نصوص أدبية

أوراق في سلة المهملات

صالح الرزوقسمعت بنبأ انتحاره في صبيحة يوم عابس. الطقس مثل البشر يضحك ويبكي، أو يبتئس ويبتهج...

اتصلت هاتفيا بجريدة (الفتى العربي)، ووعدت هيئة التحرير، بكلمة شرف، أن أكتب تقريري المفصل عن الحادث. ولكن الخيوط كانت تفلت من يدي وكأنني وراء سراب.

**

أتذكر: نحن الثلاثة. حزمنا حقائبنا وانطلقنا وراء أحلامنا الذهبية إلى لندن، ولكن لم نصل إلى "جوهر" الحلم أبدا. وجب علينا أن نضع العالم بين فكي كسارة بندق لنتخلص من القشور القاسية. وفي هذا الجو كان خليل، وهو أطولنا، ولذلك نناديه بلقب هود، يعمل في أحد المطاعم.. يغسل الصحون في النهار ويقرأ نابوكوف في الليل. كم تعلق بهذا المهاجر العنيد، الطير الروسي المشاكس. كنت تشاهد في عينيه حين يجلس لقراءة (لوليتا)، أو حتى روايته غير المشهورة (المحاكمة)، نوعا من التواطؤ.

**

سجلت تلك المعلومات في أول التقرير. ولم أتمكن من الاستمرار. ربما لأن نار التجربة التي احترقنا بها لم تبرد بعد.

أتذكر: لاحظت على الثاني بيننا تحولات جذرية في السلوك والمظهر، قبل أن يقرر مصيره بيده وينتحر. لقد أصبح صوته رخوا مثل حركة الحلزونات، بعد أن كان صعبا وحاسما. وأصيب بالهزال كما لو أنه من ضحايا المجاعات. سألته على سبيل السخرية: أين تذهب عظامك يا رجل؟.

فقال مع ابتسامة: أظن فأرة الحظ السعيد تقرض منها وأنا نائم..

وعلى الفور خطر لي أن تحت هذا الرماد الساخر جمرة لم تبرد. ولكن لم أتوقع موته الوشيك.

**

فواز لم ينتحر. كتبت هذه الكلمات. وبظني أنها بداية لتقرير سوف أنتهي منه مع مغيب الشمس هذا اليوم. ثم مزقت الورقة بعد عدة سطور. وألقيت بها إلى سلة المهملات. على ورقة أخرى كتبت: هل بمقدور فواز أن يغتال أحلامه الذهبية بجرعة من السم.. وأن يتصرف بطريقة فاشية وينهي حياته كما يفعل الأبطال والمجانين في لحظة الهزيمة؟. وكان في ذهني خليل حاوي وهمنغواي وكاواباتا. جميعا أنهوا حياتهم بأسلوب راديكالي كأنهم يكتبون قصة جديدة. ولم أتابع.. كنت أصاب بالإحباط سريعا. وأختنق بالأفكار والذكريات وأحيانا بالعبرات. في نصف يوم مزقت محتويات مظروف كامل من الأوراق البيض التي لها لون الثلج المندوف. كم غصن شجرة يوجد في كل صفحة ميتة بكماء، بل كم شجرة في هذا المظروف.. بستان ميت أم غابة كاملة؟.

وفي غضون ساعة تحولت الطاولة، التي حملت أدوات الكتابة، إلى رأس كالعهن المنفوش، إلى عالم من الفوضى والعبارات الناقصة. من الصعب دائما أن تحبس أنفاس صديق العمر في سطور. فقد امتدت صداقتنا حوالي عشرين عاما. عشرون عاما من الحماقات والخطط الخرقاء الطائشة، وبينها أحاديث سخيفة نخجل أن تصل لأذن شخص غريب الآن. وأقصد بذلك الكلام المتهور عن السياسة. لم نكن نعلم أن لندن هي نهاية المشوار. القفزة الأخيرة التي سنسقط بعدها في حفرة موتنا الوجودي. برد قارس، وإنكار للاتجاه والأهداف، لقد أصبحنا بالفعل أيتاما في هذا الوقت الخسيس والمنافق.

**

كان فواز في غضون ذلك يعمل بمطبعة. يقف خلف جهاز لا يتوقف عن الهدير. يقول عنه "خوار البقرة الحلوب". حتى حينما يذهب إلى البيت لينام يسمع صوت الآلة في رأسه مثل صفير قطار.. بالطبع كنت على شاكلته، أعاني من أوحال لندن، لذلك توجب علينا أن نبحث عن نفق للخلاص..

أتذكر: حين بدأت مع مهنة الصحافة. انتقل هو ليعمل بصفة موظف استقبال في فندق صغير مجهول. والتقى فيه بشارلوت. وكانت العلاقة سريعة، ومرت بسرعة برق خاطف. لكن لم تتوفر لدى فواز إثباتات دامغة تساعدني على تصور علاقته. وأنا لم أشاهد شارلوت أبدا. واليوم أتساءل: هل هي حقيقة أم من جراء خيالات عالمه الوهمي المريض. مع ذلك أعترف كانت لديه صورة تذكارية معها، وفيها تضع إحدى ذراعيها على كتفه مع ابتسامة خاصة بالكاميرا.. خطر لي أن أسأله عن اسم المصور لأتأكد أنه حقيقي وموجود. ولم أفعل حتى لا أدمر عزة نفسه وكبرياءه. كانت لفواز مشاعر رومنسية، وربما لن تحتمل أعصابه أسئلة محرجة من هذا النوع.

يا لتلك الأيام الغليظة!!. كنت في فترة شارلوت أمر من أمام الفندق. وفي معظم الأحوال أتمهل قليلا، وأتأمل النقوش البيزنطية على البوابة، والنوافذ الفرنسية المغلقة بزجاج مضاعف. نقول عنه في بلادنا "زجاج عازل". لا بد لمثل هذا المبنى أن يلفت الانتباه، فهو من النوع المنكسر بهيئته المطيعة والمنطوية على نفسها، ويحرك المشاعر العامة والقاسية في إطار من التهذيب. ألم نسمع جميعا بمبدأ التصعيد الفرويدي. بعد ذلك لم يعد لهذا المكان أهمية، لأن شارلوت انفصلت عنه، وذهب هو ليعمل في سوهو.

**

كانت الظروف تؤكد أن مأساتنا واحدة، وخرابنا نحن الثلاثة متشابه. أنا أيضا فشلت في الامتحان. وحصلت على وسام شرف في الخيبة وتدمير الذات. أحلامي تهدمت، واختزلت أفكاري وطموحاتي إلى صور على جدران المنزل، بجانب أحفورات في الخشب المعاكس وأيقونات تذكر المرء بعذاب الروح وآلام البدن المحطم.

أتذكر: كلما حاولت أن أعود إلى التقرير تذر بعض الشبهات الرماد في العيون.. خانني القلم الذي كان سهلا ومطيعا، ولم أتمكن من التعبير عن ظاهر المصيبة.

**

وصلني خبر انتحاره عن طريق خليل، فقد رن الهاتف وكنت على وشك النوم.

قال لي بصوت مفجوع: اسمع. عندي خبر مؤسف.

قاطعته بقولي: لا يا رجل. وهل حولنا شيء غير مؤسف؟.

رد بعصبية: اسمعني، أرجوك. الخبر عن فواز.

سألته دون اهتمام: ما به؟. هل انتحر؟؟.

و ران صمت مقيت.

قطعه سعاله المرتبك.

ثم سألني: كيف عرفت؟..

ولم أكن أعلم أنني أصبت الهدف. كانت هذه أول ضربة حظ في حياتي. لكنه الحظ الأسود.

**

بعد أن أغلقت السماعة شردت قليلا. ثم انفجرت بعاصفة لا إرادية من البكاء. هل القدر يلعب معنا مثلما يلعب مع بلداننا. نموت بطريقة رمادية وبالمجان. ثم بعد أن هدأت عزمت على التأكد من الموضوع بنفسي. وذهبت إلى سوهو، لعنوان البار الذي كان يعمل فيه. وبحثت عنه طويلا ولم أصل إلى أمام بابه إلا وآخر غصن أخضر في حديقة قلبي يحترق.

كنت أسقط في حطام الذكريات.

فواز ولندن.

كانت الساعة تشير إلى التاسعة تقريبا. الجو في الطرقات قارس البرودة. في داخل البار أخرجت يدي من جيوب المعطف الرمادي الطويل، وتخلصت من اللفاحة الصوف السوداء التي أضعها حول رقبتي، ونظرت بعينين دامعتين بسبب الدخان والبرد القارس والحزن الذي خيم على مشاعري. رأيت رجلا مفتول العضلات يخدم الزبائن، له لحية حمراء وعلى الأغلب أنها مخضبة بالحناء، ومعه فتاة بشعر أشقر وقفت وراء الكونتور. طلبت منها مشروبا منعشا بنكهة الكرز. مشروب طاقة لو شئت الحقيقة.

وهي تضعه أمامي سألتها: هل كنت تعرفين فواز؟.

نظرت لي نظرة تعجب و قالت: نعم؟.

-        آسف لو السؤال محرج.

-        تقصد السوري الذي انتحر؟.

وبلعت غصة وقفت في منتصف حلقي. كنت على وشك أن أبكي. ولكن لم يكن المكان مناسبا لهذه الفضيحة.

**

كتبت: فواز غير موجود معنا. أحد الفرسان الثلاثة غاب من الوجود. كنت كمن يرثي نفسه، ولكن أثناء الكتابة، لم تذهب من رأسي صورة العاملة في البار بصوتها المتهدج الدافئ. كان دائما هناك شيء يقف في وسط الطريق. حجرة سيزيف؟. كلب الحضارة الجريحة؟. جرح كرامتنا؟ ربما. ربما. لذلك توقفت في منتصف السطر، وألقيت القلم فوق الورقة.

صدق أو لا تصدق!..

مرت تسع سنوات على الحادث، وحتى الآن لا أمتلك القدرة على كتابة هذا التقرير.

 

د. صالح الرزوق

2005

.................

* من مجموعتي (تشبه القصص). مطبوعات مجلة ألف. دمشق. 2010. مع تعديلات طفيفة.

 

في نصوص اليوم