تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

نــاديـــة / أحمد غانم عبد الجليل

كما لو عاد وفي خلال عدة لحظات إلى أيام مراهقته الأولى وبالذات إلى ذلك اليوم الذي صادف ورآها في غرفة هيفاء، شبه عارية، إذ كانت تحاول قياس أحد الفساتين التي اشترتها مع هيفاء... فاجأها دخوله عليها الغرفة من غير أن يطرق الباب، بهت هو الآخر أمام جسدها الغض يتلألأ أمام عينيه كوهج البلور، تضرجت وجنتاها خجلا بينما كانت ذراعاها تنبسطان فوق صدرها، محاولتين إخفاء كنزيه اللذين لم يكشفا على رجل بعد، كانت أخته حينئذ في الحمام ولم يعرف أن في الغرفة أحدا، خاصةً وأن الباب لم يكن مقفلا، مرت لحظات على جموده، مأخوذا في مكانه، لا يدري كيف يمكن له التصرف، حتى سمعها ترجوه الانصراف بسرعة وغلق الباب وراءه... خرج ينوء بدهشة عظمى، وذلك المنظر يستفز كل خلجة في كيانه... ربما في البداية حاول محو ما حدث من ذاكرته، إلا أن الأيام راحت تحيل منظر جسدها العاري إلى هاجس يداعب فتوته النشطة، ويحفزها للولوج إلى عالم الفحولة، ولكن وفي نفس الوقت كانت بقايا مرحلة الطفولة والصبا في داخله تثقله ببعض الإحساس بالحرج والرهبة الذي حثه خلال الأيام التالية على التهرب من رؤيتها والجلوس في أي مكان تكون فيه، وكأنه صار يخشى عينيها اللتين كان يستمتع بنظراتهما إليه وهو يسرها بحكاياته ومغامراته الصبيانية بغية إثارة إعجابها بصورة دائمة، وشيئا فشيء، وبلا أن يدري اغرس وجودها المستمر أمامه أولى بذار الحب الخفي داخله، راودته بعد ذلك وبسبب تناقضات مشاعره، رغبة جامحة في رؤية أثر ذلك الموقف على قسمات وجهها ونظرات عينيها فعاود التقرب إليها وبطريقة فيها بعض المبالغة، كانت تتصرف بشكل طبيعي جدا إزاءه، غير أنها صارت أقل ميلا لمداعباته وتحرشاته، خاصةً تلك التي كانت تقوده من فرط حماسه إلى ملامسة أي جزء من جسدها...

بدأت غرائزه الجنسية تعلن عن أولى ومضاتها، فصار جسدها يجذب نظراته المتلصصة باستمرار للحملقة بمفاتنه التي شغلت باله في نهاره وأرقته في ساعات ليله الطويلة القاسية... أراد جذب انتباهها مجددا ولكن بطريقة أكثر إثارة، فتراه حينا يتعمد إظهار تفاصيل جسده أمامها وهو لا يرتدي غير سروال قصير يستر وركيه فقط وفانلة كان ضيقها الشديد يسمح له بإبراز عضلات كانت تشرع بالانتفاخ، وحينا آخر كان يمسك بيده سلسلة مفاتيح سيارة والده محاولا وبجهد أن يسمعها صوت ارتطام أحدها بالآخر وهو لا ينفك عن أرجحتها والتلاعب بها مبينا لها أنه صار رجلا ويمكنه قيادة السيارة، غير عابئ بما كانت تعرفه عن قيادته الركيكة والمتهورة إلى حد الحماقة، فقد رأته أكثر من مرة وهو يقود السيارة التي كان يأخذها خلسة من أبيه ليشق بها الشارع متمايلا ذات اليمين وذات اليسار من شدة السرعة الجنونية، غير مبال بصراخ المحرك الهادر ولا بصوت المسجلة العالي وكأنه يقيم حفل عرس في قاعة كبرى تقتحم ضوضاؤها كل جدران البيوت التي كان يمر من أمامها خيالا خاطفا...

