نصوص أدبية

البيف إيترز - Beef Eaters

صالح الرزوققلت لصديقي في ليلة صيفية ونحن على فراندا المنزل الذي أسكن فيه: لون عربات القطار عندنا أسود حالك على مقاس ظروفنا القاتمة. بينما هناك رمادي وأحيانا ملون.

لم يسأل ماذا أقصد بهناك. فهو يعلم أنني لا أتحدث بلغة فلسفية عميقة، وأنني لا أتكلم مثل هيدجر عن الدايزين، ومشكلة الوجود هنا والظاهر هناك.  والمسألة كلها عبارة عن ذكريات سطحية عن أيام تموت. ولذلك ابتسم دون أن يرفع عينيه عن المشاهد الطبيعية التي تنبسط أمامنا. والإشارة الآن للمباني الشاهقة التي تنمو مثل أشجار الصبار. تحت الغبار والشمس. وبين أشجار عادية بأوراق سوداء بسبب الدخان والإهمال.

**

ركبت القطار وسافرت به لأول مرة هناك. ولا تزال التفاصيل في الذاكرة. كانت أمامي في العربة منضدة وفي المقعد المعاكس (ج). وكانت تقرأ بكتاب لتوماس هاردي. كم هذا الرجل ثقيل على قلبي. لم أهضم رواياته السميكة. أبطاله يتحركون ببطء البلدوزر. والحبكة تبدو لي مثل مشهد ساكن وصامت في عزاء. كانت تصفيفة شعر (ج) بمنتهى البساطة. وتضع على شحمتي أذنيها حلقين ناعمين. أقراط بحجم نقطة زرقاء فقط. وانتبهت أن رأسها مستدير كأنه مرسوم بالفرجار.

قلت لها على سبيل المجاملة: مع أنني لم أسافر في بلدي بقطار، لكن أعلم كيف يرش الدخان الأسود ويصفر ليفسح له المارة الطريق.

كانت مندمجة مع هاردي. ولكنها تركته على المنضدة، وقالت بشيء من السخرية: يا للخسارة. قطاراتنا متخلفة. لا تصفر ولا ترش الدخان.

لم أفهم معنى هذا التعليق الغريب. ولكن فهمت أنها تحتج. فالتزمت بجانب الصمت في بقية المسافة حتى لندن. كانت الخطة تنطوي على زيارة معرض (لاركين) الفنان المولود قرابة عام 1590 والمتوفى في عام 1665 ، والذي رسم اللوحة المشهورة (سنكلير بلباس الميدان).

وخلال هذه المدة التي استغرقها القطار في اجتياح بقية المسافة، لم أفعل شيئا غير النظر إلى خيال (ج) المطبوع على زجاج النافذة. وكأنني أراها للمرة الأولى، وبمنظار خاص، فالزجاج يبدل الملامح، ولكنه لا يغير الصورة المرسومة في الذهن. وأحيانا كنت أختلس النظر من غلاف رواية هاردي. ورق سميك ويغطيه السلوفان. حتى هاردي كان بحاجة لمقبلات كي يعيش ويستمر في هذا الطوفان من ورق المطابع. ولكنه كان غلافا رماديا بلون حديد هذا القطار السريع.. بساط الريح الذي لا يرتفع في الهواء، ولكن الذي ينزلق على خطوط بيضاء تعكس أشعة الشمس المريضة.

**

871 الرزوقسألني صديقي: وكيف كانت علاقتك مع (ج).. هل استمرت لفترة طويلة؟..

طبعا لا يمكن لرابطة من هذا النوع أن تكون متينة. لا بد لها أن تنكسر بعد اكتشاف الفوارق في أسلوب التفكر وفي الأمنيات. فقلت فورا: لعدة أيام فقط. ثم لعدة أسابيع بشكل تحيات عامة...

كانت شخصية (ج) متناقضة مع نفسها. وتحمل كل بذور الخلاف بين الفرد والجماعة. فالشخص هناك مسالم وهادئ بطبعه، ولكن ضمن الحياة العامة يكون إنكاريا. وكانت حسب تأملاتي الخاصة على خلاف مستمر مع حياتها الخيالية. أو مع طريقة افتراضها لصور المجتمع.. كيف يجب أن تكون.

وكانت تميل للضروريات في اللباس وكل اللوازم. ولاحظت ذلك في زيارتنا لنادي (البيف إيترز). كانت كل النساء فيه بأبهى حلة ما عداها. والبيف إيترز هو عوامة في وسط نهر كولشيستر. ولتصل إليه يجب أن تعبر من ممر خشبي ضيق تغطيه في كل الأوقات أوراق الأشجار الميتة وأوراق ورود الموسم. ودائما الإضاءة في الداخل خافتة. ويوجد على الجدران صور لوجوه من عصر الملك إدوارد الأول. ومنها سنكلير بقامته الطويلة وبلحيته التي تصل لمنتصف صدريته وكأنه تولستوي في شبابه حينما كتب الحرب والسلم. ويلف على خصره حزاما (يشبه القفطان البلدي عندنا) وفيه يضع خنجره والغدارة (المسدس الخفيف بالطلقة الواحدة).

من وراء ستارة من الضوء الخافت رأيت سنكلير. العجوز. الغامض. الرجل الأرستقراطي النبيل. والذي قاد المعارضة لجمهورية كرومويل من هذا المكان.

حاولت (ج) أن ترسم لي صورة عن أصل العوامة. كيف كانت مكتبا لسنكلير. ولكن لم يكن من السهل أن أطابق في ذهني بين واقع الحال والماضي. كان الفارق كبيرا بين معنى الثكنة والمنتدى. في الوقت الراهن لا أرى غير بار وراءه وقفت سيدة صغيرة تضع على وجهها ابتسامة دائمة كانت تشرق في هذا الجو الرومنسي والمخملي.

ولاحظت (ج) مبلغ اهتمامي بها، فقالت بلهجة هجومية: هل تعجبك؟..

خجلت من السؤال. وحاولت أن أبدو فارسا متماسكا، لا يتأثر من أول طعنة، فقلت بطريقة سؤال أمام سؤال: وهل لديك مانع....

ثم تبادلنا النظرات التي تدل على التعادل.. نقطة بنقطة..

بعدئذ صوبنا نظراتنا على صورة سنكلير. كان يقف بتمام أهبته، يد في جيب السروال العريض، وأخرى بموازاة قامته، وبها يمسك الغليون.

لتغيير دفة الحديث. وعفوا لهذا التعبير البلاغي الثقيل. ربما انتقلت فيروس العدوى لي من هاردي الذي أعلم أنها تحبه. سألت (ج): هل لسنكلير غليون.. هل يدخن الغليون دائما..

فردت بفتور: ربما.. ربما..

لم تكن متأكدة من شيء حيال هذه الشخصية نصف الخرافية، والتي لعبت دور البطولة الأول في هزيمة كرومويل. وفي تلك اللحظة وصلتني رائحة تبغ غليون معطر، ورأيت بطرف عيني رجلا مسنا يرتدي الثياب الرسمية، ويضع في عروة سترته زهرة حمراء بلون الدم. زهرة نصف متفتحة. ولم تكمل شوطها الأخير من دورة الحياة. كانت له لحية بيضاء. وإن شئت الحقيقة لحية نصف، بين بين، مع رأس أصلع. لقد كان صورة طبق الأصل من (ستيفنسون) الأستاذ في جامعة نوتنغهام.

وعند هذه النقطة عادت ذاكرتي إلى القطار. بصوت عجلاته وهي تنهب الشريط الحديدي بسرعة البرق. بالمشاهد الطبيعية التي أراها من النافذة ويغلب عليها لون أخضر لا ينتهي ويخطف الأبصار.

حينما كنا في البيف إيترز أشارت (ج) إلى الجدار المقابل لصورة سينكلير، وطلبت مني أن أنظر معها. ورأيت خنجرا له شفرة مستقيمة. وكان يشبه الخنجر الذي حمله سينكلير في الصورة التذكارية. بعبارة أدق في البورتريه . سألتها: هو نفس السلاح على ما أفترض..

قالت وهي تهز برأسها: نعم. هو. بعد المعركة الأخيرة سقط منه على ضفة النهر.

حين تزمع على الدخول إلى النادي، تصادف بوابة أثرية، لم يبق منها حاليا غير عمود من الآجر. وهي باب لمقبرة قديمة. وحسب وجهة نظر (ج) كانت فيها أضرحة لقتلى الحرب. مع عدد من المقابر الجماعية لجنود مجهولين لم يبق شيء يثبت شخصيتهم. ولكن في الوقت الراهن يوجد فندق فكتوريا الملكة، ومتحف الحياة الطبيعية، ومتجر متواضع متخصص ببيع الأشياء المستعملة.

