نصوص أدبية

زياد كامل السامرائي: خطأ بيضوي

ziyad khamilalsamaraiكنت قد خرجت للتو، لم الحظ ذلك، فلدي عينان واسعتان أرى بكل لطف مواضع قدري المحتوم لمثل هذا الاندفاع الاستثنائي، فم يخربش أرضية غرفة لا طائل لوجود تلك الاحراش البغيضة التي لا معنى لها الآن، ولي كتفان ناعمان ايضا لم يكتملا، هي أكثر بروزا من هذا الزغب المتناثر دون انتظام على جسد كأنه عشب لم يرتو بعد.

كانت رحلتي شاقة حقا، وهي ببساطة مخطط لانتقالي، بقدر كاف من الدقة والبراعة، الى كائن يفصلني بمثل ما يعتريني وأحيانا يقودني الى ساعات لا نهائية من النزف الواقعي بغية الانطلاق بي مع الأجيال السابقة، ولم  أكن خائفا بما يوازي شعوري بشيء من الخطر يحاصرني لأن كل ما سيأتي بعد تلك التحولات الجذرية في عروقي النافرة، يتركني مقبولا لما أحمل من ملامح وصفات لطالما أوجزت أحلامي اختراقها.

إنني لم أفعل شيئا مختلفا في تلك الرحلة العظيمة والعسيرة، ولا أزعم فهم نبوءتي وتحجيم ضغطها المتواصل لجذبها لي أو انفصالي عنها.. بدا لي في حينها، بأني مأخوذا  ببقية الدهاليز الخفية، مغمورا بكل المنعطفات المعتمة اللزجة، أنقاد إليها دون احتجاج أو رفض.

لم أفعل شيئا غير التلذذ بإشباع غريزة التحول، انه لمزيج هائل من ألتوق في أقصى حالته، والجوع الجدير بتلك الغرائز.

كان هناك دوما شيء يحتضر وينفد، وآخر ينمو ويتسلق في جوفي، انه صوت لا أثق به كثيرا له خصائص الموسيقى في الدفاع عن طبائعنا..

كنت أسير بذلك الاتجاه المبهم الشائك بسوائله الفاتنة والذي أورثني عذاب الليل وسخط النهار كدمية تأبى التغيير. واثقا من وسائلي الحيوانية المسالمة الحانية والصالحة للترويض بيسر، سبر غوره، ولأحدد نشاطي المألوف وليزرع بي ذلك الاندفاع المجنون والمعقول في آن معا ، استعدادا للدفاع عن نفسي لمرحلتها القادمة.

لم يكن ما أنجزته بتلك الصرخات الأثيرة داخل غرفتي البيضاء المتلألأة غير التوحد.. استكمالا لصفاتي وخداع كل المخاطر التي تحيط بي بما يوصلني الى اللاشيء، أو المثول أمام قنواتي المظلمة يائسا تحت وطأة الاكتشاف العاصف.

كان ذلك العمل مألوفا لدّي منذ الساعة الأولى، كنت أصغي لسلالاتي التي اندحرتْ حيث غيّبها ما ارتكبته من حماقات وانساقت لرغبات مستحيلة.

تلك المفاوز الشرسة من فراغ وأنين، تركتْ صداها هنا في إصغائي الممزّق وبقايا من رذاذ يتهاوى عند غسق أغنيتي..

حاولت أن أصحح من اندفاعاتي المقذوفة لقلة الهواء، وكوسيلة للحفاظ على غرفتي من أي تصدّع يؤدي الى إفساد خططي الجهنمية، فما فائدة المكابرة عند الهزائم إذا كانت الأولى مبدأ لا يعوزه سوى عظمة عمياء!

كذلك لتجنّب كثير من الحيوانات التعيسة المفتشة عن فضولها وأنانيتها الخطيرة بانوف قادرة على أن تكشف تألقي الساذج وغاياتي المطرودة من خطيئتها المتسارعة في صورتي الثقيلة المستحوذة على فظاظتهم.

