نصوص أدبية

بيوت في حَينا / جيكور

أشياء مفرحة .. وأخرى حزينة ..

نسرق من هذه ومن تلك، لنوهم أنفسنا بالفرح...

يكاد يكون اليوم* أشبه بالأمسِ، والأمسٌ يشبه ماقبله في حينا الدافيء الفقير..ليس هناك أشياءاً مهمة، الايام تمضي  بوتيرةٍ واحدة ورتابة  مملة..

بيوت شاحبة بلا ألوان، أقلّها شٌيّد بالطوب والاخريات بالطين الممزوج بالتبن،بيتنا يتوسطها فهو السادس من جهة دكان عبد عون.. وكذلك السادس للذي يأتي من جهة دكان سيد جابر ابو الطحين.

البيت الاول: بيت عبد عون..

ظلّ طوال حياته يتفاخر بأن دكانه هو أول دكان في الحي، حتى سكان الأحياء الأخرى كانوا يأتون للتبضع منه، كذلك يتباهى بأن بيته الذي خرج منه الدكان  أول بيت بني بالطابوق والجص بعد أن منح الزعيم تلك الاراضي للفقراء الذين هاجروا من ظلم الاقطاع ولعنة الشيوخ.

إحترق دكانه  ولاأحد يعرف السبب، ظل  يبكي أياماً داخل ذلك الدكان، لم تفلح معه  عبارات المؤاساة والتحمد على السلامه، بل صار يصمت أو يصرخ بوجه كل من يحاول التقليل  من شأن هذه الكارثة التي حلت به..

رأيت عبد عون قبل سنوات مُقعد، يجلس  أمام دكان كبير قالوا أنه بناه على أطلال الاول الذي مازال يتحسر عليه رغم مرور ثلاثون عاماً على تلك المصيبة كما يسميها هو.

البيت الثاني: بيت عباس القصاب..

سعد، نعيم، رعد، اووووه أقصد كريم، هكذا ينادي عباس القصاب على أولاده، يخطىء بأسمائهم وذلك لكثرة الاولاد والبنات، يظل يردد عدة أسماء حتى يصيب الاسم المقصود..

غرفة طينية طويلة تقابل الداخل من الباب الرئيسي الذي هو عبارة عن لوحة معدنية صدئة مؤطرة بالخشب،وعلى يمين الداخل من ذلك الباب الغريب غرفة طويلة من الطين أيضاً، كلتا الغرفتين سقفتا بالاعمدة الخشبية والحصران القصبية، هذا هو بيته..

زوجته الاولى في الغرفة التي تقع على اليمين، تبدو في عقدها السادس رغم انها أصغر بكثير، أولادها شعثين، سحنة صفراء وشحوب تعلو وجوههم، كنا نميزهم عن أولاد الاخرى من ذلك الشحوب والبؤس، أكبر أولادها قاسم وأصغرهم إعلية، أما مابينهما فلاأحد يعرف عددهم سواها.

زوجته الثانية تسمى الجديدة حتى بعد أن بلغ  بِكرها خضير ثلاثين عام، تعتني بأولادها ونفسها، من يراهم لايصدق أنهم أولاد ذلك القصاب البدين الذي يعمل في القصابة بلا دكان، يذبح المواشي، يأخذ كوارعها وجلودها ليبيعها في السوق، قالت زوجته الجديدة أنه يشرب بنصفها عرق والنصف الاخر لسد هذه الافواه الفاغرة..

رأيت خضيراً بِكر الجديدة قبل أعوام سألته عن أبيه، قال مات بتليف الكبد قبل عشرين عام، قلت وأمك الجديدة ؟؟ ضحك : مازالت تحّنُ الى ذلك الحي الدافيء وتبكي.

البيت الثالث : بيت أم فخري..

فخري مهووس في  تربية الحَمام، يقضي يومه على السطوح، لاينزل إلا لمشاجرة أوعراك مع زميل له في الهواية أمسك بطير له أو يكون هو من أمسك بطير ذلك الشخص..

تردد أمه دائما: لو كنت خلفت حماراً لنفعنا أكثر من هذا الحمار، فالحمير تعمل بجد ولاتجلب المشاكل والمصائب مثل فخري..

مصيبتها الاخرى هي إبنتها فخرية الخرساء، فهي جميلة، لعوب وطائشة، لاتعرف أمها الى أين تذهب في النهار، تبعتها مرات كثيرة، لكن الملعونة  تزوغ وتذوب مثل فص الملح بين الناس فيضيع أثرها وتعود أدراجها نادبة حظها على هذه الخِلفة التي خلفتها.

رأيت أم فخري قبل سنوات في الباب المعظم، سألتها عن فخرية، بكت : لقد هربت مع أحد الملاعين منذ سنوات ولم نعثر لها  على أثر.

البيت الرابع: بيت شياع الاعرج..

كم راهنت وتراهن معي أخرون على أن نذهب الى أي مكان دون أن  نرى شياع فيه، لكننا كنا نخسر الرهان .

 نراه في كل مكان، كأنه يطوي المسافات أويعبر الزمن، قيل (أمشى من شياع ) وهذا مَثلٌ صار يطلق على من يمشي كثيراً.. يعيش على راتبه التقاعدي، صوته رخيم نسمعه  يدندن مع نفسه، توسل به كثيرون أن يغني لكن دون جدوى،  زوجته طيبة، قانعة، تحرص على تعليم أولادها كثيراً لتعوضهم عن غياب أبيهم وتسيبه كما تقول..

رأيت إبنته عند باب إحدى الجامعات، سألتها عن شياع، قالت: مازال يمشي  يعاني من ضعف البصر ويحّنُ الى ذلك الحي الذي يعرفه شبراً شبراً كما يقول.

البيت الخامس: بيت أم سعدون المجنونة..

قيل أنها كانت تعمل مومساً، لها مجدها الطويل في مواخير بغداد قبل أن تنتقل الى هذا الحي، تابت عندما جُنُّ إبنها الوحيد سعدون لشعوره بالنقص والدونية كونهُ لايعرف أباه، وبسبب النظرات والكلمات الجارحة التي كان يسمعها في صغره وصباه،لجأ الى شرب الخمر مبكراً حتى ساعة جنونه..

جُنت أمه بعده بسنوات وبعد أن عملت بأشغال مرهقة وشاقة، يجلسان في النهار ويلعبان لعبة غريبة، تجمع أمه حصيات وتسمّيها  باسماء الذين ضاجعوها قبل حملها بسعدون فيختار هو أحداها فيُقبلّها ويفرح بها ظناً منه أنه عثر على ابيه الموهوم ..

لاأحد يعرف من أين يأكلان ومن يتكفل بعيشهما ؟؟ قيل أنها تزوجت من الجن وهم من يحضر لهما الطعام والشراب !!

يشاكسها بعض الملاعين فيهيّجون جنونها عندما ينادونها ( بارود ) فتبدأ بالصراخ  واللطم، تسبّ وتشتمُ أسماءاً كثيرة لاأحد يعرف سرها..

إلتقيت بجارهم قبل سنوات، سألته عنهما، قال مات سعدون وماتت أمه بعده بشهر.

 

البيت السادس: بيتنا..

أمي تحب أبي بطريقةٍ يكرهها هو، عنفّها مرة وأقسم أنه سيكون يومها الاخيرمعه إن هي  عادت وذهبت الى بيوت الشعوذة، بعدما رأها تضع ورقة صغيرة في قدح الماء وتبسبس عليها وتنفخ..

القرابة والاولاد تجمعهما أكثر من حميمية  الحب الزواج، فهي إبنة خالته وهو أبن خالتها كما يلتقون من جهة الاباء أيضاً.

تبرر خوفها بأنه سيتزوج عليها ويجلب لنا زوجة أب تسومنا سوء العذاب وتُصّير أخواتنا خادمات لها !!

 خوفها مصدره الحب الذي لاتجيد التعبير عنه، قالت أنه يحب النساء وهو جذاب، كلما يكبر يصبح أوسم وأجمل..، عيب ياإبنة الحلال إبنك أصبح أطول مني وأنتِ مازلتِ بوساوسك هذه، هكذا كان يقول لها..

 هي على يقين أنه لن يتزوج، لكنها تخلق كل مرة وهماً وتكبره حتى يلد الخوف من رحم ذلك الوهم..

مات ابي ولم يتزوج غير أمي،  أخواني وأخواتي تزوجوا جميعاً، لديهم أولاد،  في زيارتي الاولى الى الوطن بعد عشرين عام من الغربة، تجّمع حولي أولاد وبنات كثيرون، هذا خالكم، هذا عمكم، هكذا قالوا لإولادهم ..،  قبّلتهم جميعاً بفرح، سألت أكثرهم عن أسمائهم !! .

حنين يدفعني الى زيارة ذلك الحي، وصلت الى هناك بعد صراع طويل  مع ذاكرتي، لم أكن أظن بأنني سأنسى ملامح ذلك المكان، كل شيء تغير، بناية عالية فوق دكان عبد عون، ولجتُ الشارع بخطى حائرة وقلب خافق، أطفال يملأون المكان، يلعبون، يتقافزون، نساء وعجائز إتخذن من دكات البيوت مجالساً للحديث والنميمة، كنت أتطلع في وجوه الاطفال لعلي أجد شبهاً لصديق قديم لعب معي هنا قبل أربعين عام.

لم تسعفني ذاكرتي بمعرفة كل البيوت، رحت أعّد الابواب من جهة دكان عبد عون الذي إحترق، ومن جهة دكان سيد جابر ابو الطحين لعلي أتعرف على مكان بيتنا، إمرأة عجوز تجلس على عتبة الدار في حضنها طفلين يتشاجران، إختلقت ذريعة كي ألقي نظرة الى الداخل، القيت عليها التحية : ياأمي هل تعرفين اين بيت عباس القصاب؟؟

وبطيبة الأمهات ردت بأنهم إنتقلوا منذ سنوات طويلة من هذا الحي، فرّت عيناي الى باحة الدار في تلك اللحظات وراحتا تفتشان عن بقايا ذكرى أو رائحة من الامس  البعيد، لكن دون جدوى كل شيء تغير ولم يُبقِ الزمان حتى ظلال طلل حزين.

مضيت وبي رغبة للبكاء، آه لو إلتقيت وجها من تلك الوجوه التي أحببتها، لم أشم رائحة البيوت الطينية الدافئة، ولا رائحة القيمر واللبن اللذان كانا يفّحان من طاسات بدرية المترعة بالطيب، وجوه غريبة، عيون فارقتها البراءة، لاحقتني تلك العيون بإرتياب حتى أخر الشارع ..

 أين اليوم من الامسِ؟؟ أين الدفء الذي يضوع في القلوب، العيون التي تتطلع بفرح وكرم لكل غريب؟؟ كل شيء تغير، لم يعد للاشياء دفئها وعبقها القديم ..

 لكني عرفت الأن من هم الذين جمعوا المال لعبد عون بعد أن إحترق دكانه، وعرفت من هم الجن الذي كانوا يجلبون الطعام بسخاءٍ وصمتٍ  رغم فقرهم   لسعدون وأمه المجنونة.

 

قصة قصيرة       

 

جيكور

 

..................

  * لم أعنِ هنا حاضرنا الحالي وانما حاضر ذلك الوقت

    

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2057 الأثنين 12 / 03 / 2012)

في نصوص اليوم