تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

تداعياته بعد فوات الوقت / مسلم السرداح

قال لها :

-       انا اذهب دائما الى اماكن تخص الرجال فقط . فكيف ادعوك للذهاب معي؟

-       وماذا في ذلك؟ عندي استعداد للذهاب معك الى أي مكان .

-       أي مكان؟

-       نعم جربني . اجابته واثقة .

هي دائما ما تقف لصق جانبه لتسأله، وعليه هو ان يجيب . وكان يقول في نفسه حائرا:

- ماذا تريد مني هذه الفتاة؟ هل تريد صداقتي؟ وما الذي تعنيه الصداقة في مجتمع متصالب، مثل كرة من الطين مشوية بالنار، سوى كشف خصوصياتي، وعريي، لتغادرني، بعد ذلك بعد ان تُشبعني نزفا ؟ ام انها تريد ما سوف ياتي بعد لقاء واحد، تجعلني اتعلق بها لتطلب مني بعد ذلك الزواج بها، باصرار؟ .

إن فكرة الزواج معقدة بالنسبة له . إنها لاتمثل في اعتقاده أيّ شيء سوى الإنجاب التي يعتبرها وسيلة من وسائل الطبيعة تستغبي الجميع من خلال لذة المعاشرة الجنسية العابرة، للحفاظ على النوع، لذلك كان دائما يقول :

- إننا لانختلف في رأي الطبيعة وتصرفاتها تجاهنا عن الحيوانات الداجنة أو حيوانات القطيع التي تتكاثر للذبح . ثم جاءت الديانات العشائرية لتؤكدها . وأنا اكره الطبيعة العشائرية المتزمتة، بسبب الثوابت الصارمة التي وضعتها للحد من الحرية . وفي هذا المجال، فان الاتصال بدون زواج هو اسلم باستخدام وسائل نتذاكى فيها على الطبيعة ونخدعها ونضحك منها . ولو استطعنا التجرد من المشكلة لكان ذلك اسلم لنا .

ولكنهم، يقرعون الطبول ويقيمون الولائم ويبذرون الاموال، بمظاهر باذخة وكل ذلك لمجرد ان يخبروا الناس :

- أيها الناس إن رجلا سيتزوج امرأة وابتداءا من الآن .وعليكم ان تعلموا ذلك، وتخبروا الآخرين . قال ذلك بسخرية ليضيف :

- يقولون ذلك بثقة عمياء، وكأن مذنب هالي سينحرف عن مساره، ويدمر النظام الشمسي، وهم يودون إبعاده عنها بطقوسهم العتيقة التي يجبرون الناس عليها .

ولو حدث ان تزوج اثنان ولم ينجبا بعد بضعة أشهر، فعند ذلك سوف تنقلب الدنيا رأسا على عقب وسيمضي الجميع لاستدعاء الاطباء والمشعوذين وفتاحي الفال وضاربات الرمل .

كان شكاكا ينظر للأمور بريبة . وكان تفسيره لهذا الأمر يؤكد شكوكه :

لان الطبيعة لاتريد من احد أن يتجاوز إرادتها، ولا تريد للاتصال أن يتم دون أن يحقق مآرب الطبيعة في التكاثر . فهي أقنعتنا نحن وهؤلاء جميعا بذلك . ومن خلالها أخذت الأشياء الصغيرة قدسيتها بعد أن أطرت ببرواز ثقافي صارم .

ما الذي تريده إذن مني هذه الفتاة غير ذلك؟ هي من عائلة مدنية برجوازية وأنا من عائلة ريفية عمالية . هي غنية وأنا فقير، هي جميلة فاتنة تشكل مطمحا للرجال، وأنا لم تلتفت لي واحدة ٌ من قبل . ثم اني احذر مثل هذه التعاملات . طيلة حياتي. وانا احذرها الان . واسأل نفسي، ما الذي استطيع تقديمه لها؟ فانا انسان مقتول بالجد، وهي حال فتيات هذا الوقت لا يبحثن عن مثلي . ثم اني لا اعرف عنها اي شيء . فهي ربما تكون قد ماتت قبل ذلك، وعادت بعدها الى الوجود . فهل اتزوج فتاة ميتة؟ . ثم يضيف :

لم تزرع فينا الطبيعة سوى الغرائز ونأتي نحن لنسميها العواطف . ومن اجل ذلك نروح نكتب الشعر، الذي نعرّفه كأسمى درجات الوعي الإنساني، في المرأة وجمالها الخلاب . ولو إن داجنا وُهب القدرة على الكلام، لقال عن الجاموسة في فترة نزوه مانقوله نحن عن معشوقتنا في زمن عشقنا . بل إن ذكر القطيع يمارس فعل القتل ولا يطلّق بالثلاثة، كحالنا، حين يرى ذكرا آخر يتجاوزه نحو محبوبته .

