نصوص أدبية

جراد الشرق

جابر السودانيمقتطف من روايتنا المقبلة

ارتشف بيتر برايم رشفة أولى من كأسه الأول وشعر بالنشوة فأثنى على اختيار توماس لهذه الحانة الجميلة مكانا للقاء وأكد على أنه سيظل يتردد عليها دائما :

- أحسنت الاختيار يا سيد توماس هذه الحانة تستحق أن يأتيها المرء للسهر أو لقضاء وقتا من النهار. إنها حانة مميزة بكل شيء والنادلة جميلة وأنيقة جدا.

- وماذا لو كان عطا الله الآن هنا يا دكتور بيتر. الذي يحرم على الأطفال الصغار سماع الموسيقى ويعزلهم عن مخالطة نظرائهم في المدرسة ويفرض على المرأة ارتداء خيمة فضفاضة من القماش السميك إذا أرادت الخروج للتجول في المتنزه أو الشارع. إنه حتما سيقضي بتجريم المجتمع بأكمله لو دخل هذه الحانة الجميلة ورأى أجواءها ونساءها وسينفذ قراره بلا أدنى تردد متى ما توفرت له القدرة على التنفيذ.

- الحق أقول لك يا سيد توماس إني لا أرضى أن يتحول أمر عطا الله وتطرفه إلى ظاهر ملفتة للانتباه في مجتمعنا لكنني على العكس منك غير متخوف منه ومتى ما وجدته تحول إلى ظاهرة سوف أعلن وقوفي ضده وأتصدى له بكل صرامة ولا اخجل من ذلك التصدي رغم إني الآن غير متحمس لمجابهته وأود أن اعرف ما الذي استجد الآن وتريد أن تخبرني به.؟

- أرجوك افهمني يا دكتور، هناك مستجدات رأيتها بنفسي هذا المساء وفهمت من خلالها إن عطا الله بدء يغادر ما كان يعتريه من حذر وتردد ويحذو حذو المهاجم الواثق من سلوكه وتصرفه وقد جمع حوله عددا آخر من المهاجرين المسلمين رجالا ونساء وكانوا يؤدون معه طقسا دينيا في المتنزه العام.

60

- كم كان عددهم حين رايتهم يؤدون طقسهم الديني في المتنزه العام.؟ وهل تعتقد إنهم كانوا في مناسبة تقتضي شروطها الصلاة في مكان عام لمرة واحدة أم إنك تظنهم سيعاودون الصلاة في الأماكن العامة دائما.

- بالحقيقة لم أتيقن من شيء ولا ادري إن كانت لديهم مناسبة وسيكتفون بصلاة واحد فقط أم إنهم سيعاودون ذلك التحدي دائما لأني لم اسألهم ولم اقترب منهم لكني أحصيت عددهم وقد بلغ خمسة وعشرين نساء ورجالا وأطفالا صغارا وانتظموا في أربعة صفوف يتقدمهم عطا الله واكتفيت بمتابعة ذلك الطقس الديني خلسة ومن بعيد.

- حسنا يا سيد توماس أولبرايت دعني اعترف أنك بذلت جهدا كبيرا على هذا السبيل لكن هل يمكنك أن تخبرني إلى أين تريد أن تصل من وراء جهدك وكيف يمكنني أن أساعدك في مسعاك.؟

- هذا هو جوهر لقائنا يا دكتور بيتر. وحسب اعتقادي إنهم الآن يؤسسون نواة أولى لخلق تشكيل اجتماعي شاذ وغريب عن طبيعة مجتمعنا البريطاني وسينشط أكثر كلما وجد الفرصة متاحة للقيام بممارسات احتيالية ضد القانون والحياة هنا العامة، وعلى الأرجح أنهم يسعون أولا إلى استهداف الحريات الاجتماعية العامة في لندن ومن ثم الامتداد إلى عموم بريطانيا. إن من الحكمة يا دكتور بيتر أن نسبقهم نحن ونشكل كيانا مناهضا لما سيقومون به من أفعال ضارة بمجتمعنا وادعوك إلى دعم هذا الكيان من خلال انضمامك أنت شخصيا إليه ودعوة من تستطيع أن تدعوهم لمساعدتنا فماذا تقول.؟

61

- لو كنت أرى الخطر حقيقيا كما تراه انتَ يا سيد توماس لما توانيت عن تلبية طلبك فورا لكني ما زلت اعتقد أن الأمر ليس أكثر من شكوك ترسخت في ذهنك ولم يعززها الواقع بدليل يثبت صحة خطورتها وإلا هل يمكنك الآن أن تخبرني أين أصبحت شكوكك الأولى بشأن عزم عطا الله على الزواج من إحدى الأرملتين اللتين معه في البيت. لقد تناسينا هذا الأمر كليا ولم نتذكره طيلة الشهرين الماضيين لأنه مجرد شك غير واقعي لكن مع ذلك لا يسعني إلا أن أشجعك على المضي في التقصي شرط أن لا توغل في مضايقة الناس وأن يكون هذا التقصي شفافا إلى أبعد حد ممكن.

- يا دكتور بيتر لماذا تتهاونون في الأمر رغم أن خطورته واضحة. أنا لم اخترع شيئا من عندي وعطا الله هو الذي اتصل بديفيد أكوب وطلب نصيحته بشأن الزواج من امرأة أخرى ولأني عاقل واحترم عقلي فأني لم اصدق إنه ينوي الزواج من امرأة أوربية، وستثبت لك الأيام صحة ما أقول.

- لا بأس يا حضرة المشرف التربوي سننتظر ونرى. نحن نترقب أيضا ولكننا لا نتوجس خيفة مثلك وهذا هو الفارق بيننا وبينك. ولنا زيارات مقررة مطلع العام الدراسي المقبل إلى بيت عطا الله ستساهم في زيادة فهمنا لطبيعة أفراد هذه العائلة وتحل بعضا من إشكالية الغموض التي تحيطهم.

- نعم زياراتنا المقبلة ستحل بعضا من إشكالية الغموض لكن هناك غموض آخر يحيرني وأريد أن توضح لي الدافع الذي يجمع هؤلاء ويوحدهم رغم أنهم فرقاء ومن أمم مختلفة ولهم لغات مختلفة وعادات مختلفة.

62

- يا سيد توماس رغم إني لست معنيا بدارسة خصوصية المجتمعات الشرقية ولم ادرسها لأي سبب من الأسباب. لكن باعتباري طبيب نفساني يمكنني أن أقول لك : أن هذه الأثنيات لها دوافع دينية توحد أبناءها ظاهريا ويتخذون من توصياتها ومحرماتها قوانينا شمولية بديلة عن قوانين البلدان التي يعيشون فيها وينحازون لقوانين ديانتهم إذا تعارضت مع القانون المدني السائد. لكنهم يبقون في جوهرهم فرقاء يتحاسدون ويتصارعون وربما يكيد بعضهم لبعض كيدا، هذا على حد علمي وأنت يا صاح ما زلت شابا وينتظرك عمر طويل ويمكنك دراسة المجتمعات الشرقية والتوصل إلى خلاصات هامة ومفيدة بشأنها مادمت ترى ذلك ضروريا.

- نعم هذا ضروري جدا، لكن كما أخبرتك أنا أريد أن أدخر جهدي ووقتي لتشكيل كيان سياسي يحثهم على الاندماج بمجتمعنا أولا. وإن أبوا ذلك يكافح تمددهم ويسن القوانين الكفيلة بعدم تدفق الكثير من نظرائهم إلينا في المستقبل ويعمل على حماية مجتمعنا من خطورة توجهاتهم الراديكالية وأنا جاد في مسعاي رغم صعوبته البالغة.

- أنا ظن إن كيانك السياسي المقبل سيتهم بالعنصرية التطرف وأنت تعرف إن اليمين والتطرف ليس لهما أصدقاء هنا في مجتمعنا ولا يمكنهما أن ينتشرا.

- نعم أعرف ذلك يا دكتور وأظن أن غياب الضرورة هو الذي أدى إلى تلاشي اليمين نهائيا. لكن متى ما استدعت الضرورة وجود اليمين سينجح ويحتل المقدمة السياسية وأنا لا أسعى إلى خلق الضرورة لكني أتحسب لها فقط ...

63

  جابر السوداني

 

في نصوص اليوم