نصوص أدبية

بين مدينتين

جليل كريمالتقيا هناك في مدينة أخرى من مدن الشمس القاصية. كانت عيناه تستوعبان كل ذلك الضوء الباهر، بانتشاء اجتاح اعماق جوانحه، وهفا إلى مكنون روحه التي أضحت لا تفقه أيما معنى من مسير تقاويم حساب السنين، أو تقلبات الأيام. فلقد غدت روحه متأججة بعنفوان شبابها، وملتهبة بلظى عشقها، وإن تقادمت الدهور، وتعاقبت الفصول. 

إنه عالم آخر لا يشابه في صوره وألوانه وأحاسيسه ومشاعره عالمهما الأول. عالم عسير عليهما أن يحددا فيه مديات مسراتهما، أو تطلعاتهما نحو حياة اكثر ارتقاء ورفعة. إنهما يستشعران الآن كما لو أن آلة مرقت بهما كبرق خاطف لتقذفهما صوب مسار آخر بعيدا كل البعد عن مآسيهما السابقة التي كان يخوضها كل منهما في لجج مفعمة بضياع مهين.

 حين استشعر رضا أن الراحة تحل ضيفة عليه، تنفس الصعداء، هامسا:

-  إنها مدينة أحلامي وآمالي وكل ماكنت أصبو إليه من صفاء وسكون في حنايا فؤادي.

هي مدينة ليست ككل المدن، يخالجني شعور غريب وقريب إلى روحي بأن يوم مولدي كان هاهنا، في زقاق من أزقتها المضيئة، وفي باحة منزلي، حين تسلقت يومها نتوءات سدرته السامقة بأفرع متينة، منحنية بأثقال نبقها على أسطح الجيران.

أجل.. لقد شاهدت ذلك كله، في مدينة زاخرة بمقاماتها، وأعمدتها الاسطوانية، شطها، جسرها العتيق، أناقة ناسها، وعشقهم لكل ما يمت للحياة بصلة. إنها مدينة ساحرة بكل معانيها وخصالها.

وددت لو أني مزقت دنياي تلك إربا إربا لأنثرها   نثار شجرة خريف لأوراقها.

 كنت أتقصى آثارك منذ زمن بعيد باحثا عن ظلك، بحث أبينا آدم عن أمنا حواء.  فلم أعثر عليكِ إلا الساعة، ولم أحيا في كنف السعادة إلا في مسكن من مساكن هذه المدينة البهيجة بناسها وشجرها ومائها وهوائها وترابها.

 هي ساعة مولدي على أرض طيبة، معطاء، كي أفوز بوصالك ها هنا، وأخلد إلى الراحة قريبا منك ما بقي من عمري. لهثت فائزة بحبور هامسة:

-  أجل.. يتملكني شعور بأن هذه المدينة قد أباحت لنا بتحقيق أمانينا وعقد رباطنا المقدس.

على هذه الأرض الحانية، أشعر بأمانها وأصالتها. تلك الأصالة الحقة أجدها متجذرة  في طبيعة ناسها تجذر عروق نخلة في باطن التربة.

 كل شيء هنا يبدو أليفا وبريئا وقريبا من الفطرة. علائقهم فيما بينهم كصبية لكن بعقول كبيرة.

 يرعبني في مدينتي وحياتي الأولى؛ أفواه تتملك ألسنة شتى. أعين شرهة. آذان مزودة بآلة تسجيل. ينتابني هلع على الدوام من عاصفة صفراء، لا أعلم في أية ساعة نحس تجتاحني بغتة

فتعريني من أوراقي وتقتلعني من جذوري. أخاف النهر الذي غدا نقالة موتى. وجوه مصطنعة كوجوه مهرجي السيرك. وأخرى زائفة، متفيهقة تسوس رعيتها بشعارات براقة.

لقد بديا كما لو أنهما يتوحدان، يتمازجان في عالم عشقهما الطارئ. بَرّق رضا عينيه إلى مياه ذلك النهر الجاري في اتجاهات متعددة، وعلى حافته استوى مركب يترنح يمينا ويسارا، استمسك صاحبه بوتد الجرف لئلا ينفلت قاربه عبر أمواج هائجة. راح يومئ إليهما بقبعة سوداء. أشاح الحبيبان بعينيهما عنه، فيما تشابكت أياديهما بقوة وعناد.

هتف رضا:

-  أقسم عليك أيها الزمن المشرق بالتماعاته  الزاهية أن لا تعيدنا كرة أخرى إلى زمننا الموبوء.

بانت من تحتهما وعلى المقربة من الجرف قبعته التي بدت الآن أكبر من المعتاد، ناداهما:

-   لقد انتهت الرحلة.

 ارتعدت فائزة من رأسها حتى قدميها وهي تضغط بكل قواها على كفي رضا متمتمة:

-  سأنشج حتما حينما أفيق من حلمي الفريد.

دام وصالهما مدة وجيزة من أزمنة مدن الأماني البهيجة.

جرى المركب بهما عبر مياه هادرة إلى أن  رسا على إحدى محطاته. أومأ بسبابته الطويلة، متمتما:

-  هذه هي مدينتكما الأولى.

هبط كل منهما حزينا، هبوط آدم وحواء من جنة المأوى الى أرض يباب. اجتاحت المكان عاصفة هوجاء، معتمة. تشتت شملهما.. جرفهما عصف الريح إلى بقاع نائية. أفاق رضا خائر القوى، والألم يعتصر حشاشة كبده. أحس ببدنه يحتك بأبدان جموع غفيرة من رجال ونساء قد امتلأت بهم أرض قفر، وهم يسيرون وفق نسق واحد حسب إشارة يتلقونها من شخص

يسير أمام الجمع وهو يلوح بها مرة نحوهم، ويومئ بها أخرى باتجاه هدف غير معلوم.

 سأل رضا أحدهم:

-  أين مسيركم؟

أجابه بلا اكتراث:

-  لا أدري.

سأله رضا مرة أخرى ممتعضا:

هل أنت لا تدري ولا تدري بأنك لا تدري أم أنك لا تدري وتدري بانك لا تدري.

التفت الشخص إليه مستغربا.. ثم أجابه:

-  أنا لا أدري وحسب.

أجابه رضا متهكما:

-  إذن انت من الصنف الثاني، ولو كنت من الصنف الأول لأكثرت الجدال والمراء.

أومأ الشخص برأسه موافقا على ما لا يعيه ثم سأله:

-   منذ متى وانت تسير قدما مع هذا القطيع؟

أجابه ضاحكا:

-  مذ كنت صبيا حين همس أبي بأذني ناصحا:

-  إياك والعصيان فإن للحيطان آذان.  

سأله رضا مستفسرا:

-  أين راعي القطيع.. أقصد قائدك المبجل؟

قهقه الرجل وبانت من باطن فيه أسنان مسوسة في لثة مهترئة، أما روحه فقد بدت واهنة، لا تفقه أيما معنى من معاني الحياة.

أجابه الشخص باحتقار:

-  إنك لا تعي شيئا مما يدور حولك من مؤامرات وفتن.

فرد رضا يسأله:

- حقا.. أنت حاذق.. كيف اكتشفت جهلي؟

ضحك ساخرا:

لأنك لا تفقه برامج وآليات ومناهج وعمل الانقياد.

يا أيها الغبي، هذا الذي يقودنا هو راع من رعاة  قائدنا الأعلى الذي يعلم ببواطن الأمور وشواردها ما لم نعلمه نحن، فهو ليس من شأنه مزاولة مهنة الرعي فمثل هذه الأعمال لا تليق بجلاله المهيب، إنما هو يوكل من يقوم مقامه، وينجز أعماله.

لاحت ابتسامة ساخرة على وجه رضا. ثم  سأله:

هل تحبه؟

تأمل الشخص في كلمة الحب واعتقد في قرارة قلبه أنه لم ولن يدخر في حياته حبا لأحد إلا له وحده.. وقد عبر عن هذا الاعتقاد بقوله: 

- لو أمرني أن ألقي بنفسي في النار لألقيتها.

سأله رضا مستغربا:

-  إلى هذا الحد!

-  أجل.

في هذه اللحظة جرت شجارات صاخبة في قلب القطيع مما أحدث جلبة كبيرة، واشتباك دام ساعات طويلة راح على أثرها خلق كثير. مر رضا بصاحبه فألفاه في رمقه الأخير وقد أصابه ما أصابه من الطعن والضرب والركل. فسأله رضا بأسى:

-  هل يمكنني مساعدتك؟

تبسم الرجل مزهوا بانتصاره الموهوم وأجابه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة:

-  أيها الغبي المعتوه.. هل سمعت أذناك أو رأت عيناك في يوم من الأيام أن شهيدا احتاج مساعدة  أحد.  أفاق رضا على عالم مدينته الأولى الغريب بكل مافيه من صور وأحداث.

صحا على عالم لا ينتمي إليه البتة. عالم مظلم.. ظلمة دامسة كظلمة الموت. تنهد رضا معاتبا حلمه:

- لماذا فارقتني أيها الحلم وقذفتني وسط هذه الخراف؟

أجابه الحلم ضاحكا:

-  لست ملوما عما يؤول إليه واقعكم، فلقد خلقتم في هذا الواقع لتحقيق أهداف كبرى لا يعي حقائقها إلا ذوي النهى الرشيدة.

إن انفصالي عن الآخرين هو لازم ذاتي لعالمي. حدثه رضا مستفهما:

-  هل سنلتقي تارة أخرى؟ فأجابه الحلم برأفة:

-  أجل..  فأنا ملهم العلماء والأدباء، ومؤنس السجناء والمرضى، ومثير حماسة العشاق وثوار التغيير والحرية.

لا تقلق يا صديقي فأنا معك دائما، وسأدعوها الآن لتتصل بك. فانطلق صوت فائزة من أمكنة قصية ليتسلل إلى قلبه تسلل المطر إلى عروق الشجر. سألته لهفى:

-  لماذا لا تكلمني أيها الحبيب؟ فسألها معاتبا:

- أين أنتِ؟ِ.. لماذا أبَتْ دنيانا أن لا نحيا إلا في بطون أحلامها. فردت متألمة:

- ربما لم يأن الأوان بعد. فسألها بامتعاض:

- متى يأن إذن؟

بكت متمتمة:

- لا أدري.. لكن يتحتم علينا في عالمنا هذا أن نكبت جميع أمانينا، ولا نبوح بأحلامنا. رد مؤنبا:

- أليست شرائعنا هي من أباحت تلك الأماني. فأكدت له:

-  وعاداتنا تأبى ذلك. فسألها:

-  إذن ما جدوى ارتباطنا بذلك العقد

-  لأحيا معك في الحلم.

- لم أعد أطيق هذا الحلم البتة.. لابد لنا من أن . نترجم أحلامنا وأمانينا إلى حقائق تحيا تحت الشمس وإن أبان لنا ذلك الوحش المتلفع  بالتحضر أنيابه ومخالبه.  فقالت له مذكّرة:

- أولم تناشد الحلم مرارا أن لا يعيدك الى عالمكَ الموبوء.. لماذا تصمتْ.. قل شيئا؟ 

تخربش حلم رضا.

 في الأثناء ظل الحلم راقدا بالمقربة من فائزة، هامسا في روعها:

- أليس من الجور أن الحب يتماهى مع الحلم، بينما عاداتكم المستهجنة لها أسواق رائجة في دنيا البغضاء. نَشجَت:

- أعرافنا تنّين مارد لا طاقة لي على ردعه. فأجابها الحلم بحزم:

- بسالتك وحدها كفيلة بقطع لسان التنين. فردت منكسرة:

-  قطع لسانه مؤلم.. مؤلم جدا يكاد يعكر صفو انتصار الحب.

بكى الحلم ووعدهما بانتشالهما من عالمهما المزري كلما سنحت له فرصة اللقاء بهما.

وهكذا ظل الحبيبان يتأرجحان بين مدينتين.

***

قصة قصيرة

جليل كريم

 

في نصوص اليوم