نصوص أدبية

شموع الخضر.. تحمل دعاء الشيخ

يتمتم بحروف لعلها دعاء

 

بظهر منحن وجسم نحيل يتوكأ على عصاه حاملا بين يديه المرتجفتين بعضا من الأواني تحوي زاد يومه، تتسابق نسوة الحي على أعداده تتناوب الواحدة بعد الأخرى...

وحيدا يعيش في بيته ذي الطابقين بعد أن تركته ابنتاه وتزوجتا ... أما زوجه فقد ودعته أيضا..إلا انه الوداع الأخير.

يهرع إليه صديقه البقال ليحمل أوانيه.. ثم يعود الاثنان إلى مقعديهما أمام محل البقالة.

يداعب البقال أزرار المذياع ليجعل الصوت أكثر وضوحا. يرتل القارئ: (قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف) يكتفي الجد  بأغماضة.. ويهز رأسه.. يقول صاحبه.. ألا زلت تذكره..؟؟ وهل إني نسيته..؟ يوسف الذي مضى على فراقه عشر سنين وهو في عداد الأسرى .. .

غربته قاسية مريرة يتمتم آه... يوسف ولدي أنك تحب الحياة وتحب السفر والأدب والرسم... فماذا تفعل هناك في غيابة الجب.. إلا يلتقطك بعض السيارة..؟ (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله)....أيتها النفس كم تتوقين إلى فضاءات الحياة الجميلة وتبغضين كل قيد..!

زوج يوسف لا يسعها المكوث مع الجد فتقاليد المجتمع لا تبيح لها ذلك. فهي صبية فائض حسنها ولم يسعها الزمن لتنجب.

معلمة المدرسة   في الحي تعتني بالجد وتقرا له رسائل ولده فهو لا يثق إلا بها وهذا يحدث مرة واحدة في كل عام أو عامين.. فهي تشفق عليه من وحدته وتنصحه أن يعيش مع إحدى ابنتيه إلا انه يفضل البقاء مع ذكريات يوسف فهو الذكر الوحيد لديه.

أما صديقه "علي" ذلك الشاب الجامعي الطيب هو الأخر يعتني به فهو من يحلق ذقنه ويصطحبه إلى  المسجد للصلاة. يقرأ له القران والدعاء.

على لوحة خشبية تنتظم شموعه يدفعها صديقه "علي" لتنساب مع انسياب موجات نهر الفرات إنها شموع الخضر لمن يريد أن يطلب مراده في ليلة الجمعة .

فوق سطح داره مستلقيا على ظهره يحدث النجوم..

يا نجمة الصباح ....أ تدرين ..!؟

تفرق الصحب منذ سنين ..!

شبيه قيسك..ذاب كحل حبيبته

ثم اخذ يهمس بشعر كتبه أبنه في دفتر قديم  حفظه لكنه لا يفقه منه شيئا

بين موجات الفرات تسري احلام الصبا

بابل حبك اوجعني

فراتك عشقه كبلني

بقيود الحب او الموت

المفوهون باسم الوطن

جرذ ينتعل حذاء تزلج

وقف الزمن ملتهبا يضج انينا

يتنفس قيحا

الكل منشغل بواحد

والواحد غير ابه لسحقه بيت نمل..

 

كل من أتى بخبر جديد عن الأسرى يهرع إليه .. يسمعه بدقة واهتمام ثم يعلق:...آه... لو أرآه مرة واحدة ثم يغمض عينيه ويهمس (ذاك الوكت يحلو الموت) عندها يسمع تكبيرة الآذان في مسجد الحي يعتبر ذلك إشارة له من الخالق... بالصبر... فالصبر نافذته الوحيدة للأمل وللبقاء....! وهكذا يوعز الكثير من الحوادث وفق هذا المنطق....!، وإلا كانت أيامه بلهاء معتمة.

يقدم المساعدة المالية لزوج يوسف عند زيارتها له بين الحين والأخر من دخله التقاعدي البسيط... يتوسلها بصوت مرتجف خذيها.. أجد فيك ريح يوسف.

عادت معلمة الحي بعد انقضاء عطلتها الربيعية وكان الجد.. أول اهتماماتها.. الصباح مازال في ساعاته الأولى وليس ثمة في الحي من تسأله. قصدت داره.. لمحت من بعيد قطعة قماش معلقة فوق باب الدار، انتقل الجد (أبو يوسف) إلى جوار ربه شعرت بقشعريرة تسري داخل روحها وبرودة طغت على أطرافها.. ارتجفت.. ثم قالت..... دعوه يرتاح من ذلك الانتظار....!

تمتعض حين تسمع سيرته تحاول أن تنساه إلا أنها كلما ترى بيته تتذكر بيتا من الشعر لدعبل الخزاعي:

وفك عرى صبري وهاجت صبابتي

رسوم ديار أقفرت وعرات

ترى داره وقد أحكمت إغلاقه إنها تشبه غيابة الجب التي فيها يوسف .

لكن يا ترى ما مصير الشجيرات التي كان يعتني بها ويسقيها الماء وما مصير القطة التي كان يحبها كثيرا.. آه.. النسيان نعمة من الخالق.

ثلاثون يوما وسكان الحي جميعهم قد نسوه.. حتى معلمة المدرسة......!. أنها اليوم على غير عادتها فهي مسرعة لقد تأخرت عن الدوام المدرسي إلا أن بيت الجد استوقفها فقد رأت بابه مشرعة على مصراعيها وفيها من يدخل وفيها من يخرج سمعت زغاريد النسوة وزوج يوسف بأبهى حلتها تنثر الحلوى والناس تبارك لها خير وبركة عودة يوسف من الأسر.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1278 الثلاثاء 05/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم