نصوص أدبية

غسل العار

ali salihjekorأهدي هذه القصة الى

المفكر المبدع صائب خليل

 

 


غسل العار / علي صالح

 

حلوة هي نَوّارة، خفيفة روحها كالنسمة، فَرِحة بربيعها الثالث عشر، تَلّفعت قبل أيام بعباءة أمها وراحت تتبختر بها أمام أترابها، كيف لا وقد تبرعم صدرها، وخضَّب شفتيها لون الكرز، وإكتسى جسدها اللجيني البض ثوب الأنوثة الباكر، في بيت ميسور ينعم أهله بما لذّ وطاب من مأكل ومشرب وملبس.

غير أن الطفولة لم تفارقها، نما جسدها فأصبحت وكأنها في العشرين، والوعي مازال في عمره الثامن، أحلامها بريئة كبراءة وجهها العذب، تلاعب الصغار، تركض معهم، تثب، ترقص وتغني، غير عابئة لنظرات الذئاب المسعورة وهي تغرس أنيابها في تضاريس جسدها الجميل، لأنها لم تكن تعي تلك النظرات، ولاتعرف النوايا الخبيئة في رؤوسِ أصحابها..

يتفاقم خوف الأم كلما كبرت نوّارة، لاسيما وهي العارفة بإبنتها، تعلم أنها طفلة بجسد إمرأة، لا أحد يلومها عندما تهرع الى الشارع وتبحث عنها بخوفٍ وهلع، تطرق الابواب، تسأل الصغارعنها قبل الكبار، فلا تعود إلا ونوارة معها، قابضة على معصمها بشدة، تأنبها حيناً، وتنصحها حيناً أخر..

يا إبنتي أصبحت الآن إمرأة، لايليق لمثلك أن يلعب من الصغار، لا تذهبِي بعيداً ياحبيبتي، أياك ان تأخذي شيئاً من أحد، ولاتسمعِي كلام أحد، فالدروب تَعّج بالوحوش الضواري، وتمتليء بأولاد الحرام..

تبكي الأم رافعة بصرها الى السماء داعية الله أن يُتمم عقل هذه الصغيرة ويكمله، مثلما أكمل جسدها وصوره بهذا الحسن..

وبعد أن تفرغ من كلامها ودعائها تلتفت نحو نوارة التي إنشغلت بتسريح شعر دميتها ولم تكن قد سمعت حرفاً من النجوى التي تحرق قلب أمها..

مضت شهور وألسنة الناس تلوك بسيرة نوارة، نوارة راحت، نوارة جاءت، نوارة صعدت، نوارة نزلت، نوارة نوارة، نوارة..

لم يكن في حديثهم سوى النميمة الكاذبة والمدفوعة من حسد يضطرم في قلوب مريضة، على بيت ميسور، مستور، لكن الاقاويل وإن كذبت، لها صداها الجارح الذي يحّز القلب ويدميه..

تناهى الى سمع أبيها وأخويها شيء من تلك الأقاويل التي لم ترحم طفلة غريرة بريئة، فأحكموا عليها الرقابة ومنعوها من مغادرة الدار، حبسوها لذنبٍ ماإقترفته ولم تعرفه، ذنبها أنها غزالة صغيرة تحيط بها الوحوش، في غابة بشرية لاترحم، حيث يزرعون الفخاخ في طريقها، ويحصون عثراتها الطفولية البريئة..

حتى أبوها وأخويها لايقّلون وحشية عن الأخرين، ولايختلفون عنهم، مادام شبح العار ينشر غلالته السوداء على أفئدة وأعين الذين لو أتيح لهم وأد البنت، لما تأخروا..

وذات مساء خريفي داكن، إختفت نّوارة، فَتَشت أمها البيت كله، خرجت حاسرة الرأس كالمجنونة، تطرق الأبواب وتسأل العابرين بحرقة والدموع تنهمر من عينيها، تلطم وتصرخ، بحث الرجال والنساء، فتشوا في كل مكان، لكن دون جدوى، لااثر لنوارة..

 كان أبوها يصرخ، شابكاً أصابعه على رأسه وقد خالطه شيء من الجنون والغيظ الممتزج بشعور العار، العار الذي جلبته له إبنته، العفة التي إنتُهكت والشرف الذي هُدِرَ، تمنى لو أنها لم تكن، تمناها حيضة سقطت من رحم أمها، أنساه غضبه أنها إبنته، صغيرته التي يحبها مثل روحه، غمامة العار حجبت بصره وبصيرته، شحذ همة أولاده، تصارخوا بهستريا مسعورة، لطموا جباههم، صروا أسنانهم من الغيض، هددوا، توعدوا، آه لو أمسكوا بك يانوارة، سيصبون حمم آلاف السنين من القبلية على رأسك الصغير، هاهي العصبية تنفض الركام وتطل برأسها مع رؤوس الجاهلية التي إرتدت ثوب المدنية، سيمزقون جسدك بأنيابهم أيتها الغزالة التي جلبت العارلأهلها..

طال بحثهم ولم يقعوا على أثرٍ لنوارة، إنتصف الليل أو كاد، بدأ الناس ينصرفون الى بيوتهم بعد أن تملكهم اليأس، قال بعضهم هربت مع عشيق، وقال آخر إستقلت سيارة مع رجل غريب، قالوا الكثير، قالوا وقالوا وقالوا، نسجت أخيلتهم المريضة وماتنضح به ضمائرهم عشرات الحكايا والقصص..

وبينما الأهل متحلقين في الدار، بين ناحب وباكٍ، ومهدد، ومتوعد، سُمِعَ صوتاً خافتاً، صوت تململ كأنه هذيان النائم، من زاوية البيت التي يقبع فيها التنور، هرعت الأم نحو مصدر الصوت، ياإلهي، نوارة إبنتي.. فَزّت نوارة وركضت بلهفة نحو أمها في العتمة..

آآآآآآآه.. صدرت منها صرخة ألم، دَنت أمها منها، هالها مارأت، الدماء تسيل من أعلى فخذها الى ساقيها فتخضب ثوبها الاصفر الطويل..

ياويلي، لطمت وجهها وشقت ثوبها، ياويلك سيقتلونك يانوارة، من فعل بك هذا؟؟ ليتك لم تعودي، ياإلهي نجها من هذه المصيبة، إنها طفلة، وهم لايرحمون..

وقبل أن تجيب نوارة على صراخ أمها، إلتمعت ثلاث نِصال في العتمة، أطبقت كف قاسية على فمها،، لم تمهلها الدفاع عن نفسها، خنقت صرختها، أنغرست مدية الأخ الهائج في صدرها اللجيني الغر، تبعتها مدية الأب، فمدية الأخ، صرخوا والدماء تغطي وجوههم وأيديهم، غسلنا العار، غسلناه، مُوتي، فبموتك:

 حياتنا..

 شرفنا..

كرامتنا..

همد الجسد الفائر بلاحراك، وإنطفأت جذوة الفرح الطفولي في العينين العسليتين، إنبلج الصباح والجسد مسجى على الأرض، في يدها الصغيرة دميتها الممشوطة الشعر، وإلى قربها الصفيحة المعدنية التي حَزّت فخذها وأدمته، عندما أفاقت من غفوتها قرب التنور وهرعت لإحتضان أمها..

 

علي صالح / جيكور

 

في نصوص اليوم