تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

احمد بلقاسم: عد إلى وطنك..

احمد بلقاسم

في أرض الله الواسعة، شاء قدره أن أصيب كلب من الكلاب بالاكتئاب، أجل أصيب بالاكتئاب، تماما كما يصاب به كل إنسان، لا غرابة في ذلك مادام هو أيضا مخلوق من خلق الله، جعل له لسانا نبّاحا وشفتين، وذيلا يحركه كيف يشاء ولأي غرض شاء، وذكره سبحانه في كتبه المقدسة كما ذكر الإنسان. وهو أيضا فيه ما أبلى البلاء الحسن في محطات حياته الكلبية، حتى صار مضربا به للمثل في الشهامة والنبل والوفاء، ومنه ما خذل قومه كما خذل الإنسان قومه، ولنا في قصة براقش درسا نموذجيا في الخذلان التي جنت على قومها أيما جناية.

ما علينا تلك قصة أخرى ليست هي الآن موضوع حديثنا، فلنعد إلى قصة كلبنا المكتئب، بعد الفحص بجهاز السكانير، وخضوعه للتحاليل في المختبرات الطبية، وتتبع سلوكه في روتينه اليومي من طرف أخصائيين نفسانيين، تأكد لهم بما لا يدع مجالا للشك، أن المسكين مصاب بداء العصر، داء الاكتئاب. حزن سيده أيما حزن لحالة صاحبه الوفي، وعلّق أمله على الوصفات الطبية التي سلمها له الأطباء. فلم يتباطأ في اقتناء ما وصف له أن يقتنيه من أدوية مضادة للاكتئاب، من سيتالوجين وسيبرالكس وإفكسور وكلوبيكسول إلخ القائمة من حقن وشراب وحبوب وأقراص فوارة. بيد أن نتائجها كانت عكسية، فعوض أن يبصبص المسكين بذيله، ويستأنف نشاطه العادي من نباح ولعق لوجنتي سيده، والتهام شرائح اللحم، وتكسير العظام بأنيابه الحادة، قوس ذيله بين فخذيه، ونكس أذنيه، وطأطأ رأسه، غير مبال بنوح باك ولا بترنم شاد.

وأمام تدهور حالته الصحية، وبعد مراجعة الأطباء، ارتأى سيده أن يصحبه معه  في جولة حول بعض دول العالم؛ عملا بمقولة تغيير السرج راحة، قد يجد الكلب العليل راحته في عاصمة الأنوار باريس، أو في مدينة الضباب لندن، أو في عاصمة الكابوكي طوكيو، ولم لا في حاضرة الكرملين موسكو، أو في حاضنة البيت الأبيض  واشنطن، أو في أرض المهاتما غاندي، وربما في بلاد الفيلسوف كونفوشيوس، أو في حاضرة ذات الجدار المحطم برلين. لكن هيهات هيهات أن يصلح العطار ما أفسده الدهر، فلا في هذه المدينة ولا في تلك وجد المسكين ضالته المنشودة، فالاكتئاب هو الاكتئاب. انطواء تام، وعزوف عن أي نشاط أو حركة، اللهم تلك الجرعات من الدواء، والتدليك في حصص محددة من اليوم. لقد بلغ اليأس من سيده مبلغه، بل كادت عدوى الاكتئاب تنتقل إليه، فقرر أن يلملم أغراضه ويقفل راجعا إلى وطنه.

حدث في طريق العودة، أن اضطرت الطائرة التي كانت تقلّهما على متنها، أن تهبط هبوطا اضطراريا للصيانة في بلد صنو بلدنا، مطارته تشبه مطاراتنا في خدماته، من حيث تأخر وصول وإقلاع طائراته. للترويح عن نفسه المأزومة، اغتنم صاحبنا هذه الفرصة للقيام بجولة في أرض الهبوط الاضطراري. وبينما هو يسير في شوارع المدينة محتضنا كلبه الكئيب بين ذراعيه، أحس أن هذا الأخير قد فتح عينيه وشع منهما بريق أمل في شفائه، كما لاحظ وهو يلتهم وجبة خفيفة لدى صاحب أكلات سريعة، أن المكتئب أخذ يلعق أنامل سيده رغبة في أن يلقمه كرة من كريات الكفتة، أو أصبعا من النقانق المتبلة، وبمجرد ما التقط الإشارة، طلب من النادل أن يحضر له على جناح السرعة صحنين مما اشتهت نفسه الكئيبة. لقد عقدت الدهشة لسانه حينما سمع كلبه يرد التحية على كلب ضال كان باسطا ذراعيه باب المطعم يستجدي بعض العظيمات، أو بقايا خبز. انبسطت اساريره  فرحا فقال له:

ماكسي العزيز) وهذا هو اسمه المثبت في جواز سفره، وفي دفتره الصحي أيضا( أرى أنك بدأت تستعيد عافيتك، كم أنا سعيد إذ أنك شفيت، وكم سيسعد بشفائك باقي أفراد الأسرة!

- هذا لطف منك سيدي، أنا ممتن لك، فعبارات الشكر قد لا تفي بأن أرد إليك هذا

الجميل، لقد بذلت قصارى جهدك من أجل علاجي.

- هذا واجب وليس منّة يا ماكسي، والآن هيا لنسرع إلى المطار.

لكن خيبة أمله كانت شديدة عصفت عصفا بما استشعر من سعادة وهو يسمع صديقه الوفي يقول:

- آسف سيدي أنا أنوي أن أقيم في هذا البلد ما تبقى من عمري.

- ماذا دهاك يا ماكسي العزيز أتريد الإقامة في بلد غير بلدنا!

- آسف سيدي، هذا ما استقرّ عليه رأيي، وقد يكون هذا فراق بيني وبينك.

- دعنا من هذا الكلام، كفّ عن هذا النوع من المزاح، هيا بنا إلى المطار، لا تنس أن هذا البلد ليس بلدنا، فلنعد إلى وطننا الجميل سويا وبسلام.

حدّج ماكسي في صاحبه ببصره، ثم قال بنبرة حاسمة:

- صحيح وطننا جميل، لكنّي أنا أحب العيش هنا حيث الكلاب تعيش حياة الكلاب.

- بحقّ السماء، قل لي ما الذي أعجبك هنا في هذا البلد البئيس؟

- ................

-  قذارته؟

- ...............

-  تخلفه؟

- ...............

- تعليمه الفاشل؟

- ...............

أم ماذا؟

- لا هذا ولا ذاك، لكن ما أعجبني فيه أنه وطن الكلاب، فأينما حللت أو نزلت تجد كلابا، سواء نظرت إلى أعلى أم إلى أسفل، لن ترى إلا كلبا من الكلاب التي استعمر أجدادك  ذات غفلة أرضها ونهبوا خيراتها..

***

أحمد بلقاسم - المغرب

5/12/ 2020

 

 

 

في نصوص اليوم