نصوص أدبية

إنما الشيطان ملاك

صحيفة المثقفإرتفع صوت صافرة النهاية معلنا بداية رحلة جديدة، هناك حيث يضمحل الأمل ويندثر في بقايا الذاكرة , حيث تهب رياح اليأس الشاحبة ويسدل الظلام ستاره الأسود على جدران الليل فيتوقف الزمن عاجزا عن إيقاف تلك المرحلة العاتمة.

عندها، تبدأ الأرض بالإتساع والتمدد ويأخذ كلّ من عرفنا وأحببنا في الإنكماش والإنحسار شيئا فشيئا إلى أن يتلاشوا تماما ويدخلوا مقبرة الذاكرة ليصبحوا بذلك من الماضي البعيد . وكسكير مقامر، يراهن المهاجر على الزمّن ويأمل في شيء جديد يزيل العتمة التي لا تفارق حياته البائسه، كل ذلك مقابل كل ما يعرف ويحب من أماكن وأشخاص تعلقت بهم الذاكرة يوما ما .

تحرك عقرب الساعة لتدق مشيرة إلى ساعة الرحيل، جمع حاجياته التي لم تكن تكفي لسد حاجته أصلا على مضض وفتح لنفسه طريقا ضيقة بين إخوته النيام ليصل إلى حيث تنام أمه . تجمد الدم في عروقه لبرهة وتأملها بعمق كأنه رسام أو نحات أراد أن يرسم أو ينحت شيئا في ذاكرته ووجدانه كي تبقى مطبوعة أينما ذهب … احتضنها بقوة حتى كادت تستفيق من نومها وهمّ بالخروج مسرعا كي لا يشعر أحد برحيله فهو ليس على استعداد أبدا للحظة الوداع وما أدراك ما الوداع : تلك اللحظة التي تنهمر فيها الدموع ويتعالى فيها صوت العويل والنحيب الذي يصعب تجاهله والذي ربما قد يؤدي إلى إلغاء الرحلة أصلا.

كان كل ما يأمله أن تبعده المسافة بعيدا، ربما تكون محاولة يائسة منه لدحض وابطال نظرية القدر المتوحش التي لطالما لاحقته أينما ذهب، فالزمن لا يتحول وإن تغيرت الأماكن لكن الصور السرابية التي مانفك الوهم الذي يسكن العقول، كادت تخدعه . لقد آن الأوان للهروب من واقعه الأليم فهو بعيد كل البعد عن أفراد مجتمعه وكل ما يقربه، وعلى الرغم من أن لغتهما واحدة كان من العسير عليه أن يفهم معجمهم ومصطلحاتهم فقد حاول بلا جدوى أن يختلط بهم ويندمج بينهم لكن، أيمتزج الزيت والماء ؟ أتختلط النار بالماء ؟ لقد حاول عبثا أن يتناسى وهم الحرية والعدالة والحقوق المسلوبة وحقه في كونه “إنسانا”، لكن من يقوى على النسيان والأشياء محفورة وبنيانها لن يتداعى أبدا ؟

أليس الشيطان في الأصل ملاكا كبقية الملائكة، ملاكا رفض تقبل الواقع وانشقّ ؟ ألا تكذب الصحراء على العطشى وتريهم واحة من السراب لتبعث في أنفسهم أملا جديدا في الحياة؟ وفي النهاية مالذي سيخسره هو أصلا وهو الذي لا يملك إلا الآلام والمآسي، آلاما ومواجع في عالم اغتيل فيه العدل وأصبح الظلم والجور سيدا الموقف والمرحلة، ذلك بعد أن رُمِي بالأخلاق والعدل خلف القضبان الحديدية وتحررت القيم المادية لتغزو عقول البشر وساد الخوف والهلع حتى خضع الضعفاء أخيرا وسخروا أنفسهم لخدمة السلطان وكل من ملك القوة والسلطة . إن السلطان يملك فعلا القدر بعينه ويوزّع فتاته على ضعاف النفوس والعقول وكلّ حسب درجة خضوعه وعبوديته . من هذا المنطلق، وجب على المهاجر التفكير عميقا في أولوياته وإن كانت تلك الشرذمة تهب الحياة وتسلبها كيفما تشاء، فإنه يفضل قدر الشيطان على قدر أولئك العبيد مع أنه يعلم علم اليقين أن طريق الحرية صعب المنال ومليء بالمطبات والأفاعي السامة .

أخيرا، وصل إلى أرض غريبة عجيبة لم يرها قبلا ولم تظهر معالمها أبدا حتى في أحلامه، أرض الناس يتنفسون فيها دون دفع ثمن، أناس غير مكممي الأفواه ويتحدثون بصوت مسموع، بل انهم يضحكون ويقهقهون … عجبا ؟!! لقد لقنونا منذ نعومة أظافرنا أن نخفض أصواتنا وألا نضحك لأن الضحك قلة أدب وحياء .

تابع سيره في شارع طويل فشاهد طفلا يرمي ورقة في حاوية الفظلات ولكن ما شد انتباهه وتسبب في وقوع فكه السفلي من شدة الدهشة، هو ذلك الشرطي الواقف في الطابور منتظرا دوره ليشتري قهوة … سار طويلا دون كلل أو ملل مكتشفا ذلك العالم الذي لطالما كن يحلم به، لم يعي أن الوقت تأخر لإيجاد مكان ينام فيه فرأى أن ينام أسفل أحد الجسور، وهذا ما كان حيث أفترش الأرض وما هي إلا دقائق وبدأت سمفونية الألم بعزف ألحانها فهو ساهر على قرع طبول معدته الخاوية تتناغم مع أصوات مزامير السيارات والمايسترو أوعز للطبيعة بإدخال المؤثرات الخاصة على مسرح العذاب..

بدأ المطر بالنزول بإنسيابية على جسده نصف العاري، ثم دخل صوت الرعد ليتراقص جسده وينتفض فرحا وأضواء البرق المتقطعة أضفت لونا خاصا على أجواء حفل الإستقبال , تذكر أمه وعائلته فسقطت دمعة، تذكر وطنه فسقطت أخرى، فتمنى أن تزول تلك المسافات ولكن صوت الألم ورائحة الذل ومستنقع الظلام وقبضة الجلاد أيقظته ونبهته إلى طبيعته الشيطانية وأنه لن يدخل جنة وطنه إلا عندما تقوم الساعة.

 

بقلم : ياسين خضراوي

 

في نصوص اليوم