تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

صـديـقـي الـعـجـوز / احمد غانم عبد الجليل

وكذلك صاحب الحانة، رغم أنه يعتبر من أقدم روادها وأكثرهم مداومة على الحضور، في الحقيقة لا أعرف عنه سوى نثار حكايات لا رابط بينها، قد لا أميز الحقيقية منها عن تلك المترنحة في خدر الخيال السكران، يرويها جميعا بطريقة محببة، وربما يفاجئني أحيانا بثقافة غريبة عني تغفو في بواطن خفية من ذاكرته متماهية الحدود...

في ذات المكان كان يجلس دوما، بعيدا عن الباب وضوضاء الشارع، يدندن كلمات أغنية تعود إلى الستينيات، يخبط كأسه على الطاولة كطفلٍ محتج حال انتهائها وإن كان يعرف أن أغنية أخرى، من ذات الحقبة الزمنية، ستليها في غضون ثوان، تضفي جوا كلاسيكيا غريبا على الحانة الصغيرة، يغلف جدرانها خشب البلوط، وسط سقفها العالي تلتقي الألواح المائلة حائلة اللون، تجعلها أشبه بكوخٍ للمشردين في ليالي الشتاء قارسة البرودة... لا أعرف أي صدفة دلتني عليها بعد تسكع طويل في شوارع مدينة كنت جديد التعرف عليها، أغلب روادها من المسنين، على شاكلته، كان المكان مزدحما على غير العادة، استأذنته أن أجلس إلى طاولته الصغيرة، فأومأ بحركة خفيفة من رأسه، صرنا نتبادلها لدى لقائنا كل مساء، دون أن ننبس بكلمة، وكأننا لم نفترق سوى برهة قصيرة، لم يلحظ تلك الدهشة التي علت وجهي وأنا أتلقى دفق كلماته المتنقلة من موضوع لآخر، دون أن يخطر في باله المشوش سؤالي عن إسمي الأول حتى، حدقت مليا في غضون جبهته الوردية العريضة والملتمعة في مواجهة الضوء الخافت المتسلل إلى خصل شعره البيضاء الخفيفة، تتوج عينيه زرقة غامقة تطيح بالحمرة التي تزرعها الخمرة وغبش أدخنة سجائرنا المتواصلة في حدقتيه...

فرانك؟... أبو علي!!... أهو فعل الخمر، حتى من قبل أن أرشف قطرة منه، الذي يختزل الزمان والمكان في ذلك الوجه العجوز، حتى سعاله وحشرجة صوته المعتلة بسنوات الكهولة يمطراني بدفقات دخانية من آخر أرجيلتين عببنا أنفاسها في مقهى حسن عجمي، أحاديثنا تستمر بلا انقطاع، يروي لي أشياءً لم أشهدها وأحدثه عن آمالٍ لم أتعرف إليها بعد، ونحن نجلس متقاربين على تلك الأرائك الخشبية المخلَعة، كانت تجمعني وأصحابا سبقني أغلبهم إلى الرحيل، بين عمرينا تجثم قرابة الأربعة عقود، غالبا ما أدخل المقهى متأبطا كتاب مستعمل أكون قد اشتريته من شارع المتنبي القريب بعد طول مساومة مع صاحب إحدى الفرشات المترامية على قارعة الطريق، يأخذه مني ويتصفحه، دون أن يفقه من كلماته حرفا، أمضى حياته أجيرا في حرفٍ عدة، لا ينفك عن السخرية من كفاف دنياه المتزايد مع كل عهد ازدهار جديد، يقهقه بشدة تساعدني على التغافل عن ضيق الحياة وسط قرقرقعة قطع الدامة والطاولة ورمي النرد الذي تعقبه الصرخات الفرحة والمتأسفة بصورةٍ مبالغ فيها ...

أخرج فرانك من جيبه صورة شاب أشقر وسيم عذب الابتسامة، تشبه صور نجوم السينما، يرتدي بزة عسكرية مرقطة، يتوسطه وامرأة خمسينية العمر، لا تزال تحتفظ بلمحة من جمال مشرق: كان ذلك قبيل سفر كتيبة جاك إليكم ... ضحك مكشرا عن أسنان صفراء يخالطها السواد: أليس هذا بغريب، أبناؤنا يذهبون إلى هناك وأنتم تأتون إلى هنا...

ـ مع الفارق طبعا، هم أسياد هناك، أما نحن فبالكاد نبارح جحورنا في الشوارع الخلفية للحصول على قوت اليوم.

هز رأسه سريعا كمن حار في حل أحجية غريبة، ثم راح بعبثية مخمورة يلعن كل الساسة، هنا وهناك ...

تلفتُ من حولي في شيء من الرعب، أحدق في الوجوه بريبة...

(أبو علي، أرجوك لنكف عن هذا الحديث الآن، علَ عيون ترمقنا، وآذانٌ تصغي لكل حرف، وأيادٍ تكتب في الخفاء)...

ينفجر العجوز الأمريكي ضاحكا، وكأنه قد تنبه لهذيان توجساتي: هللو... مرحبا بك في أمريكا، شمس الحرية...

يحتضن الصورة بين كفيه: آخر رسالة أرسلها إلي كانت مريرة، أوصاني بها على أمه، تلك الشمطاء التي توصد الباب في وجهي كلما ذهبت إليها، تظن أني أحاول الرجوع إلى أحضانها ثانيةً...

يتحدث عنه بعطفٍ أبوي كما لوكان ابنه حقا، وليس ابن زوجته السابقة، ألمح في عينيه رقرقة الدموع الهلعة، وفي نبرة صوته انكسار صاحبي في المقهى عندما يتذكر ولده الشهيد في الحرب الأولى والآخر الذي لم يعلم عنه شيئا بعد الحرب الثانية، انكسار شبه باكي، رثى غيابي عند الوداع...

(لا بد أن نلتقي ذات يوم يا عجوز)

قهقه بسخريته المعتادة: الذي يذهب لا يعود، ألم تفهم ذلك بعد، وحتى إن عدت فالله أعلم أين سوف أكون عندئذٍ...

أعرف عندما يحول الغضب والمرارة المرء إلى وحش يود افتراس الدنيا، عندما تصير الشهقات عواء ذئب مستوحد في البراري، فيما تظل دموع الغبن مختنقة في المحاجر، خبرت ذلك أكثر من مرة، لم أحاول الدفاع عن نفسي أمام مباغتة هجومه، رج الطاولة بقبضة غضبى هوت بالكأس وزجاجة الخمر على الأرض، بالكاد أبعده الجالسون عني، ووجهي المطعون باللكمات يتوهج نارا تأبى الخمود...

تركت الحانة، يشيعني هدير عواء ذئبي لا يعرف الكلل، يتعقب خطوي في الشوارع الضاجة بالحياة نحو مسكني المتواضع...

لم أرَ فرانك بعد ذلك سوى في التلفاز، تقف إلى جانبه زوجته السابقة متشحة بالسواد، يتشاركان الصراخ وذرف الدموع في مظاهرة كبيرة تندد بالحرب، كما كان يفعل ورفاقه أثناء حرب فيتنام، في الطرف المقابل للبيت الأبيض...

ـ قصة قصيرة ـ

 

احمد غانم عبد الجليل

قاص وروائي عراقي مقيم في عمان

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2150 الاربعاء  13/ 06 / 2012)

 

 

 

 

في نصوص اليوم