ذات ظهيرة صيف حارة، وبينما كان في حديقة دارهم يدخن سيجارة، أخذها خلسة من علبة سجائر والده، رآها تخرج من باب دارها، فسارع لرمي اللفافة من فمه ودفنها بقدمه في طين الأرض، سار نحوها مسرعا حتى استوقف مسيرها تحت الشمس الحامية، قال لها: إلى أين في هذا الجو الحار؟

أجابته بنوع من التحفظ كما اعتادت مخاطبته في الفترة الأخيرة: إلى بيت صديقتي.

ـ سأوصلك، أنا أيضا كنت خارج بالسيارة.

ـ لا، لا داعي، إنه قريب جدا من هنا.

قال بإصرار لا يقبل النقاش: سوف أخرج السيارة حالا... عاد إلى داخل الدار منتشيا بفرحة كبرى وكأنه قد عاد إلى طفولة قد ودعها لتوه، فهي سوف تركب إلى جواره بينما يقود السيارة التي سوف تفصلهما عن كل الدنيا، اختطف سلسلة المفاتيح من جانب رأس والده الغاط في نومه ثم خرج وركب السيارة وأدار محركها، فكره شارد في العلاقة التي يمكن أن تجمعهما، فاليوم سوف يوصلها إلى بيت صديقتها وغدا يقنعها بالخروج معه وربما... سمع صوت ارتطام قوي، أحس بالمقود يرتج بين يديه، نقل بسرعة مذهولة قدمه من على دواسة البنزين إلى دواسة التوقف، حاول فتح الباب، إلا أنه اصطدم بالحائط الفاصل بين بيتهم والبيت المجاور والذي أرجع السيارة باتجاهه بدلا من أن يرجعها باستقامة نحو الشارع، نزل على عجل من الباب المقابل، يتبين ما أصاب السيارة من أضرار، وما كاد يفعل حتى صار والده أمامه، رفع رأسه إليه فعاجله بصفعة قوية، كانت كنار أضرمها في وجهه ولفح لهبها سائر جسده، التفت نحوها فرأى نظرة من الذهول ترتسم في عينيها وقد اكتسى وجهها هي الأخرى بشيء من الحمرة وكأن شيئا من ذلك اللفح قد مسه، تمنى عندها أن يرد لوالده تلك الصفعة صفعات بل لكمات ليبين لها بأنه قد أصبح رجلا مكتمل الرجولة وليس ذلك الطفل الذي يسمح لأي كان بإهانته، ولا حتى والده، حاول الدخول إلى البيت مواريا عنها ما يغتاله من خجل ومهانة، غير أن والده استمر في قذف سبابه وشتائمه في وجهه بعصبية كان لها فعل القنابل المدوية، لم يستطع أن يكبت حنقه عليه وعلى الموقف برمته أكثر من ذلك، فانفجر بغضب نيران عينيه متطايرة الشرر...

قال مزمجرا كالأسد الجريح: إن لم تسكت أحرقها أمام عينيك...

أحال نظرةً أخرى نحوها فلم يجد لها من أثر، ولم يدر منذ متى غادرت مكانها وإلى أين، أخذ والده يكيل الصفعات المتوالية على وجهه المحتقن، وضربات عصبية على رأسه وظهره، حاول الرد بكل طاقة لديه من غير أن يخشى شيئا أو يخاف أحدا، ولكنه فوجئ بمحمد ـ أخيه الكبير ـ يلف ذراعيه حول وسطه محاولا إدخاله إلى داخل المنزل، صاح به في خضم هيجانه: اتركني، أقول لك اتركني أو أحطم البيت على رؤوسكم... اتركني ولا تتدخل، لا يحق لأحد أن يضربني...

 في تلك الفترة كان جسد أخيه أضخم وأقوى بعض الشيء من جسده المتشنج، فتمكن بالكاد وبعد عناء شديد من إدخاله إلى غرفته سحلا تقريبا وإقفال بابها عليه على أمل أن يعرف بعض الهدوء طريقه إليه، ولكن الإنهاك الذي ألم به كانا الأقرب إليه فنام بما كان يرتديه من ملابس لساعات طوال، خائر القوى تماما، تخللتها أحلام كثيرة تداخلت جميعا فيما بعضها حتى نسجت حلما واحدا، لم يتذكر منه شيئا عندما استيقظ سوى أنها كانت تتمثل له بكل جزء من أجزائه...

أمضى أياما كئيبة أسير غرفته ووحدته فيما كان الجميع يتجنب الحديث معه وكأن شخصا غريبا عنهم قد سكن جسده اليافع، هو أيضا أدركه إحساس الغربة ذاك وأخذ يتعمق داخله مع الأيام، فكثر خروجه مع أصحابه من دون أن يفكر بالرجوع إلى المنزل إلا للنوم فقط، متحديا بذلك سطوة والده التي حاول جاهدا فرضها على تمرده المستمر، من غير أن يحصل على نتيجة تذكر، بل ربما عكس ذلك ما كان يحصل، فقد كان يكثر من عناده لا لشيء إلا لمجرد العناد وحبا في المواجهة، منتقما بذلك من الصفعة المذلة التي تلقاها على مرأى ومسمع منها، لازمته ذكرى ذلك المشهد طويلا وكأنه يتكرر على الدوام، يسحق ملامح وجهه ويخنق العبرات في صدره، عبرات كان يخشى أن تتحول يوما إلى نوبة بكاء قاهرة تزيد رجولته المتنامية غزيا...

عاد يتحاشى رؤيتها رغم ما كان ينبض في عروقه من شوق وولع مهووس بها، مجنبا نفسه نظرات السخرية أو ربما الشفقة التي قد تسكن عينيها إن حدث والتقتا بعينيه ولو عن طريق الصدفة، غير أن الأمر قد تغير تماما بعد ذلك عندما كانت تجلس مع أخته في صالة دارهم، كان يطاردها بنظرات منتشية بزهو الظفر والتباهي، ورغم ذلك ظلت مبهمة المعاني بالنسبة لها، مثيرة الاستغراب وربما القلق أيضا داخلها وليس إحساس الفضول أو حتى الغيرة كما كان يظن أو يتمنى ... كان عائدا لتوه من أول بيت بغاء استدل وأصحابه عليه، ولا تزال رائحة الفتاة اللعوب التي كان برفقتها تخالط أنفاسه، وصوت ضحكاتها المتأوهة يغازل أذنيه، ولا تزال خلجات حسده تحتفظ بسعادة أبهى وأعمق ارتعاش عرفته...

عالم جديد ولج إليه وعلاقات كثيرة احتلت وقته وعقله على الدوام، منها ما أشبعت جسده النهم ومنها ما أوشكت أن تلبي متطلبات روحه وقلبه... أو إنه هكذا كان يحب إيهام نفسه ليخرجها من فلكها، فكل تلك المحاولات كشفت له عجزه عن إنكار ذلك الحب المستحيل نظرا لفارق العمر بينهما، بل أن تلك العلاقات بمجملها صارت في نهاية المطاف تزيد عواطفه جموحا وقلبه الفتي توقا نحو كيانها كله وليس جسدها فحسب، فكان لا يرى سواها أينما ولى وجهه وكأنها هي الوحيدة التي خلقت من أجله، من غير أن يرى في ذلك أية مبالغة... كانت تبدو أمامه كحصن منيع لا يملك الجسارة أبدا على اختراقه، هو الذي كان يجد في نفسه جرأةً كبيرة تمكنه من اقتحام المملكة الخاصة بأية فتاة تعجبه ليكون هو فارسها الأول في أغلب الأحيان، ليس ذلك فقط... إنما كان يدخل مع أصحابه في مراهنات على مصادقة الفتيات، وغالبا ما كان يظفر بالرهان بسبب قوة شخصيته التي كانت تخضع كل فتاة يتعرف إليها، ولعله من خلال ما كان يجده في انصياعهن لكل رغباته ونزواته كان يسترد إن لم يكن كل عنفوانه فبعضه، ليستعيض بما كان يمده به من إحساس بالثقة عن مشاعر الخيبة ومرارة الحرمان التي تراوده حالما يراها...

