نصوص أدبية

عقيل العبود: الخط المحروق (1)

أيقن أن عليه تنفيذ جميع الالتزامات، كإجراءات بيع الشقة التي كان يمتلكها في الحي (ج) الكائن في دولة (ق)، مع ما تحتويه من الأثاث.

جمع رحاله استعدادا، بما في ذلك تجديد جوازه، والذي انتهت مدة صلاحيته مذ تاريخ مغادرته العراق؛ ذلك عن طريق بعض المكاتب الخاصة بأحزاب المعارضة العراقية، تحرر من قيد حسابه المصرفي بعد سحب المبلغ المطلوب، تهيأت عائلته الصغيرة للسفر دون تردد، رغم المخاطر الخاصة بالمهاجرين في المطارات.

اتصل به صديقه الذي أخبره عن الموعد المقرر للرحلة، والتي تتطلب تمزيق الوثائق والجوازات قبل الوصول إلى مطار الدولة (ص).

لم يكن الأمر سهلا، فالوصول إلى المطار المذكور مرورا بدولة (س)، وبعض دول أوروبا يتطلب الكثير من المجازفة، والصبر.

أنهى ما هو مطلوب منه بدقة متفانية، خاصة بعد اتخاذ القرارات الخاصة بالمقيمين، العراقيين في البلد (ق) والتي تتطلب الحصول على هوية اللجوء، أو المغادرة، ما يملي عليه أن يحرر نفسه من قيود الحسابات الإدارية، والأمنية والتي لم يكن بإمكانه التخلص منها في حالة البقاء.

تصفح جواز زوجته الذي يتضمن أسماء أبنائه الصغار، ودع أصدقاءه المقربين بسرية تامة، بما في ذلك أصحاب البيت الذي استأجر منهم، والذين ساعدوه في احتضان أولاده، والتعاون معه طوال مدة إقامته، والتي امتدت لأكثر من خمس سنوات.

كان الموعد المقرر للمغادرة ظهيرة يوم شتائي ممطر، وكانت الوجهة الأولى بلد ثلجي تصل درجات الحرارة فيه إلى ما تحت الصفر، بلغ عدد المجموعة سبعة أنفار، بضمنهم سيدة أودعها زوجها معهم، ارتدى معطفه الأزرق الثقيل والذي يتناسب مع الأجواء الباردة.

لم تكن الأمور سهلة، فالسماء ملبدة بالغيوم، والأقدار مجهولة، ومحفوفة بالمخاطر، بيد أن هنالك أزمنة تفرض عوائق أحكامها، وإن كانت مكبلة بالموت، والخوف، والسجن، والضياع.

تم ختم الجوازات في شباك المطار، أقلعت الطائرة المتجهة إلى الدولة (س)، بينما راح ينصت إلى تسارع عجلاتها، واندفاعها وهي تنهض بأثقال جناحيها ومحركاتها تاركة خلفها ركام الماضي على شاكلة قوس ينطلق من المنحدر، ليعلو متجها نحو السماء.

استقر ومن كان معه في أمكنتهم بصحبة حقائب ال hand back، والتي أخذت مكانها في الرفوف المغلفة من الطائرة.

اتخذ مكانه في المقعد القريب من النافذة عند الأمام، قريبا إلى الجناح، هنالك حيث يجد المسافر نفسه معلقا مع السماء، والغيوم.

أحس بالحياة ترد إليه وهو يتكئ بأنفاسه، مستسلما لشعور يعتريه لأول مرة، وهو يخوض تجربته الأولى، فهو لم يجلس بطائرة طوال حياته، وذلك أشبه بحلم جميل بالنسبة إليه، ولذلك لم يكن يكترث لكل المصروفات والخسائر التي تم إنفاقها لهذه الرحلة.

كان المقعد الخلفي مخصصا لمسافر تميزت أناقته وملامح وجهه إلى أنه رجل مهم، لكنه لم تعرف جنسيته، ولغته بالنسبة للجميع.

سار الزمن معه محلقا عبر ساعات تستغرق وقتا طويلا وثقيلا، ناهيك عن المخاطر التي قد تتعرض لها بعض الطائرات أثناء التحليق في حالات الطوارئ الخاصة بالعواصف الثلجية.

شوط من الساعات مضى لحين وصول الطائرة بسلام إلى مطار الدولة (س)، نُصب خرطوم الطائرة، وغادر المسافرون متجهين صوب الفندق الذي تم تخصيصه لهم.

تسارعت أحلام الرجل، لتتناثر مثل وريقات كتاب الجغرافية الذي أشغله يوم كان طالبا في المرحلة المتوسطة على مربعات الخرائط التي ارتسمت خطوطها، لتبدو على هيئة رسوم تتقاطع حواشيها عبر النافذة.

مر يوم من السفر بفصول أنقاضه الثقيلة والمتعلقة بنوع الطعام، والمنام، وجميع متطلبات الإقامة.

تهيأ الجميع في اليوم الثاني لصعود الطائرة المتجهة صوب مطار (ص) مرورا بمقاطعات ودول تزدهي بالخضرة، وجلس خلفه نفس الشخص الذي كان برفقتهم في الرحلة الأولى.

ساعة مضت حتى أقبل رفيقه في الرحلة نحوه وبسلوك طائش،  ليخبره وبصوت جهوري بأنه سيذهب إلى المرحاض، ليمزق وثائق سفره، دون أن يكترث للمسافر الذي كان يجلس في الخلف، والذي اتضح فيما بعد أنه تم تخصيصه لمراقبة ما يجري، وأنه ضابط مخابرات من الدولة( س) ومن جنسية عربية، وهو كما يبدو أنه استلم برقية خاصة تعلمه عن مغادرة هذه المجموعة من المسافرين ابتداء من مطار الدولة (ق)، وانتهاء بمطار الدولة (ص).

لم يكتف ذلك الطائش بالإخبار عن موضوعة تمزيق وثائق سفره، بل راح يتحدث على لسان غيره من المجموعة.

لم يبق إلا نصف ساعة لهبوط الطائرة في أرض المطار الخاص بالدولة (ص)، حيث لم يحسم الأمر بعد، لكن صاحب المعطف الأزرق بقي محافظا على رباطة جأشه، ولم ينبس بكلمة واحدة، كأنه أدرك أن الخط قد تم اكتشافه ومراقبته من قبل الأجهزة الخاصة بأمن المطار التابع للدولة(س)، بما في ذلك المسافر الذي كان يجلس في الخلف.

حطت الطائرة على أرض المطار (ص)، تم تشكيل خرطوم خاص بالمجموعة لفصلهم عن باقي المسافرين، تم عزلهم عن باقي المسافرين، بغية التحقيق معهم تباعا، والبت بتسفيرهم  إلى البلد الذي انطلقوا منه.

الحلقة الثانية ستأتي

***

عقيل العبود

في نصوص اليوم