نصوص أدبية

احمد القاسمي: حبا صبيّ إلى الموت

احمد القاسميكانت دارُنا من بين بيوت يتلاصق بعضها ببعض؛ أمامها طريق ضيق؛ يمتد إلى اليسار حيث ينتهي بساحة يتوسطها حائط قصير؛ تبرز من أنابيب مدفونة فيه؛ صنابير يَسْتسقي منها الماء سكانُ الحي، وينتهي إلى اليمين بأكواخ خفيضة؛ منها ما يزال مبنيا بلبنات من تراب مضغوط، ومنها ما له جُدُر من آجور من مخلوط إسمنتي خشن، وكلاهما مسقوفان بقصدير صدئ، وفي الجهة المقابلة منازل توازي هذه، فكانت الأبواب والنوافذ تنظر إلى بعضها البعض، وكنتَ إذا خرجتَ من بيتِك؛ ترمي ببصرك إلى الحيطان والأبواب والنوافذ التي واجهتك، وتنظر يمينا وشمالا فترى من يذهب ويؤوب، ولا تجد غير دكان واحد لا يبيع إلا ما هو ضروري. غالبا ما يكون ذلك الزقاق، الذي لا يتعدى عرضه سبعة أمتار؛ خاليا، فقليلا ما تشاهد اثنين واقفين يتبادلان حديثا، فكل يأوي إلى مسكنه في أغلب الأوقات.

كنت في ذلك الزمان طالبا في الجامعة، ولا أخرج إلا لأُطلق العِنان لعينيّ في طول ذلك الطريق، وأرفعهما إلى السماء؛ تكون السحب تُغطيها، أو تكون بادية بزُرقتها، أو أتابع بهما تحليق سرب من الطيور، أو آخر يحط على فروع شجرة من تلك الأشجار التي ما تزال نابتة خلف البيوت، وقد أحمل كُرسيا من خشب قصير الأرجل، وأضعه بجانب حائط منزلنا؛ أجلس عليه وقتا قصيرا.

قبل عصر أحد الأيام من فصل الصيف، جلست كما اعتدت على كرسيي ذاك؛ رافعا رأسي إلى أعلى؛ مانحا لبَصَريْ إمكانية النظر في السماء، وحريةَ سرحانهما في الفضاء؛ مُتتبعا بهما تلك الطائرات المحلقة عند ذلك العلو الذي لا تبدو منه إلا بحجم صغير جدا، ويتخلف عنها ما تنفثه، فيصير سحابا أبيض متكاثفا؛ ينتشر ويتفكّك ويتبدّد، وتُزوّدني بحلم التحليق في يوم ما إلى بلد من الشمال؛ حيث معاهد وكليات تحصيل العلم الحديث، وأرجع بعيني ملاحظا ذلك التفاوت في بناء المنازل لسبب ما، فالمواجهان لي إلى اليمين قليلا مختلفان؛ واحد عال بطابق، ونوافذ تعلوها سقيفات إسمنتية مُنكمشة العرض، والآخر المجاور له لم يتعد في علوه إلا ما يُركّب في جداره الباب الخارجي؛ وهو خال في كثير من الأوقات، لا يسكنه أحد بصفة مستمرة، فيَدٌ تقبض بأحد قضبان حديدية ملحمة بأعلى الباب، ورِجل تستند على المقبض؛ يرفعان أحدا يتسلق الحائط، ورأيت في نفس الوقت قطعة إسفنجية مما توضع على أرائك بيوت الضيوف؛ الخشبية الطويلة؛ يُطل طرف منها من أعلى حائط البيت العالي؛ كانت هناك لتُشمّس من برودة بلل؛ يحركها فاعل، وقد انتصبت، وظهر أن وسطها انثنى، وظهر صبي يرتقيها حبوا؛ بمرح، وبدندنة فرح، ووصل إلى قمتها، ولخفة مادة القطعة الإسفنجية الاصطناعية القليلة الكثافة، ولثقله هو ارتفع أسفلها ومالت بالصبي، فهوى إلى فناء البيت المجاور ذي الواجهة الواطئة...

قمتُ فزِعا، وحِرْت بين أن أصيح بأصحاب البيت الذي سقط منه الصبيّ، أو أتسلق جدران البيت المنخفض؛ لأُسعِفه؛ إذا لم يكن قد فارق الحياة، أو أنادي على جاري الذي يسكن في المنزل المواجه تماما لبيتنا، فحتثت خطواتي تلقائيا إلى باب هذا الأخير الحديدي، ذلك أنه كان الأقرب، ودققت بقوة، وبدق متتال لا تُمهل من بالداخل؛ سمعت من يرد متعجَّلا يأتي بوطآت سريعة ويفتح الباب، ولم يكن غير رب البيت؛ بوجه غاضب وبأعصاب متوترة؛ يرتدي كما أراد دائما أن يكون حازما وبانضباط البذلة العسكرية الخضراء، ويتمنطق بحزام الجندية العريض، ويحتذي الفردتين الجلديتين السوداوين؛ عاليتي العنقين، مزررتين بالخيوط الغليظة المفتولة، لأنه كان عسكريا، ولم أدر في ذلك الحين ما إذا كان عائدا لتوه من الثكنة العسكرية، أو كان يستعد للذهاب إلى خدمته بها. لما وقعت عيناه على الطارق المتعجل تغير وجهه؛ مما كان قد تركه الدق المجهول من علامات الاكفهرار، إلى انبساط فترحاب، فاستعداد لتنفيذ طلب جار عرفه؛ من يحسن الجوار، سألني بدهشة وبشجاعة جندي مقدام:

- كيف الحال... أوقع ما يُسيء إليك؟

أجبته أنا الذي شاهد ماذا وقع، وهو خطر، ومشغول بحالة الصبي التي سيكون عليها:

- صبي حبا على إسفنجة معلقة... فهوى.

وأشرت إلى الحائط العالي وإلى البيت المجاور الهابط؛ لم يتفوه بأي كلمة، وأسرعنا معا إلى الباب، وحاول أن يتسلق الحائط؛ إلا أن ثقل جسده الخمسيني لم يُسعفه، قبضت أنا بجسدي الشاب والرشيق؛ بقطع الحديد الملحمة بالباب والمتوجة له، ووضعت رجلي اليمنى على المقبض، واعتليت الحائط كما أركب مطية، وقفزت إلى الفناء، وتبعني هو بصعوبة وبعد محاولات مجهدة.

كان الصبي قد غاب عن الوعي؛ لم يصب إلا بخدوش، وما يزال فيه نفس. تلفت جاري حوله، فرأى عمود شجرة طويل؛ أخذه وأقامه على الحائط، ولحافا ثقيل النسيج كان منشورا على حبل سلكي؛ نشره على العمود مُظللا به الصبي من حرارة الشمس، وأمرني أن لا أبرح المكان حتى يذهب في طلب الإسعاف، واستجبت لأنه له دراية هو الذي يخدم بالجندية بالإجراءات القانونية التي يُعمل بها في مثل هذه الحوادث، فكنت قد سمعت صوت دراجته النارية؛ كان قد شغلها، وابتعدت به بهدير محركها. لم تمض عشر دقائق حتى رأيت الباب يُقتلع من إطاره بعمود ضرب حديدي، ويهرع مُسعفان بحمّالة ويرفعان إليها الصبي برفق، وتنطلق به سيارة الإسعاف إلى أقرب مستوصف، وكانت والدة الصبي ونساء أخريات أفرادا من عائلة كبيرة تَقطُنّ البيت المنيف؛ قد أُخبرن، أما الرجال ومنهم أب الصبي كانوا غائبين. لم يبق في الزقاق إلا جماعة يتحدث أفرادها من الجارات؛ إلى بعضهن البعض بما وقع بأسى وأسف، وبخوف شملهن جميعا، فكثير منهن أمهات، ولهن أبناء؛ صبية وأطفال.

دخلت إلى البيت بجسد غير ساكن بهول الحادثة، وأخبرت والدي بما حدث، حتى يَطمئنّا فيما بعد على حالة الصبي من أبويه الجارين، وصعدت إلى غرفتي، وألقيت على الأريكة بجسدي المتضرر قليلا؛ بصعود الغير الـمُتعوِّد على حائط خشن، وأنا أسترجع ما كانت عيناي قد التقطتاه، ولم يسبق أن شاهدت مثله من قبل.

كان الصبي قد سقط كشيء له ثقل، وكنت قد سمعت ارتطام جسده الضئيل بالملاط الإسمنتي. بعد ساعة سمعت دقا، فقمت، وخففت إلى الباب بخطوات سريعة، مُتمنّيا أن أسمع خبرا مُطمئِنا، وفتحته فوجدت جاري الجندي بوجه تلوح عليه علامات حية؛ بِبِشر، ورضا وطمأنينة؛ قال:

- لقد نجا الصبي، وهو في حالة صحية عادية.

قلت وقلبي يُرفرف بابتهاج:

- إنه خبر يُسعد جميع الجيران، وإن خلفت الحادثة خوفا في نفوس بعض الأمهات؛ إن لم نقل جميعهن.

وكنت قد لاحظت شيئا في البيت الذي سقط فيه الصبي الحابي؛ لم يتنبه إليه جاري المسعف، وأردفت قائلا بيقين وبتأكيد:

- لقد حصل أني كنت موجودا في اللحظة التي هوى فيها الصبي من عل...

قال باعتراف:

- إنه أمر مؤكد.

تابعت كلامي قائلا:

- وكذلك -وهذا متيقن منه- هو أن حائط البيت الخفيض والملاصق لجدار البيت العالي؛ ليس تماما، فبينهما فراغ مليمتري؛ هو الذي أبطأ من سرعة سقوط الطفل، وخفف من ثقله؛ لقد ضرب جسد الصغير فيه، فلم يصطدم بتلك القوة، وإنما تدحرج، فاستقبلته أرض فناء البيت المنخفض بحنان.

قال بعجب:

- كنتَ حاضرا في اللحظة، ويكون جدار البيت مُنخفضا، وقد كبح إلى حد ما جسد الصبي، فيُكتب له استمرار حياته.

وافترقنا؛ توجه هو إلى بيته راضي النفس كما يبدو، وعدت أنا إلى غرفتي سعيدا؛ منفرج الخاطر؛ مرتاحا بما جعل الصبي أن يعيش.

مرت على هذه الحادثة ستةٌ وثلاثون سنة، فهي تقريبا عمر ذلك الذي لم يقض في حبو الصغر، ولا يعلم من شاهده بجسده الضئيل، وهو يحبو إلى الموت، وكيف بقي حيا ينعم بالدنيا، ويجهل الكيفية التي ثُبط بها سقوط ثقله، وما تنقبض له نفسي وأروّع به من وقت لآخر؛ كلما استحضرت ذلك؛ هو أن جميع الصبايا يحبون بضع مترات.

***

قصة قصيرة

أحمد القاسمي؛ المغرب.

 

 

 

في نصوص اليوم