- ثم من قال لي ان هذه الفتاة الواقفة امامي الآن تريد الزواج مني وهي راغبة في ذلك؟ ربما تكون قد وضعت تحت ابطها فكرة أخرى عن شاب آخر أو ربما رجلا كبيرا في السن غنيا كعادة العوائل الغنية من هذا النوع .

ولو افترضنا انها ترغب في الزواج فإنها ترغب بالتأكيد بعدد كبير من الأطفال بدافع الأمومة التي زرعتها الطبيعة فيها . فما يعني الزواج هنا سوى أطفال سرعان ما يتكاثرون، وعما قريب ستتحول حياتك الى نهر آسن من الفوضى وتكون مجرد جسر لحيوات اناس آخرين .

ولو سلمنا جدلا إني تزوجت تلك المرأة من يدريني انها سوف تشبعني من الناحية العاطفية؟. ومن يدريني إنها ستربي أطفالنا كما ينبغي؟

مالها تقف أمامي الآن تنظر لي نظرات من لاتعرفني؟ هي نفس الفتاة ام غيرها؟ وما الذي يجعلها تلبس ملابسا خارجة عن المألوف؟ ألوان غير متناسقة، بتسريحة لم تعد شائعة حاليا؟. وحتى هذا الزي الذي تلبسه الان يبدو وكان زمنا طويلا قد مر عليه، ولم يعد زيا سائدا هذه الأيام .

نظرت لها ولم تبادلني اية نظرة تدل انها تعرفني . ربما تكون وقفتها تلك وطريقة ارتدائها للملابس وتجاهلها إياي هي إحدى الوسائل الأخرى للطبيعة لتجعلني انجذب اليها . مع ان كل حركاتها المثيرة، وأفخاذها الممتلئة المتماسكة، مثل إمبراطورية قوية، وتلك الوردة البشرية الجميلة الدائرية الملتصقة في وسطها، وعيونها المستطيلة المائلة لم تحرك فيّ ساكنا . ولم ارحل معهم حد الضياع.

لابد إنها سوف لن تتركني . فكما يبدو انها تستقرىء افكاري . انها الطبيعة، ولسوف تخلق الاسباب والمبررات التي تجعلنا نلتقي مرات ومرات لتحقق ما تريده مني وما دامت لاتعرفني فلاتجاهلها .

- مرة كنت واقفا بين جدران داخل المبنى نفسه، هي تمر بي خاطفة . لقد مرت بالمئات بل بالالوف ومنذ مئات السنين . انها لا تلبس الملابس السائدة للنساء . ملابس اخرى غير تلك التي رايتها بها قبل قليل . هنا يبرز صدرها أكثر من اللازم فأكاد أرى حلمتي نهديها والنهر الفاصل بينهما الذي يكبر أو يصغر تبعا لحركاتها لتريني تضاريسا بضة يانعة مثل جبلين متدثرين بالثلج، ومتصلين بالسماء . وهو ما يحولني شبقا جدا للحد الذي اكره فيه غريزتي لأنها تهبطني إلى مرحلة الحيوانية وهو ما ارفض الوصول إليه ولو سالت نفسي ما الذي فعَلته هي لانحدر معها لهذا الحد؟. لكان الجواب، الطبيعة وضعت أسسا للإغراء لا يمكن إيجاد تفسير عقلاني لها . وإلا ما معنى المناطق الخصبة في جسد المرأة؟ تلك التي كرست الديانات نفسها لكبتها ووصف علاقتها بالشيطان .

- مرة صعدتُ في حافلة وضعت مفاتيحي فوق احد المقاعد لاحتجزه لي ونزلت من السيارة لحين اكتمال راكبيها . وحين صعدت وجدتها تجلس قربي، لصقي تماما وكان معها طفل صغير جميل . فوضعت مرة اخرى حلقة مفاتيحي على مقعد بعيد عنها . وانزل من الحافلة، بانتظار اكتشاف ما وانتظارا لامتلائها، فطاردتني بنظراتها، وراحت تهمس للصغير بكلام تحاول من خلاله استثارتي، وجلب اهتمامي .

اصعد إلى الحافلة، فاجد انها تجلس في المقعد المحاذي للمفاتيح . ولفرط ذهولي فكرت :

-   هي لاتقصدني، هي تقصد ذلك الفتى الجالس امامها في المقعد . هو يغازلها وهي تجلس ساكنة، او ربما تكون هي هاربة منه . لماذا تهرب منه؟ لاكتشف بعد ذلك انها كانت تتابعني . هي قالت ذلك لي .

