نصوص أدبية

اكسباير

عبد الفتاح المطلبيفي العالمِ بلدانٌ كثيرة تشتهر بأمرٍما فمثلا إيطاليا "بالسباكيتي" والروس "بالدب الروسي" والأمريكان "بالصقرالأصلع" وإستراليا "بالكنغر"والبيرو "باللاّما" والأعرابُ "بالبعير" أما بلادنا (وهمستان) فتشتهر "بالبالونات"، نحنُ لانصنعُ بالوناتنا بل نشتريها من السوق العالمية التي وفّرتْ جميع أنواعها لجميع فئات السكان، الكبيرةُ والصغيرةُ المزركشة والتي لا لونَ لها، الشفّافةُ وذات الألوان المُخادعة، لكن شيئا واحداً يجمعها وهو ذلك الحد الذي لاينبغي تجاوزهُ في النفخ ولطالما رأينا بعض البالونات التي يبالغُ أصحابُها بنفخِها تطيرُ بهم فلا يعودُون، لمْ تكنْ المدينةُ التي أنتمي إليها لتعيشَ يوماً واحداً دون بالونات فمن لا بالونَ لهُ لا قيمةَ لهُ ولا يمكن أن يُعتبر الإنسان فيها مواطنا سوياً دون بالونه الذي يربطه بخيط إلى عنقِهِ طائراً فوقَ رأسه وكنا نفهمُ ماذا يعني أن :كلّا ألزمَ بالونهُ الطائرفي عُنُقِهِ وذلك يعني لنا الكثير، جميعنا نحملُ البالونات ذاتها لا يرتفع بالون على أخيه البالون الآخر في العمل و السوقِ وفي المدرسة والأعياد ترى البالونات صفّا لا تتفاوتْ إلاّ قليلا وهذا القليلُ راجعٌ لاختلافاتٍ بين طول الأعناق وضخامة الكروش وهكذا سارت الحياة لا تشوبها شائبة، حتّى ظهرت البالونات الصُفرالمرسوم عليها صقرٌ أصلعْ لأولِ مرةٍ في المدينة "وذلك الأمر يطولُ سرده " لكنكم تعرفون تفاصيله كلها، صرخ الناسُ جميعا : كيفَ ذلك؟ تلك البالونات أكبر حجما وأطولُ خيطا فلمَ لا تطير بأصحابها مرّ وقتٌ طويل حتى عرف الناس السرّ أننا نحنُ ذوي البالونات الصفر نلبسُ ثيابا محشوةً بالقنابل والرصاص فيثقلُ وزننا ولا نطير وببالوناتنا أيضا ذلك النسر الأصلع ذو المنسر الناهش المعقوف الذي كان حكرا علينا كسمةٍ خاصّة تُميزنا، ما أن يقترب من البالونات العاديةِ للآخرين الذين يحتجون على خرق القواعد حتى تنفجر بالوناتهم وينتهون مهملين ويجبرهم ذلك على الإختفاء والعزلة، حظينا نحنُ أصحاب البالونات الصفر بالمجد والوجاهة و السلطة على مدى طويل "وذلك أيضاً يطولُ شرحه ولكنكم تعرفونه جيدا"إذا فكّرتم قليلاً... حياتنا تأسستْ على هذا، لا نجيد الحياة إلا وبالوناتنا ذات النسر تنتفخ طائرةً فوق رؤسنا لا يدانيها أي بالون آخر تلك التي كانت تشغل الناس بالنظر إلى مواقع أقدامهم خوفا من الإقتراب منا وحصول ما لا تُحمَدُ عقباه، بالوناتنا لا تفجّر بعضها ذلك أن نسورها تعرف بعضها وهكذا رغب الكثير من ذوي البالونات العادية أن ينتموا إلى عالمنا الأصفر الذي طغى على المدينة ومسألة الحصول على بالون أصفر قضيةٌ معقدة لكنكم أيضا تعرفونها جيدا، كنا نفاخرُ باسم مدينتنا الجديد (صفران ستان).. إذ أن الإسم القديم كان يذكر الناس بحكايات قديمة لا تتلائم مع وجه المدينة الأصفر وهكذا فقد مر الكثير من الزمن الأصفر حتى جاء اليوم الذي حدث فيه ما لم نستطع تفسيره، لا نعلم ما الذي حدث، لقد بدأت البالونات الصفر بالإنكماش شيئا فشيئا مما جعل النسور المرسومة عليها تبدو ككائناتٍ مريضة أول الأمر و بعض البالونات القديمة تبدو أكثر زهوا ورحنا نستبدل بالوناتنا بأخرى وأخرى ولكنها كانت جميعا تنكمش بعد يوم ويومين، كانت ظاهرةً عمّت البالونات الصفر دون غيرها حتى انتبهنا إلى أن النسور التي كانت مرسومة عليها لم تعد واضحة وقد بهُتت ألوانُها و إلى صوت المنادي وهو يقول أن البالونات الصفر قد انتهت صلاحيتها ومضى زمنُها وتردد الصوت الذي بدا خافتا حتى صرنا نسمعه بوضوح(اكسباير).. (إكسباير)، أسقط في أيدينا وصرنا ننظرُ إلى بعضنا بريبة وتعالت علينا البالونات العادية وظهرت أخرى بأشكالٍ وألوانٍ جديدة ولم يعد أحدٌ يحسبُ لنا ولصقورنا الصُلع حساباً ...صارت حياتنا بائسة بين الناس..وصارَ من الطبيعي أن ترى بالونات على شكل تماسيح أو ديناصورات أو كلاب أو طيور مرفرفة، لم تكن البالونات الجديدة لتمثل حالاً أفضل مما كنا فيه لكن الناس جميعا قد انشغلت بالبالونات الجديدة وتركت ما دون ذلك حتى ظن صاحب بالون التمساح أنه تمساح وصاحب بالون القرد أنه قرد وذاك الذي يحمل بالونا على هيئة علي بابا أنه لصٌ ظريف حقا، تهرأت المدينة وضاعت معالمُها وأصابها البؤس جرّاءَ ذلك .أما أنا فقد أنفقتُ ما تبقى من أيام بالنوم هروبا من مواجهة المستجدات من الأمور، حبستُ نفسي في البيت فأنا لم اعتد الخروج الى الحياة من غير بالوني ونسري، حاصرتني الحاجةً إلى مورد رزق جديد ومللتُ من نظرات امرأتي التي تجيد بث الرسائل السريعة، امرأتي كانت تتباهى ببالوننا الأصفر ذي النسر الأصلع وكان ذلك مدعاة فخر ومجد لها حينما كانت النسور نسوراً، مللتُ النوم واشتقتُ إلى التسكع على الشارع الذي كان يَطير بالونيَ الأصفر ونسرُهُ بمحاذاة رصيفه وهالني ما تغير خلال مدةِ عزلتي وما آل إليه الشارع الأثير وكنتُ أردد أحقا هذا هو شارع البالونات الصفر الذي كان يزهو بنا ويُفاخر؟؟.. نحنُ أصحاب السطوة والمجد الأصفريالسخرية القدر! سرتُ متمهلاً في الشارع الطويل المهمل، شارعٌ صار يستفزني وكأنه يناصبني العداء وكان اسفلتهُ ورصيفُهُ يستقبلني ضاحكا في ما مضى، لم ينقص منّي شيءٌ سوى بعض تغضنٍ في ملامح وجهي وزيادة الشيب في رأسي والشارع ذاته إلا أنه قد بهُتَ أسفلته الأسود ومال إلى لونٍ أشبهُ بالرماد..وتكسرت بعض أرصفته وتفتت حصاهُ وانخفضَ تحت صرير العجلات المستمر ليلاً ونهارا التي ترفد المدينة بأطنانٍ من البالونات المستوردة حديثا وكان أغلبها على هيئة علي بابا والتماسيح والقرود لرواج أشكال هذه البالونات بين الناس، فكرتُ أن هذا الشارع الذي كان يؤنسني رصيفه فيما مضى يمكنُ أن يقتلني الآن هكذا ببساطة تختفي حصاةٌ مدببةٌ بين تضاريس عجلةٍ مطاطيةٍ تسير بسرعةٍ، تشاءُ تلك العجلةُ أن تُطلقَ هذه الحصيّةَ باتجاهي بقوة ألفي حصان، آه.... ألفي حصان، تتجه نحوي مباشرةً، تخترق جمجمتي الرخوةَ نسبياً بالنسبةِ لقوة ألفي حصان، ألفا حصان تتجهُ نحوك برفسةٍ واحدة، تسقطُ ميتا على الإسفلت الذي يضمك إلى محتوياته المُهملة، ربما يحملك بعض المارة أو يتعرف عليك المستطرقون"، عند هذا الحد من مونولوجي الطافح بالكَدَرِ استدرتُ وعدتُ من حيث أتيت وقد زاد حنيني إلى زمنِ البالون الأصفر فعرجتُ إلى سوق الألعاب اشتريتُ علبةً من البالونات الصفرمنتهية الصلاحية وفي البيت ولكي أرضي امرأتي وأداعبُ ذاكرتهاا رحتُ أنفخ بالونا فينفجر فأنفخ الثاني وينفجر"اكسباير""إكسباير"، رحتُ أدندن وهكذا حتى سَجا الليل إلا من أصوات فرقعات بالوناتي فصاحت امرأتي كفاك من هذه البالونات "الأكسباير" فقد أزعجتِ الجيران وورّثَ ذلك فينا الصُداع. ...

***

قصة قصيرة

عبد الفتاح المُطلبي

 

في نصوص اليوم