نصوص أدبية

دار عمرا ولم يبرح

فراس ميهوبفي محيط غير مألوف، ظلمة كاملة، أرض ملساء عارية باردة، حيطان إسمنتية نافرة، فتح عينيه بصعوبة بالغة، لم يرَ شيئا لدقائق طويلة.

لم يعرف أين هو، أدار رأسه في كل اتجاه، بقي السواد مسيطرا، تساءل في نفسه، هل فقد بصره، ماذا حدث؟

انتظر بيأس، بدت له نقطة ضوء تقارب رأس دبوس، ظهرت له قضبانٌ ثلاثةٌ تنمُّ عن نافذة صغرى.

- ابتعد عني، أنا معك في ذات السلك، أنا جمركي خبير، لماذا تمسكني بهذا العنف يا زميل، افتح الكلبشات، حرر يديَّ!

- اخرس، تقدم بإرادتك، أو أجرُّك جرّا؟!

- أريد محاميَّا.

- ستقبع في الحجز الاحترازي الآن، وسيبدأ التحقيق معك يوم الاثنين القادم، بكل الأحوال، تمَّ القبض عليك متلبسا، والمحامي لن ينفعك بشيء.

تذكر سامي أنَّه في السجن، منذ مساء الخميس:

- هل اليوم السبت، أو الأحد، لم يكلمني أحد، يبدو أني نمت طويلا؟!

صرخ:

- أيُّها الشرطي، أنا جائع.

عاد إليه صدى صوته دون جواب.

نظر في جهة النافذة، لكنها اختفت، غيَّر الاتجاه، اتسعت من العتمة دائرة ضوء بحجم يد مبسوطة.

-اترك هذه الوظيفة المشبوهة، ألا يكفي تسببك بمقتل ابن عمك ورفاقه؟

أجاب والده بغضب بالغ:

- ما هذا الاتهام الظالم، أنا، أي سوء فعلت لأستحق منك ذلك؟!

- أكدَّ لي الضابط المسؤول، مرَّت صفقة السلاح اللعينة من معبرك، قبضت الثمن، استعملها المسلحون، هاجموا وحدة ابن عمك، وحدث ما تعرف.

اخجل من نفسك، ومن عملك الدنيء.

- تريد فقط أن تحملني ذنبا لم ارتكبه.

- وماذا عن المال الحرام، الذي يغمرك منذ سنوات، قصرك المنيف، سيارتك الفاخرة، لا تقل لي أنك حصلت على كل هذا من راتبك الضئيل؟!

- لا، بل من المصالحات، وأنت تعلم، أن لنا نسبة مشروعة منها.

- يا بني، في بلدنا، المال الحلال لا يبني بيوتا، وبالكاد يسدُّ الرمق، يداك، وحتى  الكوعين مغموستان بالسحت.

- لن أترك عملي، تريدني أن أعيش فقيرا مثلك، ماذا أفادتك فلاحة الأرض، وزراعتها كل هذه السنين الطويلة؟!

ردَّ عليه الشرطي أخيرا:

- كفَّ عن الصراخ، ماذا تريد؟

- أكاد أموت من الجوع.

- أنتظر قليلا، ستأتيك وجبة فاخرة، حبة بطاطا مسلوقة، وبندورة واحدة، ورغيف خبز يابس، لم يمض على خروجه من الفرن إلا أسبوع واحد.

- ما هو اليوم، السبت؟

- الأحد، ستعرض غدا على المحقق، لا تقلق، ولا تستعجل، أمامك خمسة عشر عاما على الأقل في الحبس.

ضحك الشرطي بخبث، وعاد سامي إلى قلب زنزانته خائر القوى.

كبرت دائرة الضوء، رسمت كوة دائرية على الحائط، في نقطة منخفضة، وقريبة من أرض السجن.

- هؤلاء المعزُّون المنافقون، يعلمون أنَّه أصيب بجلطة قلبية حادة، ويتهمونني مع ذلك بالتسبب بوفاته!

 حاولت إدخاله إلى مشفى خاص، رفض بإلحاح، وفضَّل الموت على الحياة، ما ذنبي أنا!

أحبَّ أبي أخوتي أكثر منِّي، ولامني على موت ابن عمي أكرم، الذي استشهد بهجوم لعصابة مسلحة.

لا علاقة لي بذلك لا من قريب، ولا من بعيد، وهم أصلا لم يمرُّوا من المعبر النظامي، بل عبر الأرض البور، وهذه مسؤولية حرس الحدود.

- عشتُ عشرين عاما من القهر والفقر مع عائلتي، دخلتُ مصلحة الجمارك، فتحسنت أحوالي، وعشت بيسر، لم يسعدوا بذلك.

عاد سامي إلى دائرته المغلقة، تحسس وسط الظلام مقعدا مهترئا، جلس عليه، استلقى، كان جسده متضعضعا من التعب، حاول النوم، لم يجد إليه سبيلا.

نادى في العتمة كالمجنون، فتح السجَّان الباب، زجره:

- توقف عن الصياح كالديك الأحمق الذي لا يعرف ليله من نهاره.

لم يكد يغلق باب السجن، حتَّى لمح بقعة ترسم قوسا واسعا، ثمَّ صار النور بابا، ومن خلاله أبصر والده في بستان الزيتون.

اقترب منه:

 - ألا تملُّ من نقب الأرض، هل تتوقع أن تجد فيها كنزا مدفونا؟

- ربيتكم من خيرها، يسعدني عيش الكفاف، ولا تشغلني الثروات.

- أبي، أريد أن أتطوَّع في الجمارك.

- أنا غير موافق، أنت تعرف سمعتها السيئة.

إن شئت أفتح لك بقالية في ساحة القرية، ستدرُّ عليك دخلا ممتازا.

- ليس الجميع لصوصا.

- نعم، ولكن العمل فيه مضن للشرفاء، أخشى عليك يا ولدي من إغراء الغنى السريع، وسطوة السحت.

للأسف، لقد فشلت في تربيتك.

لا تقبل العمل في الزراعة، ولا في تجارة واعدة، وتذهب إلى الحرام بقدميك.

قام سامي، مشى ثلاث خطوات يائسة في الفراغ، استوقفه تبدد الظلام في كامل شعاع البصر، تجاوز الجدار.

نكز زميله في المناوبة:

- وصلت الحملة، أنت تعرف الضابط المناوب، جمال الحكيم، إنه عنيد، ولن يقبل التسوية.

اقترب جمال من سائق الشاحنة الأولى:

- أوراقك، بيانات الحمولة، أركن على اليمين، وتجهز لعبور الماسح الشعاعي.

أجابه السائق بهدوء:

- لا تشغل نفسك بالمحتويات، اتركنا نعبر، وخذ حصتك فورا.

- لا حصة لي في بضاعتكم، لكن يجب أن نتأكد من المواصفات وغياب الممنوعات، ثمَّ تدفعون الرسوم حسب القانون.

طلب الضابط من سامي فتح بوابة الشاحنة الخلفية وإلقاء نظرة على محتوياتها، بينما انهمك السائق بمهاتفة شخص مجهول.

لم يك ذلك آخر ما تذكره سامي، فلم تمض إلا ساعة واحدة، جاءت قوة من الأمن الجنائي، وألقت القبض على الضابط وعناصره، وتركت القافلة تعبر الحدود.

ضاق مدى الرؤية حتى الصفر، وعمَّ الظلام المكان بأسره، تمتم سامي في سجنه:

- سرقنا خلال عشرين سنة من خدمتي بالجمارك مبالغ طائلة، لم تأتِ لجنة تحقيق واحدة، وتسألنا عن الأموال التي لم تصل إلى خزينة الدولة أو الممنوعات من كل صنف، والتي تجاوزت الحدود بسلاسة، سلاح، نفايات، أدوية دون فعالية، وأغذية فاسدة.

نعم اعترف، كنا نسرق، أو بأحسن الأحوال، كان ابتزازا رخيصا لكل عابر للحدود.

ما آلمني بشدة، أنّه قبض علينا يوم قمت بواجبي، ونفذت أوامر الضابط المناوب الذي تجرأ على منع بضاعة سلامة الفحل من المرور.

باح سامي لنفسه، بينما كان عتم محيطه يتبدد بثبات.

جلست العائلة على المائدة ، حثته أمه :

- لا تذهب إلى امتحان البكالوريا دون أن تفطر جيدا، هذه السنة مصيرية، وستحدد مستقبلك.

تذكر سامي الزيتون الأخضر، وكاد يشمُّ رائحته، لم يذق أطيب منه،

انطفأ كلُّ شيء فجأة، اختفى الطعم من فمه، وطغت عليه مرارة قاسية.

اكتملت دورة الأيام على سامي، ورجع إلى نقطة سابقة لكل ما عاشه من فقر وغنى، عز وذل، تذكر كيف كان يحلُّ مشاكل الكومبيوتر، بإرجاعه إلى تاريخ سابق للخلل.

لم يك غبيا، أدرك أنَّ معضلات البشر لا تنفرج بهذه الطريقة، وأنَّ الحياة ليست صعودا دائمة إلى قمة، أو نزولا إلى هاوية، بل قد تكون دورانا، وعودة إلى نقطة بداية.

وجد نفسه في السجن، لم يكن وحيدا كما ظن، وإنما محاطا بزملائه في المعبر، لكنه لم يرَ جمال الحكيم.

فهم أنَّ كل ما فعله في حياته، كان سيرا دائريا، انتهى به إلى هذه النقطة المظلمة.

***

فراس ميهوب

 

 

في نصوص اليوم