نصوص أدبية
عاطف الدرابسة: تحت هذا الحرفِ .. أنتِ
قلتُ لها:
يرقدُ في صدري حرفٌ، كأنَّه حلمٌ، أو كأنَّه رصاصةٌ، أو كأنَّه بحَّةُ فقيرٍ مُعدَمٍ، لم أكُنْ أعرفُ أنَّ صدريَ صار مقبرةً للحروف .
تحت هذا الحرفِ جمرٌ، ورمادٌ، وتحت هذا الحرفِ صورٌ قديمةٌ، خالدةٌ خلودَ الوقتِ .
تحت هذا الحرفِ امرأةٌ من ريحٍ ترتجفُ، أو من نارٍ تبتسمُ .
تحت هذا الحرفِ امرأةٌ من أغاني الأمسِ العتيقِ، كأنَّها أغاني المطرِ، أو كأنَّها أغاني شاعرٍ بيتُهُ من خيالٍ، كلُّ غرفةٍ فيه كأنَّها معبدٌ مُقدَّسٌ، أو كأنَّها محرابٌ .
تحت هذا الحرفِ امرأةٌ، أوَّلُ حرفِها صباحٌ، وآخرُ حرفِها صباحٌ، تستيقظُ في عينيها المعاني الغامضةُ، وتغفو في صدرِها الأسرارُ .
تحت هذا الحرفِ امرأةٌ من شوقٍ، يروي عطشَ الشَّوقِ، من حبٍّ يروي ظمأَ الحُبِّ .
تحت هذا الحرفِ أسئلةٌ، وأسرارٌ، لا أعرفُ هل من طينِ البشرِ، أم من نورِ الملائكةِ، أم من خيوطِ الشَّمسِ .
تحتَ هذا الحرفِ حبٌّ يُرتِّلُ أُنشودةَ القدرِ للعاشقينَ، يتغلغلُ في مسامِ الخريفِ، فيصيرُ الخريفُ ربيعاً، وتخضرُّ كلُّ الأوراقِ الصَّفراءِ .
تحتَ هذا الحرفِ خيامٌ من ظِلالِها، أُقيمُ فيها بين صورتينِ : هي، وأُمِّي .
تحتَ هذا الحرفِ أحتجبُ، أختفي لأراكِ بعيداً عن عيونِ الواشينَ، والحاسدينَ، والقامعينَ لأحلامِ الرَّغيفِ .
تحتَ هذا الحرفِ، أراني كلَّما انفصلتُ عنكِ، صرتُ منكِ .
تحتَ هذا الحرفِ، لا أرى حبَّكِ إلا جسداً آخرَ لي .
تحتَ هذا الحرفِ أراكِ نبعاً، وأراكِ رداءً، كلَّما يلبسُني أحترقُ، فأعودُ كأنِّي الفينيقُ .
تحتَ هذا الحرفِ، عيناكِ تُفجِّرُ لغتي، فيذهبُ الوجعُ، ويذهبُ من خلايا لغتي الألمُ .
تحتَ هذا الحرفِ، تتَّقدُ ناري، لعلَّها تُضيءُ الدُّروبَ للباحثينَ عن الحُريَّةِ، والخلاصِ .
تحت هذا الحرفِ أراني هناكَ، أسألُ لغتي كيف أنجبتكِ نبتةَ الخلودِ، نصفُها نارٌ، ونصفُها ماءٌ وهواءٌ .
تحت هذا الحرفِ أقرأُ الحبَّ في الماءِ، وأرى النَّارَ تشربُ الماءَ، فأصيرُ بخاراً، ثمَّ غيمةً تأخذُها الرِّيحُ إليكِ، فتصيرُ كلمةً كأنَّها رقصةُ المطرِ، أو ارتعاشةُ الرِّيح .
تحتَ هذا الحرفِ كتبتكِ قصيدةَ حبٍّ خالدةٍ، قبل أن يُولدَ على الشِّفاهِ أوَّلُ حرفٍ .
تحتَ هذا الحرفِ، أتيتُكِ منذ أوَّلِ أسطورةِ ماءٍ، قبلَ أن تُشقَّ الأرضُ، وقبل أن تكونَ البحارُ، وقبل أن تكونَ الأنهارُ .
تحتَ هذا الحرفِ أحفرُ، أبحثُ عن ماءٍ يروي ظمئي إليكِ، أبحثُ عن نارٍ بحجمِ شوقي إليكِ .
تحتَ هذا الحرفِ سأُريقُ دمَ الوقتِ، لتكوني أنتِ الوقتُ، وسأمحو كلَّ الجهاتِ لتكونَ الجهاتُ أنتِ .
تحتَ هذا الحرفِ تُقيمُ السَّماءُ، هي صدركِ حين يكونُ صدركِ، هو المأوى وهو المآلُ .
***
د.عاطف الدرابسة