قال هو ذلك لي، واردف :

-       حين ودعتها وذهبت عنها وجدت ان الفتى كان يتابعني . وقف امامي، وقال لي :

-       انا شريكك . فلماذا تستحوذ عليها وتتركني؟

لقد حطمت الطبيعة كبرياء الإنسان، نظرة من الإعجاب أولا تتحول بعد ذلك إلى خضوع وانجراف نحو الدونيّة . لقد أكثرت الطبيعة جنس البشر، إلى الحد الذي باتت فيه الكرة الارضية لاتستوعبهم، فبدت مثل قارب يتصارع والماء بسبب حمله المفرط وسيغرق بعد قليل، بسبب الكوارث المتلاطمة، تلوث، صراع على المياه، حروب للاستحواذ على مصادر الطاقة، احتباس حراري . ولهذا أنا اكره حركات الطبيعة تلك التي حين تكتشف ان أحدا من كائناتها الحية، لم يعد بإمكانه التكاثر تنصب له حبل الموت مشنقةً تنهي بها حياته لانه لم يعد مجديا، وكانما خلقَت الجميع لغرض واحد هو التكاثر . ومع ذلك فانا أمارس العبث مع الطبيعة، دائما لأحقق وجودي من خلال ذلك التحدي نكاية بها .

قال :

- انا اتذاكى على الطبيعة . لاشعر نفسي بالتفوق عليها . فحين تجلس الفتاة قربي أمد يدي أتحسس يديها الناعمتين، وحين تدفع يدي اتوقف فترة من الزمن تعود لتمسك هي بيدي تسحبها تضعها فوقهما . لقد أعطت الطبيعة مفاتيح الاتصال للمرأة بشكل حصري، أما الرجل فهو الرتاج الذي أغلق على السر . سر الطبيعة الغامض .

يراهما الفتى فيسحب يده . ولا يدري ما الذي جاء به في هذا الوقت؟

يهمس الفتى لاتستحوذ عليها وحدك . يقول له، اذهب معها إن كانت هي تريد ذلك لاني لست ولىّ قلبها وارادتها . فهي ربما تعبث . ويسأله إن كان يريد عنوانها، فيغادر ومعه العنوان . ويطلب منه اخباره بالنتيجة، ليشبع فضول نفسه، غير الواثقة .

وفي مرة اخرى :

- وجدتها جالسة ومعي الفتى . فلا تعرفني ولا تعرف الفتى . هناك رجل آخر يجلس لصقها تماما يقبلها من خدها فترفض . اتامل عمرها فأجد انه قد زاد بشكل غير مقبول وبدت الشقوق والتغضنات على وجهها ورقبتها، فأتسلل مبتعدا ولا أرى الفتى بعد ذلك .

- مرة أخرى أراها في القطار . ( في نفس المكان الذي اعتدت النزول منه في مرات سابقة بالقاء نفسي منه لاصل الى حيث مكان عملي لان القطار لايتوقف الا في المحطات المقررة له والعجيب انه يسرع لااراديا في هذا المكان بالذات مكان الوصول، ربما ليجعلني اسقط . ولكني كنت ادمي نفسي للوصول في كل مرة بالقاء نفسي من القطار . ومع ذلك كنت اصل ) .

ويتساءل :

- ترى ما الذي عاد بها الآن بعد أن رحلت؟ لا بد إنها تبحث عني . لأنها تلقي تحيتها عليّ بإيماءة مثيرة وتفسح لي مكانا للجلوس قربها . يجلس قربها يمد يده صوبها فتصرخ وتطلب اعادة إشعال الضوء المنطفئ .

- ابتعد عنها، لكنها تدعوني مرة أخرى للجلوس قربها وتقول لي إنها لم تكن تدري انه انا، وكانت تظنني شيئا آخر وتقول لي متسائلة :

ـ لم لم تدعوني معك في تلك المرة ؟

هو السؤال نفسه يتكرر منذ زمن بعيد . وما يدريني الآن ما الذي تريده مني؟ ربما هي فعلا تريد الزواج مني، فتكرار الامر تاكيد على الاصرار . وكانت هي قد عرفت وتاكدت اني لا ارغب إلا في علاقة حرة تماما وبدون أية إجراءات . وربما وافقت على ذلك .

يتحرك القطار، وينظر عبر الزجاج فلا يرى أي شيء سوى وجهه بسبب الظلام المتفشي في الخارج .

- انه لايشبهني، هو قديم جدا وغريب وخال من كل المعاني، اتذكر إني كنت أراه في بعض الأحيان . هي تبحث عن شخص آخر إذن . أتناول كأسا من البيرة ثم كاسين .

