نصوص أدبية

أوراق كلب..

صحيفة المثقفعلوش، هذا هو اسمي، عفوا لقبي، وهو مختصر علي الشريف. اسم جميل، لكنني نسيته كما أنساني واقعي كل جميل في حياتي.

في حينا لكل منا لقب يرجع إلى عاهة أو كلمة تلفظ بها واحد منا خطأ، أو عن غير علم، أو وجه شبه بينه وبين المشبه به. والكل راض مسرور. عودتنا قساوة العيش ومرارتها على القبول بهذا.

.. الشتائم والسخرية من بعضنا بعض كان حالنا العادي، راضون به، وإن كان يحط من إنسانيتنا وشخصيتنا..

راضون ومبسوطون، لكنني الآن اتخذت قراري. سأثور على قدري، سأهاجر، سأرحل عن هذا المستنقع نحو أوروبا. نعم أوروبا حيث الرفاهية والعيش الكريم. هناك من ينتظرني.. شقراوات فاتنات، يعشقن الرجل العربي.. نعم أنا قادم.. أنا قادم...

تسللت إلى غرفة أمي حيث وضعت رسالة الوداع.. لا أريد مناقشة الموضوع ولا آراء أسرتي، وأخشى من دمعة أمي.

اتجهت نحو الميناء أتربص بحافلة للسياح متجهة نحو الضفة الأخرى..

بدأت بالزحف نحو الحافلة وتسلقت بين عجلاتها الخلفية للاختباء في مكان ضيق لا يسع إلا لجسم واحد نحيف مثلي. لزمت هذا الجحر حتى رست السفينة في ميناء الجزيرة الخضراء. أحاط ضباط الجمارك مصحوبين بكلابهم الشرسة، وقلبي يكاد يخرج من فمي لشدة وسرعة الخفقان. لست خائفا من السجن، بل من العودة مرة أخرى إلى وطني.. ! أشار الضابط معلنا انتهاء مهامه، وانطلقت الحافلة باتجاه محطة للوقود.

أسرعت بالنزول، ثم خلعت الملابس التي كانت تقيني من الأوساخ التي تسببت فيها الدهون والغبار والدخان، وألقيت بها في صندوق للقمامة. توجهت نحو مرحاض لأزيل ما تبقى من درن على وجهي ورأسي ويدي.. وقصدت محطة القطار لأتجه إلى باريس. نعم باريس حلمي!؟

مرت الرحلة بسرعة. كنت أتمنى أن لا يقف القطار، ولكنه أبى. وقف وأمرني بالنزول دون رحمة أو عطف..

اتجهت نحو الحديقة العمومية الكبرى علي أجد حبيبتي التي تنتظرني؛ فثقافتنا هكذا: تزعم أن الأوربيات يعشقن الرجل العربي، وهن دائما في انتظاره، هنا، بمدن أوروبا، في الحدائق والملاهي والحانات.. وكل الأمكنة..

تجولت بين الأشجار. جلست على المقاعد المخصصة للاستراحة.. لم تلتفت نحوي امرأة واحدة. كلهن يتجاهلنني، بل منهن من تتوجس خيفة مني كأني مخلوق غير مرغوب فيه.. لا يكلمني أحد، ولا يجلس بقربي أحد. أحسست بضيق وقهر.. ونظراتهم لي تذلني وتوحي بالكراهية والاحتقار. شعرت بأني منبوذ مرفوض.

جلست وحدي لساعات لم يقترب مني خلالها أحد.. اغرورقت عيني بالدموع، وأحسست بقهر لم أعرفه طوال حياتي. كان يوما عصيبا علي. وفجأة سمعت صوتا ملائكيا اخترق كالنسيم الصمت الرهيب، ووحدتي الموحشة:

- bonjour monsieur

- bonjour mademoiselle

آه.. جاء الفرج.. الحمد لله.. هذا ملاك نزل من السماء. فتاة فرنسية ناصع بياضها كأنها بيض مكنون، جلست قربي تحدثني.. الحمد لله..

تعارفنا.. أخبرتها عن اسمي وجنسيتي، تقبلت الموضوع بقلب سمح، وأدخلت البهجة والسرور إلى قلبي. كانت تكلمني، وتداعب كلبها المنحدر من نسل ألماني، ألفني بعد أن داعبته أنا بدوري راجيا رضى صاحبته. طلبت مني حراسته مدة ذهابها لقضاء حاجتها في مرحاض الحديقة، تاركة محفظة صغيرة بها الوثائق المتعلقة بالكلب. ذهبت ولم تعد. انتظرت وانتظرت، ولم تأت. ماذا أفعل الآن!؟ أنا غريب وحيد جائع متشرد، وتزيدني كلبا. آه من هذا القدر.. آه كل شيء ضدي.. كل شيء..

أخذت الكلب وبدأت البحث عنها علني أجدها. استوقفني شرطيان. طلبا مني جواز سفري وأوراق الإقامة. فتحت المحفظة الخاصة بالكلب. أخرجت جوازه الأحمر، وقدمته للشرطي. اندهش وقال بلهجة كلها مرح ظانا منه أني أخطأت:

- هذا جواز الكلب سيدي..

- لا بل جوازي أنا..

حرك كتفيه ونظر إلى زميله في استغراب، وطلب مني، مرة أخرى، أوراق الإقامة ودفتري الصحي. ناولته إياها، ونظر إلي مبتسما:

- هذه الوثائق متعلقة بالكلب..

- نعم أعلم ذلك.. ولكن ما لا تعرفه، سيدي، أنا جائع متشرد دون سكن.. ليس لي عمل ولا زوجة ولا أسرة ولا وطن.. هذا أنا كلب يتكلم..

أشار الشرطي إلى الكلب، وسألني:

- وهذا من يكون إذن؟؟!

- هذا إنسان جاء من... لا يهم ذلك، ولكنه ينبح.. إنسان ينبح..

نظر الشرطي إلى زميله، ثم أعطاني بلطف وابتسامة يملأها الاستفهام الوثائق، وانصرفا يتحدثان بينهما..

 

خليل العمراني

 

في نصوص اليوم