نصوص أدبية

أمين صباح كُبّة: مرثية نديم (مقامة)

امين صباح كبةكان يقف  عند الباب متفرّجًا، نزع جناحيه وألقاهما. ترك حروف حكايته كاملة، أطفأها دفعة واحدة. كان عليّ أن ألتقط ما سقط منها من كلمات، أن أكون متيقّظًا لإدراك وجهة تدحرجها.وجدتها فجرًا مكوّمة قربي، كان سائلًا خارج حروفٍ لم يجد وسيلة لنطقها.آخر من رأوه قالوا إنّهم شاهدوه يخرج حائرًا من حكايته.دمدموا شيئًا لم أفهمه وقالوا:الله يرحمه چان خوش إنسان.

٢

ألعب في حديقة الزمن، فيناديني صوته من حكايته، يحدّثني عن وطن مصادر وغدٍ مجهول وماضٍ دامي .كان سيقف على الفرات ليحاور الشمس التي تطل عليه.

يهمس: (لا تخف لن تكون وحيدًا فأصدقاؤك كثر ويزدادون كل يوم ستلعب أرواحكم معًا.لا تتأخر! فقبرك ينظر إلى ساعته، سنرتّب عظامك برفق، ونضع جمجمتك كزهرة فوقها).

قريبًا من الفجر، أجلس وحدي، أعيد تشكيل صورته في ذهني فأجده متمددًا بثيابه، لم يكن وجهه مرئيًا، كان جسده ضئيلًا، وكان صوته يهوم في أذنيّ (كان يتمدّد في الفناء، مثل شجرة مقطوعة، وكانت نظراته متناثرة حوله، لم يكن فيها أنه يأبه بالهواء الثقيل، ولم يكن فيها أن لحاءه الذي انزاح عن عظامه، شيئ يعنيه، لم يجعله يغرق في ظلّه، ولم يكن يحزّ في نفسه أكثر من أنّ لا عشب ولا عصافير حوله).

 

كنت على وشك الوصول إليه لكنّ بكائي أوقفني.كنت أراه ولكنّ ضبابًا تصاعد في طريقي.

بالقرب من نعشه كنت أعيد كتابة حكايته بصيغة مختلفة، وكانت همهمات المعزين تفوّت عليّ سطورًا منها.

هواء ثقيل ينقضّ على ظهري ولا يغادره،يروح طيفه ويجيئ. ألتفت إلى ظله وأطيل التحديق فيه، ثم يتركني لهوائي أقلّبه.

أمضي بعدها يومًا طويلًا أنفخ روحي في استقبال معزيه ثم أناديه:

أين أنت؟

فقد شرب المعزّون قهوتك ورحلوا

وأنا أنسج لك من حروفي مرثية.

٣

يتهدّج صوته ليلًا: (اللهم فاجعل نفسي مطمئنةً بقدرك، راضيةً بقضائك، مولعةً بذكرك ودعائك، محبةً لصفوة أوليائك، محبوبةً في أرضك وسمائك، صابرةً على نزول بلائك، شاكرةً لفواضل نعمائك، ذاكرةً لسوابغ آلائك، مشتاقةً إلى فرحة لقائك، متزودةً التقوى ليوم جزائك، مستنةً بسنن أوليائك، مفارقةً لأخلاق أعدائك، مشغولةً عن الدنيا بحمدك وثنائك).

يأخذني  بياضُ تهدّجه، ويرجعني طفلًا صغيرًا ، تضيئ حكاياته طرقاتي. عمي نديم الذي صار حفرة عميقة وعريضة، سقطت فيها الكثير من حكاياته واختفت،ولا سبيل إلى استعادته.ثمة عزلة نهمة ،حين تصيح أسمعها تقرض ما بقي له من ذكريات.

ليته يواسيني بدل أن يتركني أتفحّم في ملح دمعي، أرزح في إثم وحدتي.

أستعيد صوته مرتّلًا سور النبأ والأعلى والواقعة ، وأتّجه صوب قبر علي متوسّلًا:

غيرك فلا عدنا سند

يالتحضر بيوم الشدد.

٤

أشعة الشمس وهي تغرب تجعل بياض لحيته يميل إلى الأصفرار.يتكوّم تحت ابتسامته، يلقي ضلعًا في الهواء ويستبدله جناحًا ثم يحمل شمعة ويردد: (مَتى نَرِدُ مَناهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوى، مَتى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مائِكَ فَقَدْ طالَ الصَّدى).

 ويطير فتأتي النجوم ليؤخذ بضوئها، ثم  يشعّ فيها ويختفي.

***

أمين صباح كُبّة

هذا النص إهداء إلى  روح عمّي الحاج نديم الجبوري

 

 

في نصوص اليوم