نصوص أدبية

زكاغ (الأحمر).. كلب القرية (2)

hamza alshafiفي صباح اليوم الموالي، استفاق الشيوخ والأطفال والنساء منذ الصباح الباكر رغم البرد الشديد. بدت علامات الذهول والخوف والترقب على وجوه الجميع بعد انتشار خبر تسلل غريب إلى القرية في الليلة الماضية. لم يستطع أحدهم النبس ولو بكلمة في الأمر مخافة متابعته من طرف السكان إن أخطأ التقدير، وتفاديا لاستدعائه من طرف سلطات القرية لإثبات زعمه حول المتسلل. احتشد الكل في مدخل القرية القديم المبني بتراب وتبن، والذي يعد المكان الوحيد الذي تتخذ فيه كل القرارات الجماعية، ويصادق فيه على أعراف القرية، وتقام فيه المحاكمات الشعبية في حق أي فرد صدرت في حقه إدانة قبلية... فجأة، سمع صوت منادي ينادي من مسافة بعيدة، وسرعان ما وصل صاحبه بسرعة أكبر من سرعة خفقان قلوب السكان المنتظرين، المذهولين...

"إنا ياون أمغار تمجماع إمي ن إغرم... هات تربحام أمدن، س أومزان س أوخاتار، تاوادا س ميساك تلام...أوال إكولان... أوال إكولان"

" إن كبير/شيخ القرية يأمركم بالالتحاق بمدخل القرية... أيها الناس، صغارا وكبارا، هيا بنا جميعا إلى مدخل القرية... وصل النداء... وصل النداء."

ظل كبير القرية يردد نداءه مرات عديدة ظنا منه أن من السكان من لم يلتحقوا بعد... التفت يمنة ويسرة ليجد أن الجميع قد طال مقامه في مدخل القرية القديم وقبل أن يطلق نداءه بالاجتماع ولمدة طويلة. أطلق عبارات تعجب واستغراب "أي، أي، أي" بعدما تيقن أن رضيعا ذو يومين كان الحاضرين كذلك. وبدأ يردد بغضب ممزوج بذهول:

" إجرا كا... اود تاروا ن سين ويسان لند ياد دا... أويهناغ زكرناغد تروى نتحزامت...ماد ريغ أد إنيغ إلقايد ك أوحرير دغ اللا يما نو"

"إنه أمر جلل... حتى مواليد 'يومين' حاضرون هنا... يا ويحي سبقني حتى الأطفال الصغار إلى المكان الموعود... يا ويلي، ماذا سأقول لقائد القرية بخصوص هذه المهزلة."

سمع صوت رجل مسن ينبعث من بين الحشد، ليقطع ذلك المشهد الرهيب الذي كان يتقاسمه كل من كلام  شيخ القرية وسلطة الذهول والترقب وهو يقول: "تكلموا يا معشر سكان قريتي، ما هذا الخوف والصمت؟ تكلموا وقولوا شيئا. ولا تكثروا لوعيد وكلام الشيخ فإن له سلطات تحميه. أما أنتم، فمن سيحميكم غير صوتكم ووحدتكم... ماذا ستخسرون إن تكلمتم وناقشتم أمر البارحة بهدوء أو بصخب. المهم، هو أن ترموا رداء الصمت والذهول والانتظار أرضا. تكلموا يا معشر السكان."

التقطت عجوز رسالة الرجل المسن، وقالت بنبرة تسعينية غزاها الإحساس بالحسرة على ماض مجيد: "ماذا حل بقبيلتي... أنا لم اعتد مثل هذا عندما كنت طفلة ارتاد مجالس القبيلة. حينها، كان هناك نساء ورجال أقوياء لا يخيفهم المتسللون بالليل والنهار...حينها كان الناس كلهم يتكلمون ويعبرون عن أرائهم بشجاعة، ولا ينصرفون إلا وقد كتبوا عرفا جديدا، وألغو بندا قديما لم يعد يخدم مصالح وشؤون القبيلة... اليوم انقلبت الأمور، وصار شجاع الأمس صامتا خائفا سريع الارتجاف والذهول."

فجأة، تسللت طفلة صغيرة كانت تطعم "زكاغ، كلب القرية" قرب منزلها الطيني من الحشد، وتوجهت نحو مكان نومه المعتاد لتجده لا يزال يغط في نوم عميق، وآثار أنهار من الدموع التي فاضت جراء طول وقسوة كابوس البارحة، تغزوا محيط عينيه وأطراف وجهه التي بدأت تفقد لونها الأحمر بعد طول بكاء. اقتربت الطفلة من "زكاغ"، فحاول الفرار منها خجلا منها لكثرة إحسانها له، ولتأثره ببقايا مشاعر كابوس الأمس الرهيب.  خاطبته الطفلة قائلة: "زكاغ، زكاغ... أرجوك لا تهرب مني. لدي كسرة خبز اليوم، وقطعة لحم خروف العيد هدية لك أيها الصديق الوفي... تعال أرجوك، سأبكي مثلك إن هربت ولن أعود إلى منزلنا أبدا، أرجوك تعال." رق قلب "زكاغ" لحال الطفلة، وتسللت رقة كلماتها، وبراءة محاولاتها إلى أقصى أعماق وجدانه، فتمدد على الأرض خاضعا للطفلة، راضيا وممتنا لكرمها الذي لا ينقطع.

- "صديقي الوفي، إن سكان القرية خائفون ومذهولون جدا، لأن غريبا ما تسلل إلى قريتنا ليلا، لذلك، أرجوك أن تذهب معي لتحدثهم عن الذي جرى ليلة البارحة. لقد كنت تصدر نباحا كثيرا حتى استيقظ كل السكان، فاستولى عليهم خوف كبير. إنهم الآن مجتمعون في مدخل القرية. هل ستذهب معي يا "زكاغ" ذو الشعر الكثيف كشعر الأسد؟"

حاول "زكاغ" استرجاع بعض تفاصيل كابوس الأمس الذي جعله يئن وينبح في أعماق ظلام القرية الدامس حتى أعلنت حالة الطوارئ فيها. أحس بخجل كبير وهو يعلم من الطفلة الصغيرة أنه كان سببا في استيقاظ كل سكان القرية وإحساسهم بالخوف والذعر والذهول. استجمع قواه، وتذكر عز شبابه عندما كان شجاعا لا تخيفه الذئاب والبشر الذين يريدون ضرا بقريته التي ترعرع فيها. وأخيرا تيقن أنه لابد له أن يحضر إلى مدخل القرية شأنه شأن كافة السكان، ليرى ويسمع آخر الأخبار. رافقته الطفل بكبرياء بريء، وفي داخلها ثقة وإحساس كبيرين أنها ستكون منقذة قريتها الصغيرة ومخلصتها من الذعر والخوف الشديدين. غمرتها سعادة طفولية وهي تتقدم نحو مدخل القرية واضعة يدها النحيفة على عنق "زكاغ" الذي بدأت سرعة ركضه تزداد كلما اقتربا من المدخل. لم تستطع مسايرة إيقاعه في الركض، فحاولت التمسك بذيله ذو الشعر الكثيف. كم كانت سعيدة وهي تدرك أن "زكاغ" لم يرفض لها طلبا أبدا في ما مضى، وها هو اليوم يسير بثبات وثقة، حاملا معه رسالة خلاص وأمن لسكان قريتها الذين غابت أصواتهم المتعالية وضجيجهم اليومي عن الحقول والبساتين المجاورة.

أخيرا وصل "زكاغ" والطفلة إلى مدخل القرية، وكلمات العجوز لا تزال تستولي وتتردد بشدة على مسامع السكان دون قدرة أحدهم على التكلم لتكسير المشهد الرهيب. شعور غريب ذلك الذي انتاب كلب القرية الوفي وهو يرى بأم عينيه رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا مكدسون في مدخل القرية، يرتعدون ويئنون خوفا وذهولا من خبر تسلل غريب إلى قريتهم ليلة البارحة. أخذه الإحساس بالوفاء والامتنان لطول السنين التي عاشها بين السكان، فافترش الأرض تواضعا لهم، ولين صوت نباحه رحمة ورأفة بأطفالهم الصغار. نظرا حوله ولم يجد الطفلة الصغيرة التي رافقته فظل ينظر إلى الحشد حتى لمحها بين ذراعي العجوز التي كانت  تشحذ همم الرجال والنساء قبل قدومه. ابتسم في وجهها وكشر عن أنيابه حبا ووفاء لها وإيذانا منه لها بالكلام. لم تتردد بدورها وأخذت تتكلم بنبرة طفولية بريئة، وسط استغراب الرجال والنساء والأطفال من جرأتها وشجاعتها. كيف تخاف وهي محروسة بصديقها الشجاع الوفي "زكاغ" ذو الشعر الكثيف...

" إن زكاغ سيظل كلبا وفيا لقريتنا، وسيظل يحرسها ويحرس سكانها دون تردد. كما أنه يريد الاعتذار عما صدر عنه من نباح طويل، الليلة الماضية حتى استفاق كل السكان وغادر النوم عيونهم منذ تلك اللحظة. أنظروا إليه جميعا. إنه يستطيع أن يكشف لكم عن الغريب الذي تسلل إلى القرية ليلا."

نظرا الجميع إلى 'زكاغ" في ذهول ورعب، مما جعله يحس بثقل المسؤولية وحساسية اللحظة. إنها أول لحظة يحس بها أنه تحت مسائلة جماعية حقيقية من طرف سكان القرية. تذكر عندما كان جروا صغيرا، آنذاك، التقطت أذنه الصغيرة، التي كانت ترتعش من شدة البرد، عبارات موزعة بين بقاءه في أحضان القرية مقابل حراستها، وبين ضرورة إبعاده عنها كما أصر على ذلك بعض السكان حقدا عليه لأنه أجمل وأقوى بكثير من كلابهم التي سرقوها من القرى المجاورة. الآن، جاء دوره ليثبت لأعدائه داخل القرية أنه الأوفى بعدما تقدم به العمر وفقد جزءا كبيرا من جماله وقوته، كما جاء دوره كذلك ليثني على كل اللذين أحسنوا إليه ظنا ومعاملة وحبا ونصرة في اللحظات العصيبة. ظل يردد في داخله: "لن يخيب ظنهم بي أبدا، سأبقى حارسهم الوفي وإن تقدم بي العمر وتهاوت قواي واندثر جمالي."

"زكاغ" كعادته لم يتكلم، بل فضل التحديق في وجوه المحيطين به مع التزام لغة الصمت كعادته. لم يتردد كلب القرية الوفي في الجواب عن هوية  الغريب الذي تسلل إلى القرية وما رافقه من ذعر في أوساط أطفالها وشيوخها ونساءها ورجالها بعد سماعهم نباحه الحاد والطويل المتكرر. أرسل "زكاغ" دموعا حارة وحارقة وهو يرى السكان يسجنهم الخوف ويعذبهم الترقب جراء ما سببه لهم نباحه ليلة البارحة. إن الغريب الذي تسلل إلى القرية لم يتسلل في ليلة واحدة فقط، وإنما ظل يتسلل طوال عقود من الزمن كما تقول عيون "زكاغ" وهو يمعن النظر في عدد من الحاضرين دون غيرهم. كما أنه ليس شخصا واحدا ومحددا ...

طال نظر "زكاغ" في ذلك الفتى الذي  استدرجه إلى إحدى حقول القرية مستعملا قطعة لحم يابسة قبل أن يرميه بغتة بأحجار حادة كادت أن تودي بحياته لو أصابته في رأسه وسط ذهول واستغراب الحاضرين. التفتوا إليه التفاتة واحدة، وسألوه ماذا فعل وماذا حدث بالضبط لعلهم يسبروا أغوار موقف كلب القرية الوفي، ونظره الطويل إلى الفتى لفك رسالته التي قد تكشف لهم هوية الغريب الذي تسلل إلى القرية. أجابهم الفتى، وكل أطراف جسده وروحه ترتجف من هول المشهد و فداحة الموقف ووحشية تصرفه، أنه غدر بكلب القرية عندما رماه بحجرة كادت أن تقتله موهما إياه بأنه سيناوله قطعة لحم في إحدى حقول العنب والخوخ. أدرك الجميع حينها أن الغريب الذي تسلل إلى القرية قيم وتصرفات غريبة عن تراثهم وعاداتهم وقيمهم التي ورثوها عن أسلافهم مثل الغدر والخيانة.

أدار كلب القرية وجهه قليلا، وصوب عينيه الحزينتين تجاه رجل أربعيني لم يتغيب قط عن مجالس وطقوس واحتفالات القرية، فتراه يهنأ هذا ويمدح ذاك ويصافح آخر ويحدث مجموعة أخرى مستعملا كافة تعابير لغة أهل القرية وعبارات  دينية باللغة العربية، متباهيا بتواضعه وتواصله الدائم مع الناس، وحبه لهم رغم معرفتهم بزيف ادعاءاته ونفاقه الكبير لهم. تعجب الجميع من حنكة كلب القرية في كشف نفاق الرجل الأربعيني، وأدركوا أن النفاق والكذب وغيرهما من الصفات الذميمة، لم تكن من صفات رجال الأمس الذين قادهم إخلاصهم وصدقهم إلى تحقيق وحدة القرية وقوتها وحمايتها من كل ما هو غريب يحاول التسلل إليها. حينها أدرك السكان أن المتسلل ليس غريبا واحدا بل غرباء كثر، وهو ما حول قريتهم بحقولها الصغيرة ومنازلها الطينية الضيقة إلى مكان غير  آمن يرتاده الخوف ويغزوه الهلع بسهولة.

تابع كلب القرية عملية كشفه للغرباء، وكلما أطال النظر في أحد الحاضرين بعيون حزينة وحدق فيه لمدة طويلة إلا وفطن الجميع إلى صفة مذمومة ومنبوذة لم تكن في يوم من الأيام لتوصل القرية إلى بر الوحدة والصفاء والأمان. فهذه امرأة تسرق العشب من بستان الجيران لتطعم أغنامها، وهذا طفل يقتل العصافير الصغيرة دون رحمة أو شفقة، وذاك شيخ بلحية كبيرة وبيضاء يؤدي صلواته في الصف الأول لأعوام دون أن يذرف دمعة خشوع أو ينفق دينارا واحدا على عيال جاره الفقير، وآخر يدعوا الشبان والفتيان  إلى فعل الخيرات وعمارة مسجد القرية وهو لا يصل رحمه أبدا ولم يزر أخته الكبرى في القرية المجاورة منذ عقدين من الزمن، وهذا إمام مسجد يلقي خطبه الأسبوعية بحماسة كبيرة وبصوت مرتفع، لكنه قلما يفقه لغتها الفصيحة ومضمونها العميق ليعمل به في حاضره وغده...

رغم كثرة الغرباء الذين تسللوا إلى القرية، ووفاء بعهده لقريته وسكانها، وتقديرا لهم على كل معروف أو إحسان قاموا به لأجله منذ أن كان جروا صغيرا إلى أن صار كلبا كبيرا بدأ يفقد بريقه وجماله وقوته عاما تلو عام، لم ينس "زكاغ" الوفي النظر في وجه الطفلة الصغيرة و في وجه أمها اللتان طالما أنعمتا عليه بقطع خبز مبللة بلبن بقرة الجيران وقطع لحم يوم العيد. ها هو الآن ينظر ويحدق فيهما مبتسما سعيدا ضاحكا منتشيا بالوفاء المتبادل، وداعيا سكان القرية إلى إعادة زرع القيم الحسنة المتوارثة مثل الرحمة والتآزر والتعاون والاحترام، ومقاومة كل العادات والقيم الغريبة عن القرية. كما لم ينسى عطف شيخ عليه ولعبه الدائم معه وهو في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر حتى في ليالي الشتاء البارد. وكلما نظر في أحد سره جميل صنعه، وروعة صفاته وأخلاقه، إلا وأصدر زفرة ارتياح وشكر، وأطلق ابتسامة عريضة حتى تبرز أنيابه البيضاء اللامعة التي لن تغدر بأي كان من سكان القرية أبدا.

 

حمزة الشافعي - المغرب

 

 

في نصوص اليوم