نصوص أدبية

أنا والشبيه (2)

قصي الشيخ عسكرالنشيد العاشر

كان العرب القدامى يكنّون العذراء بأمّ

يتفاءلون بالكنية

يحترمونها

مع ذلك تظل الكنية تأتي بعد الاسم.

تؤكده.. تتغلغل فيه تدركه تفترسه في بعض الحالات

هذا هو حكم الزمن.

وتظل أنت بين بين

فلا تختار اسمك لكنك قد تختار كنيتك

فأيتهما ترغب؟

 

اسمي الجديد القديم

شاءت المصادفة أن تسبقنا اسماؤنا،أقول المصادفة وحدها وليس هناك من أمر آخر،ورحت استبق كنيتي قبل الأوان حين راح الناس يخاطبونني ب أبي عدي.

أين أبو عدي.

ذهب أبو عدي،وأقبل..

هكذا كان الأمر.

جدتي رحمها الله لم تمنحني الكنية.. التي بقيت واختفت

أيتها الفتنة اللغز كيف تختفين وفي الوقت نفسه تظهرين

هل هو السحر أم إنها الحياة

أما أنا فقد كنت في نبضك،ولعبة الزمن صعبة جدا لا يقاوم إغراؤها!

فلا أشعر إلا بك سواء في مغيبك أم ظهورك.

مع ذلك ارتحت إذ كلما حدث أمر حملني الناس على الاكتاف وهنفوا : بالروح بالدم نفديك يا صدام

فأين أنت ياسيد صروط؟

وأين أنت يا جدتي؟ ليسبقني بعدئذ وصف آخر،في المدرسة حين كنت أجلس بهدوء استعيد ذكرى مظاهرة خرجت قبل أيام

مازلت في ثانوية العشار.

ربماكنت أدري ولا أدري.

والكنية كما هو تبدأ بي من جديد.

رمقني المدرّس بابتسامة وقال:مادمت تحمل اسم صدام فلنخاطبك بأبي عدي أليس للرئيس ابن اسمه عدي؟ ابتسم التلاميذ،وقال أحدهم ولا يعنيني أن أذكر اسمه فلم يكن لي خصما قط وقد حضرت مجلس عزائه في حرب الخليج،قال على صدام إذن أن يسمي مولوده الآخر باسم قصي فسيادة الرئيس يا أستاذ له ولدان قصي وعدي،وأذكر أن التلاميذ ابتسموا،المدرس نفسه ابتسم غير أنه وبخ التلميذ لأنه تكلّم وهو جالس ،ليس هذا فحسب فقد رأيت بعض الناس يخاطبونني في الشارع بكنيتي الجديدة أبي عدي،فقلت معي نفسي أن جرت الأوضاع على خير مايرام فاشتغلت وتزوجت ورزقت بأولاء فلأسمين الأكبر باسم عدي والذي يليه باسم قصي وقتها جهلت أنّ الزمن حقق رغبتي الخفية ورغبة الناس فجاء قصي وأصبح جراحا شهيرا في إحدى متشفيات استراليا.

النشيد الحادي عشر

كرة القدم = السياسة

الشعر = السياسة

كرة القدم = الشعر

إذن الجميع يتساوون في المعنى والشكل

كلّ يشبه الآخر ويفترق عنه أيضا.

و يظل الشبه في الملامح هو الذي يبهر العيون

أنا والياسري والشعر والسياسة.

كان عمي غضبان علّمني الشعر.

بدأ معي من عصر ماقبل الإسلام بقصائد عنترة الحماسية والعاطفية وقصائد امريء القيس وعبث طرفة وافتخاره وحكمة زهير بن أبي سلمى، أحيانا أحفظ ولا أعي بعض المفردات لكنّ عذوبة الكلمات أخذت تسحرني،وتسافر بي إلى عصور مختلفة،فلا يقتصر الأمر على العصر الجاهلي وحده. لا أدري لم علمني عمي غضبان الشعر . لا أظنه شاعرا بل محب له فأراد أن يجسّد شخصيته فيّ،لذلك أطعمني عشرات القصائد،فخلق فيّ تلك الروح وتلك النزوة الميالة للقصيد،وربما كان الشعر هو أحد العوامل التي أنقذتني في موقف حرج ذات يوم.

لكن

حديثي عن الشعر يتطلب مني الحديث عن غضبان وذكر أخي حسن وتداخل الماضي بالحاضر حيث تتجلى شخصيات خالصة النقاء من هؤلاء نزار عبد المحسن ابن عمي وهو مدرس كيمياء يحفظ الشعر ويعيه، وكذاك المعلم في الحيانية سيد ناظم الياسري هذا الشخص الذي غامر بحياته ذات يوم لينقذ حياتي، والقصة تعود إلى المسدس وأخي حسن الذي كان ذا ميول دينية وقدوضع عندي مسدسا. لم اسأله من أين جاء به هل اشتراه من أحد العربان رعاة الغنم في البر والبساتين أم زودته به منظمة محظورة كلّ ذلك جائز فدلني عقلي إلى أن أضع المسدس أمانة عند صديقي سيد ناظم ذهبت إليه في شقته بمنطقة الموفقية وأخبرته أن المسدس عائد لأخي وأخشى عليه أن يلعب به فيؤذي نفسه. قبل الأمر واحتفظ بالمسدس. إلى هذا الحدّ يبدو الأمر مقبولا غير أن أخي اعتقل من قبل دائرة الأمن بعد أيام،واعترف تحت وطأة التعذيب أنه وضع المسدس أمانة عندي. ولم أشعر إلا ورجال الأمن يداهمون بيتنا. عاشت العائلة دقائق قلق تشبه الأعوام. أخي معتقل لا أحد يعرف خبره،وأنا يلقى علي القبض أمام اعين أبي وأمي وإخوتي.

لا أحد يعرف السبب.

ولا أحد يدري ما الأمر أنا الوحيد شككت في قضيّة المسدس وتوجّست أن يكون أخي اعترف!

وفي دائرة الأمن عرفت الحقيقة،تحولت المسألة من مجرد شكّ إلى واقع عليّ أن أواجهه

قال لي الضابط هل عندك سلاح في منزلك؟

لا مجال للظن إطلاقا. قلت:

نحن ناس فلاحون ولدينا سلاح قديم كنا نحمي به أنفسنا منذ كنا في مزارعنا بالقرية.

فقطب حاجبيه وقال:

أنا أقصد الآن؟

نعم

ماهو؟

فأجبت على الفور:

مسدس.

هو لك؟

لا واجهوني بأخي حسن الذي ادعى كما حسبت أنه اشترى المسدس من أحد رعاة الأغنام ويبدو أن موظف الأمن اقتنع بالفكرة أو كاد.

توهمت أني أقول نعم وخلال خاطر سريع عبر بي ترددت. لا أعرف هل أخي ينتمي إلى أحد الأحزاب المحظورة أم لا؟ممكن أن نتعرض نحن الإثنين لمخاطرة لا تحمد عقباها لو أخفيت بعض الحقيقة. قلت:

إنه لأخي.

هل تعرف من قبل إن عنده سلاحا؟

كلا أبدا.

متى عرفت؟

أمس عصرا جاءني في زيارة ومعه سلاح فطلب مني أن أحتفظ به أمانة عندي.

هز ّضابط الأمن رأسه وضغط على زر قريب من المنضدة فحضر أخي من دونما حراسة. فيم لابس النوم، ويبدو أنهم اعتقلوهّ من البيت فلم يسمحوا له بتغيير ملابسه. شكله أشعث وعلى وجهه كدمات. ورم أسفل عينه اليمنى. وقف منكس الرأس صامتا. كأنه خجل مني. لا يستطيع أن ينظر إليّ. لعله شعور بالذهب. تأبيب ضمير. وقطعت الصمت إشارة من الضابط،فغادر أخي الغرفة،فأدركت أن علي أن أفعل شيئا.. أعترف وأكشف أي شيء فلا مناص من المراوغة. قال الضابط :

لم لم تخبر دائرة الشرطة بالأمر؟

جريمتي التستر، ولا أعرف ماذا يواجهه أخي صاحب السلاح:

ربما لم أجد الأمر يستحق ذلك الاهتمام.

السلاح عندك في البيت؟

لا قطعا وضعته في مكان آخر؟

 عند من؟

لا بد من أن أذكر سيد ناظم الياسري صديقي المعلم في الحيانية. قد استفيد منه فأخوه ضابط أمن بدرجة أقل من رتبة الضابط الذي يحقق معي:

السيدناظم الياسريّ

لماذا اخترته بالذات؟

لأنه أقرب صديق لي

ومن نافلة القول أن أذكر أن اختياري للسيدناظم الياسري كان في محله،فقديدعي أنه استشار في موضوع المسدس أخاه إذا ما اضطررت أن أذكر اسمه لكن التوقعات قد سبقت بلاشك دفاعي عن نفسي..

الشعر أنقذني

رأيته يدخل غرفة الضابط مع قريبه ، وكان من قبل قد وقف بباب دائرة الأمن وقرأ قصيدة عن مباراة العراق والإمارات،ثم سأل الحارس:

أتعرف صاحب القصيدة؟

هل هي لك؟

لا إنها لصدام فهد الأسدي.

صدام على اسم سيادة الرئيس؟

نعم وهو هنا عندكم!

فاستغرب الحارس وقال:

الموقوف؟!

يا رفيق هل تسمح أن أقابل قريبي الملازم الأوّل...

هل معك سلاح؟

نعم مسدس أريد أن أسلمه له.

ودخلا الغرفة وأنا مازلت واقفا. والنقيب يرقبني بنظرات مبهمة. كان الياسري يعيد ثانية القصيدة التي تخص مباراة العراق والإمارات،قرأ من دون مقدمات :

عراق بهدمه الأخضر طب  لمع بالساحة هو ولاله

عراق  تحزم  بصبره   وإمارات  إهيه الكبالة

شباب ولعبت ابدمه   وصدك بالساحة خياله

حبيب وناطق وفنه   ورجل عدنان درجاله

وكان في جعبتي قصائد كثيرة للغزل والوطنيات. كنت مستعدا لأي احتمال. وقد خففت عني تلك العلاقة بعضا من المعاناة،قد لفلف الملازم الأول القضية. فهمت أن التحقيق أظهر أن أخي اشترى المسدس من راع فجاء به إليّ وأنا بدوري سلمته للياسري الذي سلمه لقريبه الضابط.

كذا يتم اختصار الأشياء لكن هذا لم يخفف الوطء عن أخي الذي ظل مراقبا ومشبوها حتى ثبت أنه ينتمي إلى إحدى التنظيمات المحظورة. يقال تنظيم ديني،ولم تشفع له أية وساطة بل كدنا نخاف على أنفسنا ان نروح بجريرته!

فتمّ إعدامه.

النشيد الثاني عشر

لابدّ من أن تأتي ناهدة

من دونها يتحقق الشعر

وبغيرها أيضا

يتحقق الصمت

وأقول فيها شعرا

لا أجرؤ أن أنشره إلا بقلبي  

ناهدة أنالكِ

أنتَ لي

من بعيد أسمعها تهمس لي

لاتخف

أظنها تتفاءل بي مثلما يفعل الآخرون فتظهر وتختفي في الوقت نفسه

مثل مدينتي التنومة تماما

قبل أن يصبح السيد النائب رئيسا.

البيطرة

ظل اسمي مثار تكنهات سابقة لحينها. بدا لي ذلك حين أنهيت الدراسة الثانوية فقبلت وفق تصنيف الكومبيوتر في معهد بيطرة بغداد. الموظف الذي استقبلني تطلع في ملفّي قال:

مرحبا بك اسمك صدام نفس اسم السيد النائب.

نعم.

والتفت إلى الموظف الذي معه في المكتب وعلق:

تعرف منذ عشرة أيام عشت قلقا قلت إني لم أر السيد النائب يظهر في الأخبار ساورني هاجس أنه مريض حتى رأيته البارحة يزور وزارة الصناعة فارتحت.

فرد الآخر النحيف:

والله العائلة كلّها عاشت في قلق.

والتفت إلي مؤكدا:

اسمك صدام عاشت الأسماء.

أشكرك لي الشرف أن أسمع هذا.

أما تلك التي شغفت قلب الفتى القادم من الجنوب فقد التفتت إلى رائحة الطلع والنخل فيه وربما تجاهلت اسمه كان يحبها بعنف. بشغف. فوق الظنون. أول حب له. نسي الطالب العاشق التجربة الأولى وأوّل توقيف له وتعليقه من يديه بالمروحة حين تغزل بكل براءة بالجميلة السمراء الفاتنة بنت الأستاذ الجامعي في كلية الاقتصاد القومي الاتجاه فشكاه إلى معاون شرطة قومي مثله فعلقه بمروحة السقف. والحبّ على ما يبدو مثل الخمر يكرعها الشارب فيتقيّأ ويخيّل إليه أنّه يكرهها وقد يُقسم أنه لا يعود إإلى الكأس قطّ بل حين يشفى يُهرع إليها متلهفا وكأنّه نسي عذابها الأوّل.

هكذا كان الأمر.

لكننا ننسى سريعا فالجمال والحب يجعلان منا شجعانا حقا.

لم يتردد الفتى الجنوبي ولاحقت عيناه عينيها. ناهدة. الفتاة الرشيقة البيضاء التي خفق قلبها له مثلما خفق قلبه لها. أنّه الحب،فلتغن الطيور ولترقص الأشجار ثم ليهب النسيم دائما. وقد ظن أن الهواء يهب نسيما فلا عواصف ولا سموم ولم يدر أن القدر سيحرمه منها. 

في البدء لم يعرف ماهو دينها،فاسمها شائع في كل الأديان،ثم عرف فيما بعد أنها من الصابئة المندائيين. تحدثت العيون كثيرا،وبين الطبيعة حيث الطيور والدجاج والخراف،وربما سموم الأفاعي آلفته وآلفها. بدت الحكاية أشبه بقصص ألف ليلة وليلة،تبدو ناعمة لكنها تنتهي في الختام بمأساة.

في بعض العطل تكاسل أن يذهب للبصرة ليظل يحتفل معها في بغداد. يمكن أن يقترنا فيصبح الأولاد مسلمين مثله. وقالت له وهي تعابثه:

تعال لنعقد معاهدة.

فقاطع بابتسامة :

الحب فيه عهد وليست هناك من معاهدة،ولكن قولي ماعندك أنا أقبله!

مارأيك أن يصبح الأولاد مسلمين مثلك والبنات مندائيات مثلي!

ووجد نفسه مغلوبا ببراءتها فقال:

قسمة رائعة!موافق!

وأطلق ضحكة تراقصت لها أمواج دجلة فهفا قلبه معها، وحين نهضت قال راجيا:

مارأيك أن نتعشى السمك المسقوف الليلة في أبي نؤاس!

ياليت وماذا أقول لأهلي!

لنجد عذرا!

وقالت مترددة:

تعرف نفسي جاشت عندما شرحنا الأرنب والقط ربما سأتحول إلى نباتية.

تذكر أن والده يظن المندائيين يخنقون الضحية قبل طبخها فتساءل بسذاجة من غير أن يجرحها:

كيف تذبحون؟

مطت شفتيها وقالت:

والله عملية إطلاق صاروخ أسهل "وترنمت كما يفعل والدها" بسم الله الحي القيوم أذبحك أيتها الضحية المسكينة اغفري لي..

إذن لن يقرف أبوه وسيحدّث أمه عن الذبح في اليوم الموعود الذي بقي ثلاثة أشهر ليتحقق،واقترحت عليه أن يأتي لزيارة أهلها قبل أن يدعو عائلته. كانت أخبرته أنّ أهلها قد يرفضون. يراعون احتلاف الدين،ويظلّ هناك دائما أمل ما.. أحد أقربائهم البعيدين قبل بزواج ابنته من شاب مسلم لكن والدها الذي ينتمي لموروث ديني عتيق قد يرفض. القبول والرفض يتقاسمان تصورها،حتى أخبرته قبل أن يغادر إلى البصرة بشهر أنه يستطيع زيارتهم ليقابل والدها.

تأنق

بدا بكامل قيافته.

وتعطّر.

أشبه بأمير عربي قديم. ضحك من قصة البنات الصابئيات،والأولاد المسلمين. والد ناهدة وافق على الزيارة. هذا لا يعني أن المسألة انتهت. هي نفسها لا تعرف أيوافق أم لا.

مسالم.

يحب الخير.

يقبل أيّ رأي ولا يلتزم كل الآراء.

يواجه بشجاعة ولا يعرف للمحاباة أي طريق.

إذن هو أمام شخصية نقية،سيرتاح له،وماسمعه منه يبشر بخير كثير.

تطلّع في ساعة. وتأمّل أمام بائع ورد. التقط حزمة ملونة،واستقل سيارة أجرة إلى الكسرة. هناك في بيت تبدو عليه الفخامة استقبله والد ناهدة بوجه بشوش،وملامح أليفة. شيخ يبدو في الخامسة والأربعين من عمره. لطيف المعشر،وبعد تردد،وحين آنس من الشيخ لطفا تجرأ فبدأ بالحديث:

أظنك ياعمي تعرف سلفا أنني زميل الآنسة ناهدة كريمتك. معها في صف واحد ونحن على وشك تخرج.

نعم أخبرتني عنك.

تذكر وقع اسمه أول يوم دخل المعهد،لم ينبهر الشيخ بالاسم،ساوره تفاؤل،واندفع:

مهما قلت فلن أستطيع أن أفي ناهدة حقّها في العفة والشرف. إنها ابنتك وتربيتك ويكفيها فخرا بذلك!

كادت ملامح الرجل تتغير فغالبها بابتسامة سريعة،فقال من دون تردد:

وأخبرتك عنا أننا مندائيون!

والنعم ياعم!وأردف :كلّنا إخوة وأبناء حوّاء وآدم.

شوف يا إبني مادمت تعرف ذلك فأنا لا أضع الدين وراء ظهري نحن مختلفون وأجد من المحال أن يتم الأمر.

كان الرجل يبالغ في التغلب على مشاعره على الرغم مما عرف عنه من أسلوب سلس مرن. فقال الشاب:

سيدي كنت متفائلا حين قبلت زيارتي.

قبلتك ظيفا لأنني أردت أن أكسبك صديقا وأحترمك وأنّك أردت أن تتشرّف بي فتكون صهري ولي الشرف لكن الدين يبقى هو الحد الفاصل!

بقي مستغربا. يبحث عن كلام ما:

سيدي!

تعرف ياولدي أن الذي يتزوج من غير ديننا يخرج من دون رجعة نحن نعدّ الله خلق الإنسان كاملا لذلك لا نختن ولو فعلها مندائي لعددناه خارج من الدين ولن نقبل عودته.

يا عم هناك عوائل مندائية معروفة زوجت بناتها من مسلمين!

يعني ذلك أن بناتهم خرجن من الدين ولن يرجعن حتى لو طُلّقن،وأنا لا أريد أن أخسر ابنتي!

يظن أن الأمور تتغير وهو أمام رجل سهل ممتنع. تطمع في سهولته حتى تلمسها فتجدها صعبة قاسية.. صعوبته في الصراحة. لا يرائي. لا ينافق. ولو حدثته ناهدة عن نقاط ضعفه لما استفاد منها. وعلى الرغم من ذلك فإنّه يظل أنقى وأكثر صدقا وبراءة من ذلك الأستاذ الجامعي القومي الذي ترك كل الأعراف والأخلاق واستدعى له ضابطا صديقا علقه من يديه بمروحة السقف في الوقت نفسه لم ييأس أراد أن يستفزّ الوقت،ويستنفد الدقائق. الزمن مثل السمكة العالقة في الشص أرخ لها الخيط ثم اسحبها. أنت ابن البصرة صياد ماهر فهل تعجز أن تصيد السمك.

راوغ مع الوقت طويلا.

جلس على سريره ويداه تحيطان رأسه.

سأله صديقه محمود الذي يساكنه الغرفة:

مابك يا صدام أراك قلقا؟

اليوم رفض والد ناهدة طلبي.

صمم على أن يغادر إلى البصرة. سيغيب غدا وليكن مايكون. يذهب إلى أهله فيحدثهم عنها،يرجوهم أن يأتوا معه إلى بغداد لعل الشيخ المندائي يلين.

يحس أنه يختنق.

يضيع.

لا يقدر على العيش من دونها.

يتشتت. يتشظى.

كل هذا واسمه الذي رافقه لما يزل في المرتبة الثانية،وإن كان يشعر أن السيد النائب يحتل حقا المرتبة الأولى أو هكذا يقولون.

استقبلته أمه باستغراب،فليس يوم غد يوم عطلة،وليس من عادته أن يقطع تلك المسافة الطويلة ليقضي نهار الجمعة فيعود ليلا إلى بغداد. يكفيه أن ناهدة معه.

هل غدا يوم عطلة.

قال الأب،واستدركت الأم:

مابك هل من شيء؟

أعذريني لم أخبركم من قبل خلال عامي الدراسةأحببت طالبة معي صابئية،ذهبت إلى والدهم فتعرفت به لكنه رفض.

علقت أخته:

هؤلاء لا يختنون يا أخي!

وقال كريم المتدين صاحب المسدس:

لعله يكسبها فتصبح مسلمة!

فعلقت الأم:

زواج يعني أن يختلطوا بنا ونختلط بهم نأكل من ذبائحهم أووه..

عندها نطق الأب وكان يقصد النصح لا السخرية:

يا ابني مادمت فعلتها كما نرى ذلك في الأفلام المصريّة ذهبت بنفسك قابلت والد الفتاة وخطبت فما فائدة أن نذهب معك؟

يا أبي أرجوك أنا ذهبت للتعارف فقط.

تقول إنه رفضك؟

لعله يوافق حين يقابلكم وأرى وجودكم معي بركة من السماء.

والله لا أعرف ماذا أقول.

قالت الأم ودخل الجميع في صمت مطبق. كأنّه طال ساعات وأياماحتى خشي أن يظلوا كذلك. رآى البيت كلّه يصبح تماثيل لا تنطق،فخشي من الصمت المطبق عندها صرخ فيهم:

إن لم تأتيا معي يا أبي ويا أمي فلن أذهب إلى المعهد قط.

وخلال ساعات كان الثلاثة يعودون إلى بغداد.

النشيد الثالث عشر

 سنتان أخريان

قد لا يكون فصل رعب أو خوف بل شٌبّه لنا بالخوف والرعب.

وقد يكون الشيء أكثر قسوة حين يترآى بشكل آخر

استعد استرح

ضم النظام فتح النظام.

تنكب السلاح.

هل من سبيل إلى الوسادة غير الليل؟

في المعسكر

العريف شويل شريذم،لا يلتفت لاسمي،فمازلت أحتل المرتبة الثانية في هرم الدولة. ولعله مثل غيره يتفاءل بي. يا ترى كم شخصا من هذا الحشد الهائل.. كم مليونا سمعوا باسم الولي في قريتنا السيد صدام السيد صروط. كان ذهني مشغولا بناهدة عندما سرحت يدي جنبي. غابت عني كلمات العريف شويل الذي صاح بي الجندي المكلف صدام انت في وضع استراحة. لم آمركم بها. نحن في وضع استعداد. أين أنت أتظن نفسك في ساحة أم البروم أم تقف على كورنيش شط العرب،هيا احمل سلاحك فوق رأسك در حول المعسكر هرولة وعد إلى مكانك.

كنت أحلم.

يدي استرخت تمسك يدها والعريف ضبطني متلبسا بجرم الخيال.

ولم أستطع أن أطرد خيال ناهدة من ذهني هي تعيش في إحساسي. أبي لامني ،وقال أخي المتدين الذي ينتظره حكم بالإعدام في سر الغيب. لو وافق أهلها لحصلت على أجر لأنها ستصبح مسلمة. شربت أمي الشاي على مضض. مجاملة ثم عدنا خائبين.

قبل التخرج بيومين قلت لها ونحن نتخذ مكانا لنا على ساحل دجلة عند أبي نؤاس:

هل نقبل بالأمر الواقع.

وترقرقت دمعة في عينيها:

ماذا أفعل؟

تأتين معي؟

أهرب؟

تضعين أهلك أمام الأمر الواقع!

فضيحة.

لابد من لغط في البداية ثم يتم الصلح فينسى الناس وتعود الأمور إلى مجراها.

ردت بعد تأمُّل:

لو فعلتها وخنت أهلي لكنت أخونك أيضا سأرضى بما قدر الله!

وصلت الصف ألهث وأنا أحمل البندقية فوق رأسي،لكن صعوبة الحياة لم تزحزح صورة ناهدة عن فكري. كانت تعيش معي في المعسكر. دخلت المستنقع في الشتاء. كانت ليلة قارسة البرد.. غضب منا النائب الضابط لسبب تافه. كان يجتاز إحدى القاعات،فسمع عفطة.. يقال إن جنديا عفط لزميل له،فظنها النائب الضابط تعنيه. خلال لحظات ارتدينا ملابسنا ورحما نسير بأحذيتنا الثقيلة إلى المستنقع.

كنت أحلم بليلة جميلة وادعة.

دفء.

حنان.

الليل والوسادة والحلم هما الواحة التي نستظلّ بها.

طول اليوم في التدريب. استعد. استرح. تسلق الجدار. تجمعوا. اعبروا الحواجز.. انفضّوا. أحلم أن يحلّ الظلام. فاسترخي على يطقي. لا أشعر بشيء سوى أن أتخيل صورة ناهدة حتى أغفو.

لكن

هذه الليلة تغير كلّ شيء. أفسد علي نائب الضابط أحلامي. غطسنا في الماء البارد حتى أحزمتنا. الماء أشبه بمقص يقرض أرجلنا. مسامير تخترق سيقاننا.. سكاكين.. برد وارتجاف. نحن رجال. رجال في مستنقع.. صدام في المستنقع.. السيد النائب. أقسم أن ناهدة كانت معي. شعرت بالبرد ولم أشعر إلى أن رفع نائب الضابط عناّ العقاب، فدخلنا القاعة في حال يرثى لها،وكان علينا أن نجفف ملابسنا خلال ساعات قبل أن نغفو. 

ولم يكن عصر اليوم التالي بأفضل من هذه الساعة. على الأقل خفف من وطأة العقاب أنه شمل الجميع،مثل الموت الذي ينقضّ معك على آخرين فتنسى نفسك.

أما ماحدث اليوم فقد أشاع الرعب في نفسي وإن كنت غير معنيّ به بل الذي وقع في الفخ أحد الجنود في قاعتنا ومازلت أذكر اسمه.

نديم صالح.

الضحية البريء.

عصر الخميس سمحوا لنا بالخروج من المعسكر. نتجول. بعضنا يقصد السينما. وآخرون يجوبون السوق.. فكرت أن أبقى في المعسكر،وبعد صدمتي بناهدة،تحاشيت الناس. تقريبا عشت عزلة قاتلة بانتظار أن يأتي دوري في الخدمة العسكرية. كنت أسمع الجنود يتندرون بنكات تخص العريفـ فأبتسم على مضض لا كرها بالنكات بل لأنني أعيش حالة جعلتني أنظر نظرة حزينة إلى كل ما يحيطني. أجد الحزن مرتسما على الوجوه.

أحاول أن أجد مكانا خاليا فأطلق لدمعي العنان.

أحس برغبة في البكاء

وحين أشعر أني وحدي لا أبكي.

تخونني عيناي.

ابتعدت عن المعسكر.

وفي الساعة الثامنة رجعت. قضيت وقتا في مقهى المدينة. وتناولت طعامي في أحد المطاعم. وفي عودتي قابلت نديم صالح. لقد كان هناك كشك صغير بباب المعسكر يبيع الجرائد والبسكويت. والسجائر وكان من عادة نديم أن يبتاع بعض الجرائد فيطالعها وهو مستلق على السرير في فترات الاستراحة. قيل إنه مثقف. أنهى تعليمه الجامعي في قسم البايولوجي. ربما ظنها العريف شويل شريذم عشيرة،فتباهى قائلا لنديم:إذا كنت أنت جيواوجي فأنا دراجي. هكذا تناقل الجنود النكتة.. أنا متأكّد أنهّا مفتعلة. ذلك اليوم اشترى نديم جرائد من الكشك وعاد ووضعها تحت وسادته ثم خرج إلى مركز المدينة. قال لي ونحن نقترب من باب المعسكر:

دائما يوم الخميس اشترى الجرائد من الكشك فأضعها تحت وسادتي لأنني أكره أن أحمل بيدي أي ّشيء وأنا أجوب شوارع المدينة،غدا يوم جمعة ولن أغادر بل أطالع قليلا وألعب كرة السلة.

طيب حين تفرغ من قراءة الجرائد يمكن أن أستعيرها منك.

بكل سرور.

قلت ذلك مجاملة،لا لأنني أكره القراءة بل لأني أحاول أن أستحضر في ساعات فراغي ناهدة. أسألها معاتبا:هل يمكن أن تخونني إذا ما خانت أهلها؟إلى الآن لم أجد علاقة بين الفرار بغرض الزواج والخيانة. أحيانا أتصور أشياء غريبة،لكني لم أحقد قط عليها. 

 وإذا مر يوم الجمعة بسلام إذ لعبنا كرة السلة،وجلست وحدي، وتصفحت جريدتي الثورة، والبعث،ثم أعدتهما إلى نديم. ففي يوم الإثنين فوجئنا بحدث صمت له المعسكر.

بعد أن نهضنا مبكرين شأننا كلّ يوم رتبّنا أسرّتنا،ثمّ قصدنا على نفخات البوق ساحة التدريب.. مرّ أقل من ساعة واستدعي نديم.. غاب ثم اختفى،وشاع في المعسكر بعد أيام أنه معتقل فيما بعد عرفنا سبب اعتقاله. حين راح نائب الضابط وعريف المعسكر يفتشان القاعة والأسرة شأنهما كلّ صباح،وجدا تحت وسادته الجريدتين الرسميتين:البعث والثورة،وجريدة الحزب المعارض.

استغربنا.

أخذتني الدهشة.

شيء ثقيل استفزني من شرودي.

جميع الجرائد من بينها جريدة الحزب الشهير المعارض تباع في الكشك أمام باب المعسكر الذي يملكه رجل يعرف الآخرون أنه موال للدولة وربما هو من رجال لأمن أو المخابرات.

ولعل الخوف والريبة ومن ثمّ التوجّس دفعنا إلى الصمت غير أن نائب الضابط اجتمع بنا فصيلا فصيلا خلال فترات الاستراحة،فأخبرنا أن بإمكاننا أن نقتني جرائد الدولة وما دمنا عسكريين فلا يحق لنا شراء جرائد أخرى وإن سُمِح لهها أن تباع في الأسواق،وقال الخبيث الذي ادعى أن العريف شويل شريذم حذره إن لم يغسل رجليه ستصيبه بكتريا طولها شبر،قال لماذا لم يقرأ جرائد يوم غد!

علق أحد الجنود:

أنا لا أحب الجرائد إن عمرها قصير. أربع وعشرون ساعة،يا ألله حتى الفراشات أطول منها عمرا.

وقال العريف وهو يهز رأسه:

سمعتم لاجرائد بعد اليوم. أنتم جيش الجندي لا وقت عنده!

وكدت أسأل :ما مصير الذي اقتنى جريدة،فأعرضت خشية من أن أفتح عليّ بابا يدنيني من الشبهات،فأعرضت وتساءلت:ماذا لو استعرت من نديم الجرائد فوجدها المفتشان تحت وسادتي.

هل ستكون ناهدة معي في رحلة إلى مكان مجهول كما رافقتني في ليلة المستنقع؟

الحقّ كنت أكتب عنها قصيدة جديدة حافلة بأمس رائق.

 ***

د. قصي الشيخ عسكر

 

 

في نصوص اليوم