك الضفة أصلا . وكنت أؤجل الذهاب إليها كل مرة ومنذ زمن بعيد . وكان سبب التأجيل هو ما أراه مجهولا لي وغير واضح بالمرة حول الاسم الغامض الذي يستجلب في الذاكرة أكثر من معنى وحكاية .

كان النهر قد شيد مع  بناء المدينتين اللتين تم التخطيط لهما،  سوية كمدينة واحدة وفي وقت واحد وبمزاجين . إذ كانت المدينتان مبنيتين بنفس الطريقة وبنفس المواد تقريبا وكلتاهما تعتمدان على نفس النهر في كل شيء ولكنهما اختلفتا في ان لكل واحدة منهما مزاجها  المختلف، لان  هيئتين  كلفتا لبناء المدينتين لكل واحدة منهما واحدة  . وكل هيئة من الهيئتين تتكون من مجموعة من ذوي الخبرة في تصميم المدن الحديثة من الاختصاصين والمصممين . وكان العمال والبناءون الذين قاموا بتنفيذ المدينة الغربية هم انفسهم الذين سكنوا فيها وهم جميعا تقريبا ممن جاء من الامتداد الغربي لها . وان هذا يصح تماما على الجانب الشرقي الذي نسكن فيه نحن . لهذا بدا مزاجان في طبيعة المدينتين مزاج اللجنتين المتشابهتين في كل شيء تقريبا سوى المزاج وهما اللتان وضعتا الخطوط العريضة  للمدينتين . وهذا يذكرك بالفراعنة الذين سكنوا شرق النيل وبنوا قبورهم عند الجانب الغربي منه . واما النهر فكان واحدا وبلا مزاجات لانه لم يتم بناءه من قبل احد وبضفتين متوازيتين تماما ولاتلتقيان مهما امتدتا من الناحية الهندسية .

كان عليّ عبور النهر للوصول الى مدينة الدواليب تلك، مجبرا من جهة ومدفوعا بحب فضول كبير من الجهة الاخرى .

لمدينة الدواليب تلك طرق كثيرة للوصول الى بابها الرئيسي ومن ثم الدخول اليها بعد الخضوع الى مساءلة قد تستغرق وقتا طويلا . من اين جئت، وما الذي تنوي فعله ؟ ولماذا جئت الى هنا الان في هذا الوقت ؟ وهل جئت من قبل ؟ وكان جوابي انني كنت مندهشا لطبيعة الأسئلة التي لايبدو انها مهمة ولكني عرفت انهم يعولون كثيرا عليها . فعليها يتوقف مصير من يتم إخضاعه لتلك الأسئلة فمن خلال اجابتك يعرفون عنك نواياك وشخصيتك وأهدافك . لأسمع بعدها من  يقول لي هامسا انك توهمت كثيرا ذلك انها ليست مدينة للهو ولا للألعاب .

كان ولوج المدينة رغم صعوبته اسهل بكثير من الخروج منها فحين رايت طريقة الدخول اليها اعتبرت الامر سهلا وانهم يسالونك لاغراض مهمة ربما من ضمنها او اهم اغراضها هو المحافظة على افكار المدينة . ومن ثم لا شان لاحد بك . فالمهم ذلك التطابق بالافكار الذي يكتشفونه من خلال المقارنة  في طبيعة الاجوبة  فيكون الاطمئنان الى مصير المدينة . والذي سهل دخولي هو انني لاشان لي بشيء مما يبحثون عن اجابة له . لقد كنت منذ البداية وساظل محايدا تجاه ما يعتقدونه . فافكارهم ومنطلقاتهم تضحكني كثيرا لفرط سذاجتها .

حين دخلت للمدينة لم اجد فيها ماكنت اتصور او يتصور من دفعني للذهاب اليها . لقد وجدت في داخلها اشياء تختلف في صرامتها عما في مدينتنا تلك . ففي النهار كان كل شيء يبدو واضحا وكان تبادل التحايا شائعا اثناءه، مايجعل القادم يتوهم الطبيعة التي جبلت عليها المدينة، رغم معضلة الخروج من المدينة تلك . ولكن المشكلة الضخمة هي ما ان تغيب الشمس حتى تجد نفسك وحيدا صغيرا تحيطك مجموعة من الجملونات الضخمة وهي بنايات كبيرة عالية جدا اعلى من أي دولاب، وصممت لاغراض خاصة مجهولة تماما للزائر . بسقوف هندسية منشورية الشكل تبدو لك من مسافة قريبة او بعيدة وكانك قزمٌ  يقف وحيدا في الظلام الدامس امام ديناصورات ضخمة،   مفترسة، تراه وتميزه، بعيون حجرية متقنة، وهو لايرى سوى الظل . وترى نفسك ضئيلا صغيرا مداسا باقدامها تحجب عنك رؤية أيّ شيء امامك، سوى مايلوح لك من السماء وانت تنظر الى الاعلى بزاوية اقل قليلا من القائمة . مع اصوات متنوعة تشبه بمجملها اصوات ذئاب جائعة تبحث عن طريدة، مع صراخ لكائنات مجهولة . وفي نهار اليوم التالي كنت عاريا الا من نفسي . و غربتي عن المكان جعلتني احس برهبة امام كل شيء،  وكأن الملابس التي ارتديها تبدو مختلفة فكنت اعيد النظر الى نفسي مرات ومرات وكنت اتوقف امام أي مرآة كبيرة استطيع ان ارى بها نفسي لكي استطيع التثبت من وضعي . ثم تناولت طعامي بلا شهية رغم جوعي بسبب كثرة الاهمال التي تملا المكان ابتداءا من المطبخ والطباخين وانتهاءا بصينية الاكل .                                                                          

كانت المدينة مليئة باصنام طينية لم يتكلف اهلها عناء شويها لتقاوم تقلبات الزمن يبدو انهم لم يكنّوا اهتماما بالزمن او انهم استسهلوا فعل التاريخ بهم وكانت كل ثوابتهم التي يرتكزون عليها كما اصنامهم هي ايضا من الطين القابل بطبيعته للذوبان  في الماء والتشكيل من ثم كما تشاء امزجتهم القابلة للتغيير .

لم اجد في المدينة أي شيء لافت للنظر. و كما هو الحال بالنسبة لمدينتي فهي متسخة الشوارع،  مليئة بالازبال، ضيقة  الارجاء، سطحية لاعمق فيها . وكان كل شيء يظهر لك من الامام دون ادنى صعوبة، فالداخل المخفي يتميز بالصلف حاله مثل حال الخارج الظاهر كل شيء يراه الناظر دون عناء او تفكير .

اردت الخروج منها بعد ان تاكدت ان لاشيء يربطني بها لان الاشياء كلها توضحت لي اذ لاشيء فيها له ملامح الامهات اللواتي يخضبن الذاكرات بعد رحيلهن المفاجئ . فوجدت ان الخروج صعب جدا .

طريق واحد للخروج يبدو واسعا في بدايته ما يجعلك تظن ان المدينة لاترحب باحد وانها تدعوك للخروج منها باي طريقة . ولكن الطريق سرعان ما يضيق رويدا رويدا مثل خطوط التلاشي ويبدا بالالتصاق ما يجعل مغادرتك للمدينه يخضع للحظ والمصادفة . ليتبين لك ان عملية الخروج غيرمحددة بزمان ومكان معلومين .  وعليك ان تظل تسير وتسير يوميا حتى يوافيك الحظ او لا يوافيك، لتكون خاضعا للعبة الزمن . يبدو ان عملية فتح الطريق وغلقه مشفرة بكلمة للسر وببرنامج آلي . ولذلك فان اكثر زائري المدينة يتاخرون في العودة الى ديارهم وقد لايعودون أصلا لانهم لحين الحصول على السر تمضي على ذلك مدة طويلة، يبداون خلالها التعود على وضع المدينة فلا يهمهم بعد ذلك ان يغادروا او لايغادروا . ويعود السبب في ذلك انهم لايجدون فرقا كبيرا بين ماكانوا عليه وما وجدوا انفسهم فيه الان . ففي كلتا الحالتين هم لم يمتلكوا شيئا في تلك المدينة ويضيعوه هنا . فلا علاقات حميمية تجعلهم يتشبثون بارضهم الاولى هناك ولا مستوى معيشة مختلف . شيء واحد فقط يختلف بين الحالتين ذلك ان الشمس تشرق من الشرق هناك وتغرب من هنا من الغرب وحتى في هذا لم يجدوا فرقا كبيرا ذلك يعود الى فارق العمر الزمني، بين وجودك هناك ووجودك هنا .

الشيء الذي كنت اعتقده غريبا هو انهم لايجعلونك تدخل مدينة الدواليب تلك الا وانت تحمل متعلقاتك كلها معك وانت تدخل الى المدينة  . ومن تلك المتعلقات لو كانت لك عائلة، وكل شيء لك حتى اذا فكرت في البقاء لن تجد الامر عسيرا عليك .

الشيء الغريب حقا هو ان مدينة الدواليب تلك لاشيء فيها له علاقة بالدواليب التي يركب فيها الاطفال وتروح هي تدور بهم   . انها مدينة دواليب من حيث انها تجعلك تدور وتدور، دون ان تعثر فيها على مجرد قناعة بسيطة لما يجري من امور عشوائية . لذلك قررت الاستمرار بالسكن فيها بعد ان وجدت ان الخروج من المدينة قد يستغرق مني العمر كله . ولذلك رحت اواصل السكن في غرفة مثقوبة  الجدران تستطيع الذئاب اختراقها . وانا نائمٌ بعينين مفتوحتين امسك رقبتي بيدي، متوجسا من وضعي الذي لايثير سوى الشك امام هيئتي الغريبة  في تلك المدينة، مدينة الدواليب وما ينبعث منها من اصوات .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2036 الأثنين 20 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم