نصوص أدبية

اختفاء دافيد

صالح الرزوقانتصف النهار ولم تظهر دافيد. وبعد رحيل رجاء لم يبق معنا امرأة غيرها في القنصلية.

كانت رجاء من نمط الحياة الاستهلاكي. نوع اقتصاد السوق. مغرمة بحياة الليل.

وأرجو أن تفهم كلامي بالشكل المحترم.

لا أعني أنها مستهترة لكن تحب اللهو والسهر، وسمعت مؤخرا أنها هاجرت إلى كندا. وكان هذا هو حلمها الذهبي. الهجرة والذوبان بالحياة. وأنا متأكد أنها تعاني الآن من كوابيس الحرية المزعومة.

لكن دافيد شيء آخر.

على العكس في كل شيء. بالإضافة لاسمها العجيب تفضل الثياب الخشنة. ولم أشاهدها في كل حياتي بتنورة أو حذاء امرأة. كانت بأفضل الأحوال ترتدي الجينز والصندل. حتى الحفلات تأتي إليها بهذا الشكل المريب.

قلت لها على سبيل الطرافة: يا لك من امرأة مسترجلة.

ردت وهي تبتسم: يا عزيزي. أنا ضد المظاهر.

وأشارت لربطة العنق التي أشنق بها نفسي وقالت: هذا بريستيج.

ولكن أنا لا أعتقد ذلك. المسألة ليست بهذه البساطة. ترتيب الهندام يدل على حسن التنظيم. ولا علاقة له بالقشور. هذه فلسفة في الحياة.

وباعتقادي لدى دافيد عقدة لأنها ربيبة ملجأ للأيتام. وعلمت بطريقة غير مباشرة أنها فتحت عيونها على هذه الدنيا نتيجة غلطة. ولا تعرف بالضبط من هو أبوها الحقيقي. وتبناها أستاذ في جامعة أو معهد لغات. لست متأكدا.

ولكن لم تبرأ تماما من جرح ماضيها.

***

وقفت أمام باب مكتبها المفتوح. ولمحت الطاولة أولا. عليها أكوام من الملفات. وبجانبها جهاز الهاتف الأسود بظله الكئيب. كانت دافيد متمسكة بهذه الترهات. لديها نوستالجيا لكل ما هو قديم.

حتى أنها تزين جدران مكتبها بصور من البادية..

بيوت شعر. وأمامها قطعان المواشي. أرض عليها أخاديد مثل جرح مفتوح بسبب الجفاف. أكوام حجارة وتبزغ من بينها وردة صبار.

كان ولعها بهذا الحرمان واضحا. إنها حياة مبنية على الندرة. وأغلب الظن هي ظل لأيامها الأولى في الملجأ. أضف لذلك أنها لم تسكن في البيوت التي وفرتها القنصلية واختارت بيتا في الفرافرة.

بباب من الحديد الأسود. مع سقاطة من الفولاذ ومنحوتة بشكل رأس الأسد، مثل شعار سيارات بيجو القديمة. هناك بمقدورها أن تهرب من ذاتها. كان رأيي أنها تود غسل أخطاء الماضي بهذا التقشف.

و لكن كانت في الحقيقة تعذب نفسها فقط. ولذلك تقول رجاء عنها إنها مازوكية. وهي بحاجة لطبيب نفسي.

***

ماذا أخرك يا دافيد لهذه الساعة؟.

سألت نفسي وأنا أدخل لمكتبها. وجلست على كرسي الجلد البرام. كان بمواجهتي لوحة لمنظر طبيعي. أرض رملية متموجة. وفوقها سماء بلون الحديد المصهور. كانت تلمع بهذه الإضاءة الخفيفة مثل تيار نهر يجري.

حتى الأشياء المتنافرة تتشابه بنظر الإنسان في أوقات الشدة.

ورفعت سماعة هاتفها، ثقيلة بوزن المطرقة أو السندان. وطلبت رقمها.  يا له من ذوق يا دافيد.

قلت بنفسي وأنا أستمع لصوت الأرقام وهي تدور في القرص..

 

صالح الرزوق

 

في نصوص اليوم