نصوص أدبية

ناجي ظاهر: بصّار وبرّاج

دنت مني بخطىً متردّدة وجلة. أرسلت نظرة حافلة بالمعاني إلى عيني. وقبل أن أفيق من المفاجأة سألتني وهي تنشر ابتسامة مَن يريد أن يعرف:

-قيل لي إنك ساحر تقرأ البخت.. وتكشف خبايا المستقبل.. هل هذا صحيح. قالت.

لم يكن ما قالته غريبًا عنّي، فقد أشاع شيخ مسنٌّ فاشل أوقعته الظروف في طريقي، أو أوقعتني للدقة..، أنني رجل ساحر. وكنت كلمّا ترددتْ أمامي تلك الصفة النازلة عليّ من سماء ذاك المُسنّ، ابتسم ولا أعرف ماذا أقول، فأنا أعيش منذ سنوات وحيدًا منبوذًا مثل طائر كبُر صغارُه وانصرفوا عنه وعن عُشه بعيدًا، حتى أنثاه تركته مدّعية أنها ملّت سجنه لها. أرسلت نظرة إلى تلك الواقفة قُبالتي تنتظر الإجابة، فكّرت فيها، إنها في الستينيات أكبر أو أصغر منّي بسنة أو سنتين. وهي جارة طالما رأيتها تخرج من بيتها في العمارة المحاذية لتلك العمارة التي أقيم في إحدى شققها المنزوية، وطالما رأيتها تحتضن كيسًا صغيرًا بيدها، وتضع فيه عبوة تراها على هذا السور الواطي أو ذلك المُرتفع الترابي. أما الآن فإنها تقف قُبالتي وأنا لا أعرف بأيّ من الكلمات يمكنني أن أجيبها، وقبل أن أضع يدي على صدري علامة الاستغراب، أرسلت نحو عينيّ نظرة حيية:

-أعرف أنك ساحر.. طالما رأيتك تحمل الكتب وتمرّ من هذا الشارع.. صمتتْ ربّما لترى ردة فعلي وتابعت: إنني بحاجة لأن تقرأ لي حظّي.. لقد ذهبوا جميعهم ليقيموا في بلدات بعيدة وبقيت وحيدة.. بعد أن ولىّ طائري السعيد.. أريدك أن تقرأ لي حظّي.. هل سيعودون إلىّ في يوم ما؟ وهل سيدور الزمن دورة أخرى لأجدهم هنا.. معي وإلى جانبي؟ لقد مللت الوحدة.

صرفت نظري بعيدًا عن تلك المرأة.. إنها تشبهني من كلّ الجهات.. ويجمع بيني وبينها أكثر من وضع.. فماذا أقول لها؟ هل أجعل من نفسي ساحرًا كما أرادني ذلك المُسنّ الارعن؟ أم أخبرها أنني إنسان بسيط.. أكثر بساطة منها.. وأنني أنا مَن يحتاج لاستطلاع بخته.. وليس هي.. انتشر بيننا صمت مترقّب.. كان أكبر مِن طاقتي فاستأذنت منها ومضيت في طريقي، وسط دعائها لي بأن يوفقني الله وأن اقرأ لها طالعَها. أرسلت نظرة إلى الوراء.. كانت متوقّفة هناك كأنما هي خسرت عالمًا بأكمله وليس أحباء وأعزاء فحسب.. يبدو أنها أنست إلى نظرتي تلك ورأت فيها بعضًا من حنوّ افتقدته وتاقت إليه نفسها، هتفت بي شاقة ذبذبات الصمت المحيطة بنا.. هي وأنا.

-إلى أين انت ذاهب.. تعال الآن زُرني في شقتي.. إنها ليست بعيدة.. أنا جارتك أقيم هنا في ذلك المبنى.. تعال معي الآن.. أنا سأدفع لك.. لا أريد أن تقدّم لي خدمتك الغالية مجانًا..

أثارتني كلمات تلك المسكينة. فتحت عيني ذلك المسكين الهاجع في داخلي. تصوّرت نفسي أمضي وراءها دون إرادة منّي.. مسوقًا بنوع رهيب من الاشفاق على الذات.. قبل الآخر.. مضت تلك المرأة بظهرها المنحني وسنواتها الثقال.. مضت أمامي ومشيت وراءها كأنما أنا مسوق إلى متاهة لا نهاية لها.. فتحت باب شقتها بيدين راجفتين.. تريد أن تدخل إليها بسرعة مّن عثر أخيرًا على كنزه الضائع.. طلبت مني أن أجلس على أريكتها القديمة الشبيهة بأريكتي العتيقة.. الضاربة في القدم.. وتوجّهت من فورها إلى مطبخها بالضبط مثلما أتوجه إلى مطبخي عندما تركبني لحظةُ أملٍ طروب.. التفتت نحوي وهي تحمل غلاية القهوة بيدها الحالمة:

-سأغلي لك أروع فنجان قهوة.. أنا لا التقي كلّ يوم بساحر محترم مثلك.. أريدك أن تخبرني بكلّ شيء.. لا تخبّئ علي.. رحمة بي.. قُلّ لي كلّ ما تراه في فنجاني.. أنا تعوّدت على الوحدة وعذاباتها.. لم يعد شيء يؤثّر بي.. خسرت كلّ شيء.. أعدك أن أتقبّل قدري بالضبط مثلما تقبّلته منذ تركني ذلك السكير اللي ما يتسمّى.. لأعيل أبنائي الثلاثة.. ابنتي وابني.. لقد ضحّيت مِن أجلهم بكلّ شيء.. عندما كبروا انصرفوا واحدًا وراء الآخر ليقيموا في بيوتهم.. ولينجبوا لي الاحفاد.. أنا لا أزورهم كثيرًا.. ابنتي الصغرى كانت الأولى في جلب الاحفاد إلى الحياة.. بعدها ابنتي الكبرى.. ابني الوحيد.. أوسط أبنائي.. فشل في حياته.. تزوّج.. أنجب ابنتين.. وتعلّق بامرأة أخرى.. ترك زوجته وابنتيه وعاش مع إمرأة أخرى مطلّقة.. هواها قلبُه.. أنجبت له ثلاث بنات ما زلن صغيرات.. مثلّ براعم الورد.. طمني على ابني.. ابني مسكين.. أريدك أن تقول لي كلّ شيء.. عن ابنتي.. الصغرى والكبرى.. وعن الاحفاد هل سيكون حظّهم في الدنيا أفضل مِن حظي؟

_مَن هذه المرأة.. قلت في نفسي وتابعت.. ترى أتكون قرينتي. جاءت إليّ.. لتخرج من داخلي كلّ ما احتقن هناك من آلام وآلام؟.. سيكون خير يا أخيتي.. سيكون خير.. تمتمت بيني وبين نفسي.

بعد لحظات قصار وضعت صينية القهوة على منضدة منخفضة بيننا.. سكبت القهوة في فنجاني أولًا بعدها في فنجانها.. بينما أنا افكّر فيما سأقوله لها.. وكيف سأقرأ لها طالعها.. كرعتْ فنجان قهوتها بسرعة طائر يريد أن يلحق يصغاره المولّين في سماء بعيدة.. وقدّمته لي:

-اقرأه لي.. اقرأه لا تخفِ عنّي شيئًا.

تناولت الفنجان الحزين من بين يديها، وشرعت أتمعّن فيه.. كان فنجانها أشبه ما يكون بأم المتاهات.. استنشقت نفسًا عميقًا:

-سأخبرك بكلّ شيء.. لن أخفي عليك شيئًا.. قلت وأنا أتفحّص في فنجانها. وشرعت في قراءتي التاريخية.

-اسمعي جيدًا.. اسمعي يا أخيتي.. أنت تعذّبت كثيرًا.. بدايات حياتك كانت عادية.. مشاكلك ابتدأت بعد زواجك مِن ذلك السكير اللي ما يتسمّى.. وأخذت تكبر رويدًا رويدًا.. كل يوم كان يضاف عذاب إلى عذاب عتيق.. وكنت كلّما أنجبتِ ابنًا جديدًا تتأملين خيرًا.. وتعدين نفسك بأيام أفضل.. بقي وضعك يجري على هذا النحو.. بعد أن انصرف ذلك الوبش.. أنت تعذّبت كثيرًا.. لكنك حرصت على توفير الحياة الرغيدة لصغارك حتى كبروا..

ما إن قلت لها هذه الكلمات حتى فتحت عينيها على وسعهما:

-كنت أعرف أنك نبيّ تعرف كلّ شيء.. كمّل.. كمّل.. ماذا تحمل لي الأيام القادمة؟ سألتني بحُرقة..

-اسمعي.. بعد إشارة أو إشارتين.. أو ثلاث إشارات.. أعني بعد يوم بعد يوم أو أسبوع.. أو ثلاثة.. لا أعرف.. أرى مَن يدخل إليك طالبًا منك مساعدة ضرورية.. وسوف تقدمينها له.. قلت فردّت بحبور:

-إنه ابني.. هل هو ضعيف؟ سألتني.

-نعم إنه ضعيف. أجبت.

هزّت رأسها علامة الموافقة والثقة..

-كمّل.. كمّل.. ماذا تُخبّئ لي الأيام.. قالت.

فتابعت:

-إني أراك تفكرين.. بماذا تفكرين.. أعتقد أنك تحنّين إلى صغار ابنتك الصغيرة.. ستزورينهم في القريب.. كما أنني أرى ابنتك الكبرى مشتاقة إليك..

ابتسمت المرأة كأنما هي وجدت ضالتَها المفقودة.. طلبتُ منها أن تطبع إبهامها في قعر فنجانها كما رأيت بصارة تفعل.. مدّت يدها وسط رقصة خفيفة من رأسيّ خديها.. ومهرت فنجانها بأجمل بصمة. ابتسمت.. لقد تعذبت كثيرًا.. بصمتُك تقول إنك ستفرحين كثيرًا أيضًا.. وأن أبواب الفرج بانتظارك لتدخلي إليه. أيامك القادمة ستكون أفضل من تلك التي مضت.. سيعوّضك الله عمّا عانيته وتعذّبت بسببه..

أطل من عينيّ المرأة قُبالتي فرحٌ شعرت أنه هجع هناك طوال أيام عمرها.. قالت وهي تشيّعني نحو باب شقتها مكسور اليد:

-شكرًا لك.. كنت أعرف أن الله سيعدّلها معي.. وان ابني الحردان سيزورني في القريب.. كنت أعرف أن الله لن ينساني.. وأنّه سيستجيب لدعاءاتي. وسوف يفتح لي طاقة الفرج الموصدة.. منذ سنوات. طويلة..

عندما توقّفت لصق باب الخروج.. مدّت نحوي يدًا حيية.. وهي تقدم لي مبلغًا مِن المال.. خذ.. خذ.. هذا حقّك.. لقد قرأت لي طالعي كأنما أنت كنت معي وتعرفني منذ البداية حتى هذه الايام.. قلت لها وأنا أفتح الباب وأخرج منه حاملًا آلامي وآلامي.. في المرّة القادمة في المرّة القادمة.. ومضيت في طريقي وأنا أفكّر في نفسي.. وفيما أتمنّى.. أما تلك المرأة.. فقد كانت تشبهني.. ولا أخفي أنني شعرت طوال زيارتي لها تلك.. أنها قرينتي.. وأنني يُفترض أن أقول لها ما رجوته من الدنيا و.. ما تمنّيته.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم