نصوص أدبية

نختارُ الوطن.. ونموت!

عاطف الدرابسةقلتُ لها:

لن أقرأَ حرفاً ممَّا يكتبون

لن أطَّلعَ على أيِّ قرارٍ ممّا يقرّرون

لن أتكلَّمَ في السِّياسةِ بعدَ اليوم

ولن أتحدَّثَ عن الاقتصادِ

الذي فقدَ أطرافَهُ منذُ ثلاثينَ عاماً

ولن أتحدَّثَ عن مجلسِ الوزراءِ

أو مجلسِ النّوابِ

أو مجلسِ الأعيان ..

*

ربّما المقهى الذي ينهضُ على حافَّةِ الطَّريق

أكثرُ إنتاجاً من تلكَ المجالسِ كلِّها

لن أستعدَّ للحجِّ هذا العام

فالطّريقُ إلى دمشقَ ما زالَ مُغلَقاً

والأمكنةُ التي أُحبِّها

تتباعدُ عنَّي

كما تتباعدُ الذَّراتُ في تجربةٍ فيزيائيَّةٍ ..

*

كلَّ يومٍ أتأملُ هذهِ السّفينةَ

التي ترسو على اليابسةِ

فأرى ديدانَ الصدأِ تلتهمُها شيئاً فشيئاً

وكلَّما اقتربتْ منها الرِّياحُ يُهاجمُها السُّكون 

وأرى الأشرعةَ كثوبِ متسوِّلٍ عجوز 

لا تستجيبُ لأوامرِ القُبطان ..

*

لا أعرفُ لماذا أشعُرُ أنَّ هذا القُبطانَ

ما زالَ يعيشُ في العصرِ الحجري 

وأحياناً يظهرُ لي على هيئةِ صنمٍ

حافٍ عارٍ

يضعُ يديه أمامهُ

كأنّهُ طفلٌ في صفّهِ الأوَّل

غيرَ أنَّ النَّاسَ تطوفُ حولَهُ

وتُصلِّي ..

*

ما أكثرَ الأصنامَ في بلادِنا

وما أكثرَ الحجارةَ الضَّالة

كلَّها تنهشُ من ظهورِنا العارية

ومن صدورِنا

ومن أثداءِ أُمَّهاتنا

ليتَ هذه الحجارةَ تبتعدُ عن تعبِنا

وعن تعبِ أولادِنا

كلُّ البيوتِ في وطني ذابلةٌ

ومُعتِمةٌ

تسألُ القناديلَ عن آخرِ الليل

وتسألُ السُّقوفَ عن أوَّلِ النَّهار ..

*

أخافُ أن يخرجَ لنا نهارٌ

من فمِ أفعى

فالأفاعي السَّامة

تكاثرت بسرعةٍ في وطنِنا

تجدها في كلِّ مؤسسةٍ أو وزارةٍ

تبحثُ عن فريستِها

بين ركامِ أحلامِ المواطنِ

أو بين أنقاضِ مستقبلِنا

الذي لم يتشكَّل

أو تهدَّم قبلَ التشكيلِ ..

*

ما أثقلَ خطواتي هذه الأيام

وما أثقلَ لساني

كلَّما حاولتُ أن أصرُخَ يخونُني لساني

ويتعثَّرُ بالحروفِ

فكلُّ الحروفِ غيرُ صالحةٍ للاستعمالِ

كأنَّها مُصابةٌ بالفسادِ ..

*

منذُ خمسينَ عاماً

وأنا أتمنى أن نُحاسبَ فاسداً واحداً

منذُ خمسينَ عاماً

وهم ينهشُونَ جسدَ هذا الوطنَ

ولا يشبعُون

منذُ خمسينَ عاماً

ونحنُ نجوعُ

ونعرفُ أنَّنا نجوعُ

ونعرف سببَ الجوعِ

لكنَّنا قبلَ أن نموتَ

نختارُ الوطنَ

ونموت !

***

د.عاطف الدرابسة

 

في نصوص اليوم