تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

عند شواطئ أندلوسيا

ahmad ghanom رافقتها ذات مرة حتى دخلت كنيسة صغيرة عتيقة البنيان، تبرز من واجهته نقوش وجوه عدد من القديسيسن، أسفل كل منها نحتت أحرف لاتينية متآكلة، تركتني على مسافة منها ودخلت بمفردها، توقد الشموع وتطيل من الصلاة والابتهال، تطلب، مثلما تفعل دوما، السلام لروح أخيها وجدتها ووالدتها التي صعدت روحها إلى عنان السماء ولم تبلغ حبيبتي العشرين من العمر بعد، كان عليها الاعتناء بأخيها الصغير قدر ما تستطيع أمام وهج رعونته المراهقة وصلف شخصيته الحرون رغم شدة تعلقه بها هو الآخر، بينما كان الأب يقيم في مدينة أخرى بعيدة ليؤمن لهما احتياجاتهما، والجدة التعبة المسنة تمضي أكثر الوقت في سرد الحكايا القديمة ولو لنفسها إن لم تجد من يصغي إليها...

انتظرتها طويلاً على أريكة تستفيء بأغصان شجرة كالبتوس عالية محنية الجذع في ساحة قريبة حتى أصابني الملل ثم كاد الضجر يقودني إلى ترك المكان، رفعت رأسي نحو محيط السماء داكنة الزرقة، الغيوم تسبح فيه على شكل مراكب صغيرة يمكن أن تبعثرها أي هبة ريح تلاعب خصلاً من شعري المجعد، ثم أبصرت الأرض كجدارية بيضاء تحتاج لالتهام الألوان النقية، تمتزج فتفرز ألوانا أخرى متحيرة، ترسم اللوحة التي لم تجنح في خيالي ولم يسبقني لفكرتها أحد، ربما بابلو بيكاسو كان يجلس جلستي هذه، وعلى هذه الأريكة بالذات، شارد الخيال وراء خطوط لوحة "الجُرنيكا"... تسمرت أمامها وقتاً لا أدريه في متحف الملكة صوفيا بعد وصولي بيومين برفقة بعض زملائي في البنك الإسباني ـ العربي (I.S) كنت العراقي الوحيد بينهم في الدورة المحاسبية المقامة في الفرع الرئيس بمدريد، فرصة كانت بعيدة المنال بالنسبة لي، أوشكت على اليأس أن يفي قريبي الذي غادر العراق منذ أكثر من عقدين ونصف بوعده ويرسل لي عقد العمل في طرابلس، طالبني قبلها بدخول عدة دورات تؤهلني للوظيفة الحلم لأي متسكع بعد الحرب، تتصيده بؤس الذكريات في كل وقت وأينما ولى وجهه، لا يبرأ منها إلا في بعض حالات السكر الشديدة مجنونة الهذيان ثم يصحو على شخبطة الورق المبعثر أمامه، تشكَلَ بعضها رسوماً معوجة مرتبكة الخطوط، دعمّها بقراءات عديدة عن مبادئ فن الرسم وبزيارات طويلة لجاره الطالب في كلية الفنون الجميلة... أخذتني رعدة قوية تنعي نبأ مقتله على يد بعض المسلحين، مزعوا لوحاته وزملائه الذين أصروا على إقامة معرضهم التشكيلي المشترك الأول في إحدى حدائق متنزه الزوراء، رياض الكثير من حكايا العشق، أول قبلة وله مراهق حصلت عليها هناك، خلف شجرة متينة الجذع، على ضفاف بحيرة اصطناعية يتهادى فوق مائها البط بخيلاء مبهج، أول لمسة صدر مكهرّبة، أول ترنيمة شبق وأروعها في حياتنا...

 ماذا كان إسمها، ما مواصفات جسدها، وجهها، ملامحها؟... أكاد لا أتذكر شيئا عن ذلك بالمرة...

 "أول مرة تحب يا قلبي وأول يوم أتهنى..." أخذت أتمتم بكلمات الأغنية العندليبية حتى رأيت لوسيا تتقدم نحوي بتوئدة وكأنها آتية من سفرٍ طويل على الأقدام...

ـ ظننتك سوف تبقين هناك معتكفة ولن تخرجي إلا وأنتِ في زي الراهبات... قلتها ضاحكا.

ـ أنا أيضا خفت أن تسيطر علي الفكرة وأبقى هناك إلى الأبد.

 نظرت إليها متحيراً فيما تقول وتعني بالتحديد، واجهتني بنظراتٍ غريبة تنفض أثر الدمع المنزوي أسفل عينيها، باغتتني بجدحة عينين متفرسة وبنبرةٍ تتوسل المزيد من التأكيد الجازم الذي لا يرتضي للشك مدخلاً: تحبني؟؟؟...

 أخذتها من يديها الرخوتين المعروقتين باتجاه ركن منزوٍ من الشاطيء، أردت استعادة روحها المضطربة بالكامل من خفوت ضي الشموع التي لا تتوقف عن الذوبان بعد ذهاب من أوقدوها وعودتهم إلى سوح الحياة الماضية على عجالة من أمرها، كانت في أشد حالات غموض انكسارها، حزنها، وجعها... وشهوانيتها أيضا، استلقينا متجاورين، أشعة شمس الظهيرة الحامية كانت تتكسر عند نتواءت الصخرة مدببة الحافة والمنحنية فوق رؤوسنا المتربة ، ينحسر ضياؤها عند أسفل بطني وطرفي قميصي مفتوح الأزرار وخصرها الرشيق الذي راح يتراقص في توغله بين ثنايا بساط الرمل الناعم من تحتها... ذراعاها تتشبثتان برأسي وكتفي وظهري، وكأنها تخاف أن أتركها على حين غفلة فلا تبصر أمامها إلا موج متراخٍ كما لو كان يرنو نحو الجمود في ساعة القيلولة، تناثرت خصلات شعرها فوق بلوزتها القطنية الرمادية التي توسدتها، خلعتها سريعاً فور بدء تسلل أصابعي من تحتها، ثم ألقت حمالة صدرها بانفعالٍ يملي عليه جنون الشبق أوامره ولم تعد لارتدائها إلا عند نهوضنا، مستمتعة بما يستنشقه نهداها من نسائم بحرية...

 أخرجت من حقيبتها سيجارة وناولتني أخرى، سحبنا ونفثنا أدخنتها باستمتاع النفس الأول والشهقة الأولى، جال كلٌ منا في ملكوت صمته الخاص، نسمع أصواتاً مختلفة مبهمة، لا نهتم بتمييزها، إن كانت تصدر عن إنسانٍ أو طير، العالم يتجوف ثم يتكور من حولنا، يصير فقاعة تقلنا إلى شيء من السرمدية المتهادية على وجه البسيطة... أيقظني من شبه غفوة أردت ألا أفيق منها سؤالٌ لا تمل طرحه من حينٍ لآخر، عسى أن تهتدي ذات مرة إلى إجابة تبحث عنها دون سواها:

(ما الذي أتى بك إلى هنا بالتحديد؟...)

 

مقطع من رواية

أحمد غانم عبد الجليل/ العراق

 

في نصوص اليوم