يسال الولد الشاذ الذي انبثق من المكان مثل عشبة ضارة :

ـ هل هذا وجهي؟

ـ لاتعرف وجهك حتى تسألني؟ فاتقيا، من شدة القرف .

ابحث عنها لأسالها عن وجهي، فاكتشف إنها قد رحلت . ربما نزلت إلى قاطرة أخرى لتعود، وحسنا فعلت فانا غير مستعد للقاء بها .

تجلس أمامه الآن، في مكان آخر . جلسة من يدعوه إليه .

- إنها تطلب مني وعليّ أن ألبي رغباتها . تقول لي الآن انها مستعدة تماما للذهاب معي اينما اشاء . ولكن بعد أن أقنعها بمزيد من الكلمات المعسولة التي تحقق بها أنوثتها . هي تريدني مقابل المزيد من الغزل .

يتساءل لماذا هي تريد ذلك؟. هي بحاجة إلى المزيد منها إذن . لعبة من العاب الطبيعة .

- اجلس في مكتبي فأراها مرة أخرى . جميلة مشرقة، ليست هي، بل ربما غيرها . كانت تبحث عني منذ عشرات السنين، ووجدَتني الآن . وهي تسألني فيما إذا كنت نسيتها . تدعوني للذهاب معها، تفاجئني فارفض . تسألني لماذا؟ لأني أخاف . تسألني ممن؟ من نفسي ومنك . وتسألني :

- ولماذا؟ مع انك رجل؟

فأجيب :

- أخاف لأني أخاف ولا ادري لماذا . ولكني ادري إن التصرفات المفاجئة مربكة للإنسان تماما، هكذا أقول مع نفسي .

- تتوسل طويلا، فارفض، ترفع ثوبها لتريني جنون الطبيعة الذي زرعته تحت ثيابها . شباب صلد يشبه الكارثة وملابس داخلية تماسكت على جسدها مثلما تتماسك ألوان الطيف الشمسي لترتسم فتنتها فوق حبات المطر . فأرغبها بشدة، وأروح أتوسل بها، بعبودية، لترفض هي . ربما تفاجئها هي الأخرى ردة فعلي العنيفة .

اذهب مباشرة إلى النوم، لأحلم بها .

أراها مرة أخرى، لاتعرفني، ادعوها فترفض . أغريها بأشياء مختلفة لأتعرف على الأشياء التي ترغبها هي فترضى وتندفع باتجاهي .

يرفضها المسخ الرابض في ذاكرتي .

أروح أسير في الشارع وحدي . فمنذ عشرات السنين وأنا أسير وحدي ابحث، دون جدوى، عن امرأة تراودني عن نفسي، بمجرد أن تنظر في وجهي، ومن دون أية مصلحة مادية، برغبة صرفة، حب بحت تجاهي، لاحس بقيمتي .

انتظر أن يرن رقم هاتفها فجأة . أصبح لدي إحساس أن تتصل بي الآن .

يقرع جرس الباب فتدخل هي . انها أنثى ومن حقها الدخول متى شاءت ولن يمنعها احد حتى لو استغرب الجميع مجيئها . لأنها تعرف إنها مرغوبة ولا تثير الكثير من الشك، لأنها أنثى . ودليلي على ذلك إنها جاءت لمجرد السؤال عني . وهنا انا متأكد إن النساء اقل شعورا بالنقص تجاه الرجال من الرجال أنفسهم . فنادرا وجود امرأة غير مقبولة من الجنس الآخر، كما هو الحال بالنسبة للرجال . ولان المبادرة يجب أن تكون من حصة النساء فقط .

ولأنها تعرف إني وحدي واني انتظر رنين هاتفها، الذي يطأني مثل جسر عتيق . بسبب لهفة اللقاء بها . لقد جاءت كلها وانا الذي يكفيني اتصالها . ومع ذلك فانا لم اعد - كما أنا - متهيئا لها . وانا نادم الان لذلك لتضييعي أشياء صارت مهمة لي، كما تبدو البضاعة الكاسدة لتاجر افلس .

وبالنسبة لها هي لن يهمها لو هي عرفَت إني لست وحدي فبإمكانها الدخول متى شاءت باي عذر ولو السؤال عن الوقت مثلا أو متى يحين الخريف في بلاد لم يغادرسكانها الخريفُ، ولم تعرف طعما لغيره من الفصول . فهي امرأة وبيدها المفتاح الذي تولجه في قفل الطبيعة، فينفتح . اما أنا فرائف ملابسه التي تكدست عنده ولم يهنا بارتدائها .


العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2051 الثلاثاء 06 / 03 / 2012)


في نصوص اليوم