 فجأة ومن دون مقدمات اكتنفه هاجس مخيف أرعبه وكاد يودي بعقله إلى وادي الجنون،  لما هيئ له وجود علاقة خفية بينها وبين محمد، خاصة عندما أصبح أخوه يوصلها ويرجعها من الكلية بسيارته، فصار كل حديث عرضي يجمعهما أمامه يوغزه بدبابيس الغيرة، فرغما عنه كانت ترتسم أمامه شتى الصور المستوحاة من مجاهل مخيلته التي ألقت مغامراته وعلاقاته المتعددة مع صاحباته بصماتها عليها، حتى صارت تلك التصورات لديه كجمرات نار أخذت تتساقط الواحدة تلو الأخرى في روض هواه فتشعله حريقا ضاريا إن خبا حينا اهتاج أحيانا وأحيان... لم يجد ما يخلصه من نير حيرته تلك شيئا، ولا حتى تعبيرات الوجهين الغامضة، خاصةً قسمات وجه محمد الصامتة دوما والمستفزة في أكثر الأوقات، فلا تفصح أبدا عما يكتنفه من مشاعر سواء كانت مشاعر فرح أم حزن أم حب أم حتى كره... خشي أن يفاجأ ذات يوم بمصارحة أهله بحبه لها وعزمه على خطبتها، وبالطبع لن يصطدم بمعارضة أحد، فهي وأهلها الأقرب إليهم من كل الأقارب، ولم يجدوا أنسب منها ليتزوجها، لا سيما إنه كان على وشك إنهاء دراسته الجامعية في كلية الهندسة، عندها لن يعرف ما عساه أن يفعل...

كاد يتمكن من تحرير نفسه من قيود تردده بسؤاله ما إن كانت هناك علاقة تربطه بنادية،  من غير أن يعرف إلى أين يمكن أن يصل ذلك الحوار بهما، إلا أن نبأ خطبتها لابن عمها الذي نزل عليه كالصاعقة كشف له وهم كل ما فكر به وبالغ في التخوف منه، خاصة وهو يرى طيف الفرحة المشع من عينيها والتعبيرات الصامتة المرتسمة على قسمات وجه أخيه، وكأن سحابة من البلادة ألقت بظلالها الباهتة عليه، فمحت عن ملامحه معالم الحياة...

 حان موعد حفل الزفاف بعد أن استعبدت حياته فترة من الشقاء المضني، في البداية قرر أن يفتعل سفرة إلى الشمال مع أصحابه لينأى بنفسه عن أية حماقة قد يحثه ولهه العميق على ارتكابها، إلا أنه ذهب إلى حفلة العرس بأبهى حلة وأفضل حال، متحديا كل الوهن القابع في ذاته، قضى جل وقته في الحفل ما بين المزاح وإطلاق الضحكات المجلجلة المدوية في كل مكان، وما بين الرقص الغريب، استعراضي الحركات، أمامها وأمام العريس كالسكارى، رغم أنه لم يشرب في تلك الليلة سوى زجاجة بيرة واحدة، كان يرمقها بنظرات تنبئها بمدى زهو جمالها المشع وأنوثتها الصارخة في ثوب العرس، وكان بين الفينة والأخرى يدسه بنظرات متفاخرة برؤيته جل مفاتنها العارية قبله بكثير...

في تلك الليلة لم يستطع منع خيالاته من السعي إلى غرفة أحد الفنادق، حيث أمضيا بين جدرانها أحلى وأمتع ساعات حياتهما، للتلصص على أدق التفاصيل التي كانت تجمعهما، حتى أنه أمسى يتهيج من مكانه النائي لطراوة ملمسها الدافئ وشهقة وجدها الأولى، أوشك رأسه على الانفجار، وفكرة مجنونة ما فارقت ذهنه الهاذي بسبب إفراطه في تناول الخمرة بعد انتهاء الحفل إلا قرابة طلوع الفجر، إذ أوحت له عضلاته المفتولة وصلفه الحاد بأن يقدم على انتزاعها عنوة من بين أحضان زوجها ومن ثم إجبارها على الفرار معه لكي تكون له وله وحده، طول العمر...

عندما رآها لأول مرة بعد زواجها باغته إحساس غريب امتعض منه كثيرا ولم يستطع تفسيره،  فقد بدت أمامه واحدة أخرى لم يعرفها من قبل، كانت مختلفة تماما عن السابق، صحيح أن وجهها، كما هو حال جسدها، أصبح أكثر إشراقا وفتنة وأنضج أنوثة، ولكنه... ولكنه كان يتوهم ملامح وجه زوجها تتسلل إلى قسماتها الهادئة...

 

* من رواية بين الجنة والنار

العراق

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2217   السبت  1 / 09 / 2012)

في نصوص اليوم