كان من الصعب أن أتخيل هذا المكان بموسيقاه الناعمة، التي تعزف الفالس والجاز، بشكل غرفة عمليات لا يدخل إليها غير العسكر.

لقد كانت النباتات تزين الجدران، وكأنها خميلة خضراء، والمضيفة الحسناء التي لا تغيب من وجهها الابتسامة المشرقة، تمسح من الرؤوس ذكرى الجنود الذين سقطوا فوق هذه الأرض.

**

ونحن نغادر ألقيت في النهر عشر بنسات، وألقت (ج) خمسة بنسات وهي تقول : من أجل المستقبل.

وانتبهت أنه يجب أن أفكر بأمنية جديرة بهذا الموقف. فأغمضت عيني وقلت: لذكراهم جميعا.

كانت ذاكرتي في ذلك الحين مثقلة بصور الشهداء. بصور قوافل الشهداء الذين تواروا تحت الأنقاض في حروب مرعبة، هنا وهناك،  الحرب في النهاية مثل قطاراتنا السوداء المتعبة والمتخلفة.. تدب على الأرض وكأنها خطر موجه ضد الطبيعة ..

**

سألتني (ج) فيما بعد: لماذا قطاراتنا تصفر.. هل تمر من وسط المدينة مثل الدراجات والسيارات؟..

فقلت باقتضاب: هذا صحيح.

وأضفت بصوت غير مسموع كأنني ألوم نفسي: تمر من وسط الحياة مثل الأحزان ودموع الثكالى وقوافل المنتظرين الذين لم تدق ساعتهم..

كنت أشعر بغاية الحزن.. من ذكريات مشاهد حروبنا الخاسرة، من الانسحاب المستمر. من التهاون والسقوط كأننا في قطار من غير سائق، ولا يعرف كيف يتوقف.

انتشرت رائحة الغليون المعطرة في أرجاء عربة القطار. وعلى الرغم من المرارة التي أحترق في لهيبها خطر لي أن (ستيفنسون) و(موريسون) و(بلايك) و(روسل) و(هاف بيني) وسواهم من كوادر جامعة نوتنغهام التي أدرس فيها، هم فرسان لهذا الزمان. إنهم ليسوا صورا أخرى منسوخة من (سنكلير) ونتوقع أن نعرضها على جدران (البيف إيترز .. بيت الذكريات التي تحتضر.

**

وعندما وصلنا لجسر الخشب لنمر منه نحو اليابسة سألتني (ج): هل يوجد عندكم بيف إيترز أو ما شابه؟..

كنت في الواقع أنظر لموطء أقدامي. ربما لأنني لا أشعر بالأمان. وأنني معلق في الهواء. وتحتي تيار المياه الجارف الذي يسير لمجراه مثل تيار الأزمنة .

فقلت لها بصوت مضطرب : كلا.. هذا يحتاج لقرار من فوق..

وسمعت صوت رنين ضحكتها. كأنني ألقي نكتة. لم تعلم أن الطعام والشراب في بلادنا سياسة، ويمكن أن يعاقب عليها القانون. ترى هل سمعت أن الكوكا كولا ممنوعة لأسباب سياسية وعقائدية. ولو أخبرتها بذلك هل ستعتقد أنني إنسان طبيعي وبكامل قواي العقلية. ترى هل ستفهم أن مثل هذه الأشياء هي من مظاهر الحياة الإمبريالية التي نقاتل ضدها من خمسين عاما ودائما نمنى بالفشل والخسارة.

كيف أخبرها أننا مجتمع ضعيف يسعى وراء قوت يومه. ويكد في سبيل غايات بسيطة لا يفكر بها الآخرون. ومعركتنا هي مع الموت.. كيف نتفاداه لنعيش.

شعرت أن الواجب يقتضي مني التضحية بمبلغ أكبر، ألقي به في المياه الراكدة، وأنا أضمر نية أخرى. ربما تتسع حركة التيار وتصل إلينا، ومعها البراعم غير الميتة..

لا أتذكر ماذا كانت أمنيتي التالية. قلت ذلك لصديقي ونحن في الفراندا. ولكن لا يمكن أن تكون أمنية شريرة.

ألقيت في الماء، في حينه، جنيها وسمعت صوت سقوطه في أرض النهر.

وفي صباح اليوم التالي أسرعت بإرسال بطاقة بريدية لأفراد الأسرة. وكانت عليها صورة المطعم في النهار.. صورة نهارية مشرقة لتفاصيل كوخ البيف إيترز بسقفه الأسود ومدخنته التي يتبخر منها الدخان.. ربما لأترك لديهم فكرة أنه توجد هنا أشياء تحترق وتتحول لرماد..

**

في المحطة، بعد نهاية الرحلة، وقفت على الرصيف من أجل صورة تذكارية لـ (ج). ووافقت بشرط أن تكون الصورة عامة. بين الناس. وحين لمع الفلاش في وجهها أغمضت عينيها. فطلبت منها أن نكرر المحاولة. إذ ليس من المعقول أن نواجه العالم والكاميرا بعيون مغلقة.

كان المارة في حركة دائبة. من وإلى القطارات. وبأيديهم حقائب حياتهم الصغيرة. وبطاقات السفر . وعلى رؤوسهم القبعات التي تقاوم البرد وتتستر على الأمنيات والأفكار.

للمرة الثانية لم تستطع (ج) أن تقاوم الضوء المبهر المفاجئ. وقالت بما يشبه الاعتذار: إن ضوء الفلاش مثل أشعة االشمس. وهي لا تستطيع أن تقاوم الضوء الساطع. فهي ليست من بلاد الشموس المشرقة.

**

وقفنا في المتحف تحت قبة المدخل لنلتقط أنفاسنا. ولأخذ صورة عامة.. لمدخل المتحف وللساحة التي تنبسط أمامه. كان فيها نصب لرجل من الغرانيت الأسود، ويقف على رأس عمود طوله يبلغ حوالي خمسمائة متر. نصف كيلومتر في الهواء. وأنت لا ترى ماذا في نهايته بالضبط. كنت بحاجة لمنظار مكبر لرؤية تفاصيل التمثال العالي والشاهق.

و لكن لم أهتم بالموضوع. كنت بالفعل متحمسا لرؤية سنكلير ولوحته.

ولكن حينمات أصبحت مع (ج) في وسط الصالة انتبهنا أن اللوحات المعروضة جميعا لسيت بريشة (لاركن). ولا يوجد بينها سنكلير أبدا. لقد ضاع سهمي مرة أخرى. وشعرت مجددا أنني في مكاني الصحيح.. الخائب والخاسر والذي تضيع منه الفرص الذهبية الثمينة. لقد غالبني الشعور التقليدي أنني يائس وسط طابور من سيئي الحظ الذين ماتت الوردة الأخيرة في قلوبهم.

نظرت على شكل عتاب إلى (ج). كنت أعلم أن لغة العيون الحزينة أقسى من الفولاذ. وأظن أن الرسالة وصلت.

**

اقتربت مني (ج) على سبيل العزاء، وتأبطت ذراعي، وقالت : أرجو أن تفهم أنني وقعت معك في نفس الفخ..

ثم ضغطت بأصابعها بمودة على ذراعي. فقلت بصوت خافت : ربما نجد في هذه الصحراء عودا أخضر..

على هذه الشاكلة. هي تمسك بذراعي وأنا أحمل الكاميرا بيدي الأخرى تجولنا بين اللوحات. ولحسن الحظ أنه شاهدنا بينها لوحة واحدة للفنان لاركين وعنوانها (العربة).

وقفنا أمامها لنرى لمسات ريشته، وحاولنا أن نتخيل كيف يمكن له أن يرسم سنكلير الذي سبق ورأينا له بورتريه في وضع رواقي.. وضع ديكارتي .. يغلب عليه التأمل مع الاستعداد.

وبينما كنت أقارن بين الألوان والخطوط انتشرت في الردهة رائحة معطرة لغليون يحترق. كنت أعتقد أن التدخين في ردهة اللوحات الأصلية ممنوع، ولكن لم أهتم بالأمر لأنه سرعان  ما اقترب منا زوار من مختلف الجنسيات والأعمار ليتأملوا معنا لوحة (العربة)...

 

د. صالح الرزوق

شباط 2005

.......................

من مجموعتي (تشبه القصص) الصادرة عن دار مجلة ألف بدمشق/ بيروت عام 2012.

 

 

في نصوص اليوم