نصوص أدبية

متاهة / جيكور

لابأس عليك.. قلت له كي أخفف وطأة خجله كوني لست الشخص الذي قصده..

لاحقته عيناي وهو يتوارى، كان يلتفت إلي، يرى بعض وجهي، أرى بعض وجهه من خلال الشقوق والفتحات التي تحدثها حركة السائرين..

المكان مزدحم، الاكتاف تتصادم، كلمات إعتذار، نظرات غضب، الحر شديد، الناس تسير في أتجاهين متعاكسين  يقاطعها خروج البعض من المحلات والدكاكين، ثم مايفتأ المسير يعود الى رتابته الاولى..

الرصيف لايسع كل العابرين،ولكي اتفادى تصادم الاكتاف،كلمات الاعتذار ونظرات الغضب، كنت أنزل برجلي اليسرى عن الرصيف، هو أيضاً ينزل رجله اليسرى في ذات اللحظة رغم أن ما يفصل بينناعشرات الآمتار ومئات الاجساد المتحركة بسرعات وأتجهات مختلفة..

  خفقت الخطى كي اصل اليه، أردت أن أسأله هذه المرة، كان يبتعد بذات المسافة التي اسرع فيها وكأن خيطاً من الوهم بيننا يتحكم بالحفاظ على تلك المسافة ..

أعرفه، لابد أني رأيته من قبل !! ياإلهي يشبه من هذا الرجل؟؟ لم تكن اللحظة السريعة والالتفاتة الخاطفة كافية كي أرى ملامحه جيداً واتعرف عليه..

دلفت شارعاً فرعياً صغيراً لأتخلص من هذه الوساوس التي تراودني وتعكر صفو يومي عندما لاتسعفني ذاكرتي بتذكر اسم ٍ ما، أو شيء أحاول استحضاره ولايحضر.. حاولت أن اشغل نفسي بأشياءٍ لم اكن قد أعددت لها في برنامج جولتي هذه، الشارع الصغير يعجُّ بالعابرين والمتسوقين والباعة والمتسولين، كرنفال غير متجانس من الحاجياتِ والسلع، توقفت عند مصلح ساعات إفترش الارض ووضع عدته وساعاته القديمة فوق صندوق خشبي صغير، عدسة مكبرة التصقت على عينه بلاأطراف ولاذراع، يسندها بتقليص وجنتيه ومحاجر عينيه، ناولته ساعتي التي راحت تقدم وتؤخر في الأيام الأخيرة، ماجعلني اسأل المارة عن الوقت، قال لي احدهم ها أنت لديك ساعة وتسال عن الوقت ههههه؟؟!! من يومها توقفت عن السؤال..

وقبل أن تلامس يده الساعة رفع وجهه إلي، سحبت يدي وهرعت أشق صفوف الناس بسرعة، مخلفاً ورائي همهمات وشتائم من تدافعت معهم، إلتفت اليه أثناء عَدوي، كان ينظر إلي والعدسة مازالت ملتصقة على عينه ويضحك، كنت اسمع قهقهاته من بعيد !! هو ذاته، الرجل الذي هربت منه قبل قليل!! نفس الملامح لكن هذا أكبر ويرتدي ملابساً غير تلك التي كان الأخر يرتديها..

يخلق من الشبه أربعين، هكذا حدثت نفسي لأتخلص من هذا الكابوس الغريب، قبل لحظات كنتُ استمتع بهذه الجولة التي أعشقها من ساحة الميدان الى الباب الشرقي مروراً بشارع المتنبي وشارع النهر والمقاهي التي احبها، أو تلك الحانات التي تجرني عبارتها المغرية على واجهاتها الزجاجية المظللة (بيرة مثلجة) في هذا الصيف القائض، فلا أشعر ألا ونفحة النسمات الباردة تلامس وجهي عند ولوجي أبوابها الانيقة.

زجاجة بيرة (فريدة) من فضلك، قلت للنادل وهو يفتح صفحة جديدة في دفتر صغير يسجل فيه طلبات الزبائن..

عاد نادل اخر يحمل ماطلبت، وضع الزجاجة على الطاولة (صحة) ياأستاذ رمقني بنظرة غريبة، إنه هو!!!!

 دفعت الطاولة بقوة وهربت الى الشارع، أركض وأتدافع مع السائرين، سقط بعضهم على الارض، شتموا، توعدوا، حاول بعضهم اللحاق بي لكن دون جدوى كنت أسرع من الجميع، توقفت بعيداً عن الزحام، أتنفس بصعوبة، شعرت بالدوار، انه هو ذات الرجل الذي صادفني أول مرة، الساعاتي، النادل، من يشبه ياترى؟؟ لم تعد اكذوبة تشابه الاربعين تقنعني إنها خرافة ككل الخرافات التي حولنا . من يشبه هذا الشخص الذي رأيته ثلاث مراتٍ؟؟!!

سأعود الى البيت يكفي ماحدث لي ..آه نسيت محفظة نقودي على الطاولة في الحانة فيها كل أوراقي جواز سفري الاجنبي، هممت العودة الى الحانة، استوقفني شرطي بدين الى درجة أن كرشه لامس بطني وهو يسالني عن هويتي، أمسك ذراعي بقوة، حاولت أن أفلت منه، إرتعبت لانه يشبه الساعاتي والشخص الاول والنادل، ياإلهي انه يشبهني تماماً، !! لكنه بدين يعادل حجمي مرتين أو ربما ثلاث مرات..كلهم يشبهوني، المارة، الباعة، المتسولون، الشرطي، الساعاتي، النادل .. كأني انظر الى وجهي في مرآة متشظية..

يبدو أنه مغترب، هو عراقي، جواز سفره اجنبي، من أتى بك الى هنا في هذا الحر ياحظي؟؟ إطلبوا له الاسعاف، ضحك أخر هههههههه ومن اين تاتي الاسعاف؟؟ وهذه الحواجز الكونكريته والسيطرات والزحام؟؟

إذن ننتظره حتى يفيق من الاغماء، ضربة شمس، (ماعت روحه)** المسكين يبدو انه ترك هذا الجحيم منذ زمن طويل؟؟

فتحت عيني بصعوبة وعناء تمتمت :نسيت اوراقي في الحانة.. اية حانة؟؟ هههههههههههه يبدو أنه يحلم في الماضي

مالذي جاء بك الى هنا؟؟

 الوطن..

تناهت الى مسمعي ..

ضحكات ساخرة..

ههههه وطن.

 

قصة قصيرة            

 

 ................

*ماعت روحه :باللهجة العامية العراقية وتعني اغمى عليه

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2153 السبت 16/ 06 / 2012)

في نصوص اليوم