حيوانات شرهة تأتي من كل شقوق الأرض، المستسلمة لتحرياتهم الدبقة.. إنها بمقدورها أن تنجّذب لإشاعة الذعر في أوصالي، ولإحباط كل ما يمسّ تلك المخلوقات البليدة ضراوتها، عليّ ان استكين واصمت وأنا مفتتنٌ بحالة التبصّر الى ما ستؤول إليه تلك السُخرية من هذا الشيطان النافخ في أساطيري الهشّة، فكل أعدائي تغويهم قشرتي البيضاء وشهوتهم الرجيمة إذا ما تصدّعتْ، ولا تحيدهم عنها غير السِنة المُصادفة البلهاء.

أما براءة محاولاتي للدخول في جسد السذاجة الأولى- من وجهة نظرهم المحايدة -  فتُعدْ من أخطر الاعترافات لإخفاقهم في الوصول الى زوايا شكلي النهائي. ليس هذا حسب ما يجعلني أكثر حرصا في ديناميكيتي للوقوف دفعة واحدة استعدادا مني للمس الحقيقة، بل لتلك التفسيرات الخاطئة لكل الإجراءات الاحتياطية التي اتخذها من سبقني في الصراع المزعوم، وان الشيء المرجّح في تصريحي الملتزم، هو هذا السهل الوفير لقراراتي المفترضة الحاضرة التي تتخذ من الخطر طريقا موفقا للنجاح .والأكثر شيوعا واحتمالا هو الإخفاق والعطب الواسع في كل اجزائي المرّة.

إن نشاط أعدائي لا يُستهان به، فهم اكبر حجما وقوة، ولديهم خبرة منتظمة مدفوعة بمطرقة التجربة الشاملة للتصدّي لمهنتي المغلقة. وبصورة تامة كنتُ أتدحرج يرغمني على ذلك شكل غرفتي البيضوي، كذلك احتراسا مني لمجابهتهم، أو لسؤالهم عما ستؤول إليه خطواتي اللاحقة، ولهاثي المجيد.

ولو أن أعدائي أنفسهم عرفوا بأن خصائصي ستجعلني أرفرف بين غيمات الصباح دون توقف... لجعلوني طعاما شهيّا للنمل..

إن توفير حاجزا أمينا بيني وبينهم لهو أشدّ حاجة من بقاء مخططاتي غاية في السريّة. حاولت أن اجتذب معنا آخر لشكوكي المبعثرة فيما لو كان كل أعدائي انهزاميون وأن يقينهم مجرد عبث مع الريح، وان أي منهم كان يبغي ملاطفتي والعثور من خلال شرفتي، على صديق مفتون بالسحر،أو لاقل: بأن انطباعاتي تتشكّل كلما أضحتْ نشوة الانتصار قريبة، فكائنٌ مثلي لا يمكن أن ينجو بحياته دون مخاطرة جوفاء.

كانت غرفتي لا تتّسع اكتشافاتي المطلقة حيث استطعت أن أخترق حدود سمائي الضاجّة بالأمنيات، أما عويلي  القابع أبدا في رئتي اغزله قلبا مشرقا راقصا لطبول المعجزات، بل ظفائر شاحبة من دفيء ريفي..فكل السقوف علّمتني أن أنجو بمصائبي قبل أن اتحول الى كائن بزاوية ما من سماء ومعنى.

إن شعوري وأنا مغلّف بتلك الجدران الملساء الساكنة كالقبر، لا يضاهى، متوحّشا وأليفا ، متسيّدا وصعلوكا، لصّا ونبيّا حتى الساعات الأخيرة من خوفي.

ما فائدة كل هذه العبقرية التاريخية من سلالتي الداجنة ؟

سلالتي التي اتقنت معنى : الغائب الحاضر !

لقد ارتكبت خطأ فادحا أنزلني الى لزوجتي القاتلة.

فقبل دهليز ارجواني ذو أعمدة ذهبية، يبدو انه الأخير المؤدي الى الطيران...

طيراني أنا....

طلب مني الكشف عن نواياي..

فعندما تلكأت، ولم أضع جوابا صريحا اسوة بسلالتي وانجازاتهم الفارغة.. طردتُ من ذلك الدهليز المفعم بالنور الى الأبد

وما كان بمقدوري أن أطير ذلك الطيران الغامض..

 

في نصوص اليوم