نصوص أدبية

ان بعض الظن اثمٌ

سمية العبيديالشـّك

ارتعش الضوء على شبّاكها ومات. وحل الظلام ضيفا ثقيل الظل، اذ جلب معه الوحشة ووثاقا يمنعها من الحركة والانسياح كما تريد في ارجاء المكان. تلمست خطاها العواثرالى المطبخ حيث شمعة حنون تساعدها وتريدها ان تجتاز عتبات الظلمة الى موعد عودة النور .

عاودت الجلوس في مكانها الاثير. لتلتهم افكار الوحدة والانفراد روحها، ها هي قد سقط عنها غطاء  القربى وخيمتها ولم يعد يشدها الى الحياة غير رباط واحد، هو انتظار الاجل المحتوم. ما كانت لتخشى الموت فأوله انصهار بالام الكبيرة  - الارض -. غير انها كانت تخشى العجز اللئيم. وتخشى ان تحتاج لجهود الآخرين لتسد عجز جهودها الشخصية عن بلوغ الذي  تريده. جيرانها أو اقاربها الابعدين. وتخشى انكشاف العيوب ونظرات العيون اللاتي تفضح رغبات التخلص من ربقة من لا نبالي به . كانت تفكر  براتبها الضئيل والذي سيموت بموتها. فلا وريث لها يستحق الراتب الشهري. اذن من سيخدمها سيخدمها مجانا  الا من بضعة ارائك وتلفاز قديم . حتى جدران هذه الغريفة والمطبخ ليست لها الا لحين وفاتها.

ذلك الفتى - قريبها من بعيد - الذي يساعدها احيانا بالتسوق لها واحيانا بتنظيف الغرفة والاثاث. يظن انها تملك شيئا، ترى ذلك في عينيه ترى الطمع يتقافز فيهما مثل حصان حرون. هو لا يتكلم ابدا في ذلك، وهي تتغافل عن بقايا مال التسوق الذي تضعه بين يديه كل اسبوع. ليأتي لها بما يعمر ثلاجتها. تطبخ ويأكلا معا. وحين ينصرف الى ذويه يكون شبعا مرتويا.

طالما امسكت نظراته الى ارجاء الغرفة تلك النظرات العميقة التي تمسح الاثاث والزوايا، كأنها تتمنى ان تشف عمّا وراءها. كانت نظراته - في رأيها - أشبه ما تكون بمثقب تدخل في العمق . وكانت نظراته تحمل من طاقة التفكير الكثير. جُلّ ما يتمناه كما تعتقد ان يكون حاضرا ابان موتها. ليسبرغور كل شيء قبل ابلاغ الآخرين به. كانت ستكون جولة مجدية في رأيه بلا ادنى شك.

ما كانت تجرؤ على النوم ولا على استعمال الحمام في وجوده بل كانت تنتظر حتى خروجه مهما كلـّفها الامر.

يوما ادعى انه بحاجة ماسة الى شيء من المال ليسدد به دينا عليه. لكنها افهمته من فورها ان ما لديها يكفي طعام الشهر فقط ودواءها. صمت وهو يخفض رأسه متمتما بما لا تدري.

أخذت منذ بضع سنين تشك بنوايا اي امرىء يقترب من بيتها الصغير وتظن الطمع في كل منهم، وبدا ذلك في معاملتها لزائريها بخشونة، فانفضوا عنها، غير ذلك الشاب الذي الجأه الفقر والحاجة اليها ليخفف عن كاهل ذويه. فهو بذلك يوفر بضعة وجبات اسبوعيا لاخوته الكـُثرالاصغر سنا. وان كان سيوفرها ايضا لو انه ارتبط باي عمل لساعة أو ساعتين  يوميا. لكنه هنا يحسن للمرأة ويؤدي فروضه المدرسية فبيتها هادىء جدا، هذا ما كان يقوله لنفسه، ولم يكن يعرف بدواخل افكارها وسوء نيتها نحوه.

كان ايام امتحاناته يتأخر عندها ليكمل دراسته وكانت تتضايق جدا دون ان تجرؤ على الطلب منه ان ينصرف لمنزله.

أوشك العام الدراسي الطويل على الانتهاء، وكانت الامتحانات النهائية تأخذ وقت الفتى وتلتهمه. ولكنه لم يترك المرأة بل كثـّف مكوثه لديها ليدرس أكثر. وحين نجح في الامتحانات العامة اسرع اليها قبل ذويه ليبشرها بنجاحه. فهي قد ساهمت فيه بطريقة ما  - كما يظن -  فوجيء الفتى بجمود وجه المرأة  وبخروج كلمة مبروك من فمها كما لوكانت حجرا ترميه به. صحيح انه كان ينتظر ان تعطيه بعض المال على سبيل الهدية، ولكن ذلك لم يحصل. بل كل ما حصل هو هذه التهنئة الباردة المتكلفة مما ادهشه كثيرا. حتى انها لم تكلف نفسها بان تعد له كأسا من الشراب الذي يقدم في مثل هذه المناسبات.

شكرها وخرج الى ابويه ليبشرهما. ابتسم والده عن اسنان متآكلة واطلقت امه زغردة مرتفعة واسرعت لشراء قنينة من شراب ما،  لتعدها لجيرانها المهنئين بنجاح فتاها  منقذ.

لم ينصرف الفتى عنها بل ظل يواصل التسوق لها. والاطلال عليها كل حين ورعايتها قدر الامكان. فقد وجد وظيفة صيفية بمرتب بسيط. كان يعطي نصفه لوالده ويحتفظ بالنصف الآخر لأنه كان ينوي اكمال تعليمه الجامعي. لم يتحدّث لاحد غير نفسه بامنياته ووساوسه. لان الخجل كان يركبه وكان يحدث نفسه قائلا : ربما لا تقبلني الجامعة، وربما اقبل بفرع لا اريده  فلا اتم تعليمي، فلأصمت اذن.

كان يؤدي بعض الخدمات الى رب عمله وكان الرجل يكرمه. فكان يضم هذا المال الطارىء الى ما لديه من أنصاف راتبه. لم يكن يبر نفسه ولا يدللها لانه يعرف انه سيكون بحاجة شديدة للمال في الايام المقبلة.

بعد أشهر قـُبل الفتى في الجامعة بعيدا عن بيته واهله. احتار ماذا يفعل؟!. أيذهب الى حيث لا أهل له ولا اصدقاء. فكـّر في قريبته ولمن سيتركها؟؟ من سيرعاها؟!!. من سيرعاها بعده؟ّ أوشك ان يرفض الدراسة غير ان والده نصحه بالسفر وانه سيرسل لها بديلا عنه.

سافر الفتى وهو مطمئن. وارسل والده ابنه الاصغر الى قريبته المرأة الوحيدة لرعايتها والتسوق لها. غير انها طردت الفتى الجديد مدعية انها ليست في حاجة لهم ابدا.

صمت الاب منزعجا مما حصل. لكنه لم يفتح فمه باية كلمة.

كان الفتى منقذ يتقدم في دروسه ويتفوق دائما على اقرانه. وقد التحق بوظيفة مسائية تتيح له ان ينفق على نفسه ويعطي والده ما يفيض عن حاجته.

وكانت المرأة وقد قضمها الكبر مثل لقمة سائغة وتتالت عليها السنون واقعدها المرض. لا تزال تركب رأسها وتدعي كذبا انها ليست بحاجة لاحد. كانت تمضي الى مطبخها شبه زاحفة. وتهمل غسل اوانيها وتترك الاوساخ العالقة بملابسها في مكانها لانها لا تستطيع ازالتها.

وحين عاد الفتى فرحا بشهادته التي نالها بصعوبة. لا لقصور في جهوده ولا لبطىء في تفكيره. بل لقصور ذات يده ويد ذويه مما صعـّب عليه الحياة الجامعية.عاد منتصرا ليزف بشرى التفوق للمرأة التي كان يساعدها ويأمل ان تساعده - وكانت تستطيع - غير انها لم تمد يدها اليه أبدا ومع ذلك لم يتخل عنها كما فعلت هي.

عاد ليراها على فراش المرض، لا يرعاها احد لانها لم تفسح مجالا لاحد ان يساعدها تكبرا وعنادا  وشكـّا بالجميع. اسرع الى طبيب جار فطلب اليه ان يسرع اليها بالنجدة. حين حضر الطبيب اشمأز من الدار وصاحبتها، لكنه قام بواجبه الانساني ففحصها ووصف لها الدواء فاسرع الفتى الى جلبه وسقاها اياه وهي ترفض ظانـّة انه يسقيها السم ليقتلها ويستولي على ما لديها.

ظل منقذ يرعى المرأة حتى شفيت.  وكان قد نظف الدار وازال الغبار واعاد كل شيء لمكانه. فابلت من مرضها لترى بيتها نظيفا مريحا. وترى الفتى ينفق عليها من ماله الخاص على قلته. هنا، وهنا فقط  اتقد خيط من ضوء الحقيقة في ذهنها الذي تراكمت عليه عتامات الشكوك فطمسته، فادركت مدى خطئها وسوء ظنها بالناس وعرفت ان الدنيا لا تزال بخير.

***

سمية العبيدي

 

في نصوص اليوم