نصوص أدبية

فراس ميهوب: محاكمة السلطان يعقوب

فراس ميهوبشغل الجنود الأمكنة، مرتدين ثيابهم المموهة الخمرية والسكرية، حرس كلٌّ منهم زاوية، ركنا، شجرة، شعَّت عيونهم بالسكينة.

سيطر الصمت، لا كلمة، لا ابتسامة، حتى النظرة محسوبة، وشت الجوارح بمهابة كبرى.

تراجع الناس إلى الخلف، احترتُ، أ أتقدم، أتراجع، أم لا أبرح من مكاني؟

نظرت من بين أشجار الليمون، لم أجد أبي، ولا أخوتي، ولا حتى أمي، فبالعادة كانت لا تتوقف عن العبث بسبب، أو دونه، بمساكب الفلِّ، والياسمين، أو بحواري الورد الجوري الحارسة للممرِّ المظلل بالعرائش، والموصل إلى بوابة الدار السوداء. 

فوجئت أيضا بغياب أخي الصغير، لم يك يلعب بالكرة أمام البيت كدأبه أبدا، أين هو، هل هو مريض، هل أصابه النكاف كأولاد الحي؟

آه نسيت، لم يعد عدنان طفلا في الرابعة من عمره، بل أنا من كبرت، كان ذلك قبل خمس وعشرين عاما، أنَّه الآن شابٌ، إنَّه أخي فحسب!

لم هذا السكون المرعب، أما كنا نشتكي من الضجيج الصاخب، قبل أيام قليلة؟!

هل لدينا ضيوف في الداخل، من عندنا، لا بدَّ أنَّه زائرٌ مهم؟

سمعت أخيرا صوت إنسان، قال جنديٌّ لزميله:

- إنَّه السلطان يعقوب.

ماذا حدث؟

قال آخر:

- وصل القاضي، ولكنَّه ينتظر المحلَّفين، وضيوفا من دول أخرى، يريدون أن يحضروا المحاكمة.

ظننت بهم شرَّا، قلت لأحدهم:

- من أنتم لتمنعوا أخي من اللعب في فناء بيتنا؟

مالنا نحن، والسلاطين، لا أعرف أحدا منهم حيَّا، فقط مقبرة قريتنا تحمل اسمهم، و تضمُّ رفاتهم؟!

هل نزح أحدهم من الماضي، لقد قتلهم قهر البغاة، وتقلب الأيام والليالي، وغدر الصحبة الكاذبة.

ومن هذا، السلطان يعقوب، لا أعرف إن سمعت باسمه؟

حسنا، تذكرت، أنَّه أمير تلك التلّة القريبة صيفا، نراها دنو العين في صباحات أيلول، والبعيدة في الشتاء، تختفي، وتعود مع الربيع.

في طريقنا إلى المدرسة، نمشي نحوها، ونخال بياض قمتها مختلطا بزهر اللوز و " الخروف معلوف"، لنتكشف بعد أن كبرنا أنَّه ثلج مقيم على التلة.

ولكن، ماذا فعل السلطان يعقوب ليحاكم، هل عادوا إلى تلك القصة القديمة؟

- تدخلَّ ضابط شابٌّ، وقال لي:

- أنا غير مطلع على القضية بالكامل، لكني سمعت من قادتي، أنّه يتحمَّل مسؤولية سقوط جنود كثر، شباب بمقتبل العمر.

- هذه هي الحرب، عليها اللعنة، ولكن ماذا تنتظر من سلطان دهم في عقر داره؟

اقتربت من سياج بيتنا، فوق أكتاف الجنود، استرقت النظر إلى شبابيكه، علِّي أحظى برؤية ما، عبر الفراغات الصغيرة المربعة للقضبان الحديدية المتقاطعة.

تلهفت، غزت الحيرة قلبي:

- لماذا اخترتم منزلنا قاعة لمحاكمة السلطان يعقوب، ألا يكفيه أسفا أن ابيضت عيناه على يوسف؟!

قال لي  أحد الضباط:

- اصح يا أخي، أنت تخلط الحابل بالنابل.

ليس النبي يعقوب من يحاكم، إنَّه سلطان تلك التلة الغربية.

- و أخي عدنان، لماذا تمنعوه من اللعب في الدار؟

قال الضابط:

- إنَّها الأوامر، سل إن شئت قائدنا، ذاك العميد، هناك، ألا تراه يتكئ على جذع السنديانة، ويدخن سيجارته العربية.

اقتربت من الرجل، كان هادئا كشيخ وقور، ينبي وجهه الأبيض الممزوج بحمرة خفيفة، بطيبة بالغة، شعره الضارب للشقرة ينزع عنه شيئا من الجدية، ولا يخرق وقاره الظاهر من عينين كالعقاب.

وجهت له عتابي المرَّ المحيط بحلقي، إلى أن نطقت:

- ضع نفسك مكاني يا سيدي.

غبت عن منزلي ساعة، تركت أخي يلهو في دارنا، وأمي تسقي الورد والحبق، وأبي يقرأ الجريدة تحت شجرة المشمش.

أعود فأرى الجنود منتشرين حول الدار، يقولون أنَّ بيتنا صار أرضا لمحاكمة السلطان يعقوب!

هل هي أوامرك؟

أحسب أيضا أنكم بانتظار زوّار غرباء، وأنَّ السلطان يعقوب، من كان الأنذال يرتعدون من ذكر اسمه، صار مخفورا في الداخل، ينتظر المحاكمة.

بحقِّ الله، قل لي، من أنتم؟ أظنك وجنودك أطياف كابوس، سأفتح عينيَّ بعد قليل، وترحلون بعدها إلى عالم الأساطير والحكايات.

خرجت من شفتيه كلمات قليلة، بالكاد سمعتها، ولكني رأيتها تتبدد حروفا في الهواء، صعدت، ووقعت على رأسي كثلج بارد، وفي ذات اللحظة، طار من صدري طائر ناري اللون، ترك خلفه نافذة من غيم قطني.

- لا يا بنيَّ، أنا لست حلما، ولا كابوسا هاربا من بلاد الأفكار المتوهمة، أنا القائد، أو من كنت قائدا، قبل أن نستشهد جميعا.

من رأيتهم حولك، هم الآن كلٌّهم شهداء، كانوا ضباطي و جنودي، وقد دافعنا عن تلة السلطان يعقوب، وانزرعنا في المكان كالسفرجل والسنديان.

قلت له:

- ولكن أين أخي، لا أراه؟

فجأة، وقبل أن يجيبني، فتح الباب، بابنا الذي قاوم صروف الدهر، واحتضن الغياب؟

تغيَّر لونه في الماضي مرات عديدة، من  أزرق غامق، إلى سكري، فأزرق فاتح، وهو الآن أسود اللون، وعلى أحد مصراعيه إكليل غار.

عبرتُ بالبصر إلى وسط البيت، رجالا مصطفين بانتظام، يحيطون بتابوت مرفوع على مصطبة خشبية، يغطيه علم أطرافه حمراء وسوداء تحيط بلون الثلج، وبينهما يقف طفل صغير.

لم أخطئه، لكنه كان ساكنا، نظر إليَّ، ثم أغمض عينيه.

 صاح الرجال، وبصوت خرق الصمت:

" الله أكبر".

أغلقت أبواب بيتنا، الواحد تلوَّ الآخر، آخرها البوابة الحديدية.

خرج الجميع من الدار، مشيت وراءهم، اتجهوا إلى تلَّة السلطان يعقوب، اتبعت خطواتهم، ابتعدوا، غابوا عني، لكنَّ ثلج السلطان يعقوب أراح ناظري، وكان آخر ما رأيته.

 ***

فراس ميهوب

2020/12/25

 

 

في نصوص اليوم