نصوص أدبية

علي صالح جيكور: السياب ينقذني من سيطرة الإنضباط

علي صالح جيكورفي مثل هذا اليوم من نهاية كل عام، تستيقظ في خاطري ذكرى (جميلة) من بين ركام هائل من ذكريات ومواقف أليمة، أسميتها ذكرى جميلة، لا لأنها من الماضي البعيد وحسب، بل لأنها تحمل مفارقات ومواقف، نادراً مايصادف المرء مثلها في حياته، لكنها حصلت معي، وإليكم الحكاية:

في العام 1988 كنت في الخدمة العسكرية الإلزامية، في منطقة السيبة الكائنة على ضفاف شط العرب، جنوب مدينة البصرة.

ولم يكن قد مرت سوى  بضعة أشهرعلى نهاية حرب الثماني سنوات اللعينة، الحرب التي  أتت على الأخضر واليابس وتسببت بدمار مادي وبشري ومعنوي، لايُقدر.

لم تدم فرحتنا طويلاً بوقف إطلاق النار، بل أصبحت أيامنا ألعن وأثقل من أيام الحرب، فقد كنا نستيقظ قبل شروق الشمس ونجرجر أقدامنا بخطى وئيدة وعيون مثقلة بالنعاس والأرق، الى تدريب كريه ومضنٍ، على مدار اليوم،  ومن ثم نقوم بالحفر والردم وأداء اشغالاً شاقة لاجدوى منها ولا طائل، سوى إلهائنا وجعل أوقاتنا وأيامنا، جحيماً أسود.

كان عزاء البعض في تحمل هذه الظروف المهينة، هو أننا شهدنا نهاية الحرب ومازلنا قادرين على السير والأكل والشرب والإنجاب والتبول، وعلينا ان نحمد الله، لأننا لم نصبح ولائم لآكلات الجيف.

كنتُ متذمراً، ناقماً وكارهاً لكل تفاصيل العالم التافه من حولي، وكم تمنيت لو أني مُت في أحدى تلك المعارك التي سُقت إليها مرغماً، لأطوي صفحة من الألم والمرارة.

عدنا مساء ذلك اليوم الى مواضعنا، بعد أن أخذ التعب والإرهاق والضجر منا مأخذه، فساورني غضب عارم وتمرد شديد، حدثت نفسي، ماجدوى الخوف والخنوع وتحمل كل هذا الويل؟

أولاد أولئك ينعمون بأعياد رأس السنة ، كل عام، موسيقى وفرح وغناء، اكل وشراب وطرب، ونحن ننام في مواضع تشبه القبور،ننام ونستيقظ بأوامر، نأكل ونشرب بأوامر، أولاد أولئك، لم يشطفوا مؤخراتهم بزمزميات الماء، التي يشربون منها.

لأكن في رأس هذه السنة مثل أولاد أولئك، فآبائهم ليسو افضل من أبي، ولاانا اقل قدراً من هؤلاء الأوغاد، حملت حقيبتي على كتفي، بعد ان أسدل الليل غلالته على المكان وبعد ان تأكدت من نوم آخر بائس، سعيد بنجاته من الحرب ومازال ينام في موضع مثل القبر.

رحت أغذ السير صوب الشارع العام، الذي يبعد مسافة ميلين عن وحدتنا، عبرت سواقي وتسلقت وهاد وروابي صغيرة وكبيرة، نفضت عن بسطالي ماعلق به من وحل، على الشارع الإسفلتي، بعد مسيرة نصف ساعة أو أكثر.

 السماء صافية، تأتلق بالنجوم، رغم البرد، والقمرالفضي في اطواره الأخيرة.

إلتفت الى الوراء، ورحت أتطلع بألم وحسرة، الى غابات النخيل التي أحرقتها نيران الحرب وقطعت شظايا الحقد ذراها.

من هذا المكان وفي هذه الساعة من الليل الصامت، بدت لي أكثر حزناً، يا إلهي إنها مثل شواهد القبور!

لاحت أضواء عربة تشق عتمة الليل، من بعيد،  فرحت وقفزت خطوتين على الإسفلت، رحت ألّوح للسائق بكلتا يدي، تمهل في سيره، ثم توقف على مبعدة عشرين خطوة، ركضت نحوه ورميت حقيبتي في حوض الشاحنة (الإيفا)  وهممت بالصعود، فقد تعودنا الجلوس في أحواض الشاحانات والعربات، مثل المواشي والبهائم. 

لكن صوت السائق، شق صمت الليل، قبل أن ننطلق : تعال يا أبا خليل*، تعال إصعد الى جانبي.. العربة فارغة.

ألقيت عليه التحية وشكرته، لم  أتبين ملامح وجهه، كنت منشغلاً بسعادتي وحسن حظي الذي أرسل الي هذه السيارة، في درب مهجورة بهذا الليل.

مددت يدي اليه بسيكارة، سارع هو بإشعال قداحته وقربها من سيكارتي، وإذا به يصرخ: هذا منووووو؟؟

جفلت لبرهة، قبل أن يتضح لي سبب صراخه، كانت الثواني القصيرة كافية لمعرفته، ثوان سافرت بي الى ابتدائية أبي العتاهية للبنين.

محمد هيلان!؟ محمد، محمد ، محمد؟

ترك المقود وعانقني، نسيت سيكارتي تلسع أصابعي وعانقته، تعانقنا، صرخنا بفرح، سالت الدموع من عينينا، توقف على جانب الطريق، نزل مثل المجنون، ونزلت مثل المجنون، تعانقنا من جديد، على الرصيف الترابي، سمعته ينشج، فبكيت مثله.

لا أعرف سبب بكائنا تلك اللحظة، هل شم بي رائحة أهله؟ أم شممت به رائحة اهلي؟

 هل هو الليل؟ هل هو البعد؟ هل هو الحنين؟ هل هو الموت؟ هل هو بقائنا أحياء، ومازال بمقدورنا الأكل والإنجاب والتبول؟

جلسنا على الرصيف، اشعلنا سكائرنا الرخيصة، تفرس بملامحي وتفرست بملامحه، بحث في عيني عن مكان رحلته في الصف الخامس الإبتدائي، وبحثت في عينيه عن مكان رحلتي في الصف السادس الإبتدائي ، بحثنا عن استاذ نصيف واستاذ زهراوي وأستاذ طالب وأستاذ...

قال بحزن:

هل علمت بأن محمد ياسين مات؟

صحتُ: لا.. كيف؟ متى؟؟

قلت بحزن:

هل علمت بأن موسى خلف أُسِرَ في الحرب؟؟ وربما مات؟

صاح لا.. كيف؟ متى؟؟

كيف؟ متى؟ كيف؟ متى؟ كيف، متى؟!!

إستذكرنا أحباباً وأصحاباً وزملاء صفٍ ورحلة، مات من مات وهاجر من هاجر..

إنطلقنا من جديد، بإتجاه البصرة..

هل مازال صوتك جميلاً يا محمد؟؟ (محمد هيلان أخ المطرب محمود هيلان) صوته أجمل من صوت أخيه لكنه لا يجيد الغناء، او ربما لأن أخاه محمود كان اوفر حظاً منه؟

زنجر(صدأ) صوتي، قال:  عرق وبيرة وسجائر ودخان قذائق وصراخ نجدة، في المعارك ونحيب على من خطفهم الموت، لم يبق لي صوت.

أسمِعني شيئاً من غناء الأمس يامحمد، ارجوك، من أجل هذه اللحظة..

سحب نفساً عميقاً من سيجارته وراح يغني، آآآآآآه ، آآآآه واويلاه..

بكيت، بكى وهو يغني..

محمد، عندك نموذج تصريح اجازة قديم؟ سألته بعد ان كفكفنا الدموع ولملمنا الذكريات وصحونا على واقع لايمكن الهروب منه، وهو اننا نرتدي الثياب العسكرية واننا بعيدين كل البعد، عن أحلامنا وذكرياتنا.

لا.. ماعندي..

 نازل بدون تصريح؟

أجل،  بدون تصريح، هذا عيد الميلاد الثالث الذي  أقضيه في سواتر التراب ومواضع الخراء.

سأحتفل في بغداد، مثل اولاد أولئك.

وكيف ستعبر وتتخلص من  سيطرة إنضباط القادسية، انهم بلا رحمة، أجلاف وأولاد كلب؟

سأجازف، حياتنا كلها مجازفة، ثم ألا تستحق سهرة ليلة رأس السنة في حانة الزرقاء أو الحمراء بشارع أبي نؤاس، المغامرة؟

صاح: والله تستحق، تستحق ولو كان ثمنها رقابنا، ضرب المقود بقوة، سأترك هذه الإيفا العاهرة في ساحة سعد وأنزل معك، ياروح مابعدك روح..

ضحكت، كلا يا محمد، هذه مسؤولية كبيرة وخطيرة..

هل توصيني بشيء، إن سارت الأمور على مايرام ووصلت الى بغداد؟

أجل، قال :  إشرب لي كأسين على شرفي، تعانقنا من جديد، أحسست بيده، تدس شيئاً في سترتي العسكرية!

مددت يدي لأتبين الأمر، كانت ورقة نقدية فئة الخمسة دنانير، أعدتها اليه بعد إصرار شديد مني، ورفض شديد منه.

 كانت تلك  المرة الأخيرة التي ألتقي فيها بمحمد هيلان، إذ سأهرب بعد عامين من تلك الصدفة، وأعبر شط العرب في الشتاء القارس، من منطقة السيبة، الى إيران.

ركبت الحافلة المتجهة الى بغداد، كنت في المقعد الثاني من جهة اليمين، جلس الى جواري نائب ضابط من مدينة المشخاب، عرفت ذلك من شخص كان يتحدث اليه ويوصيه بإبلاغ تحياته وسلامه الى بعض الأشخاص هناك.

 تشائمت من هذه الصدفة، ولم يعد بمقدوري تغيير مكاني، فالمقاعد إمتلأت الى آخرها بالركاب.

إنطلقت الحافلة وغادرت مرآب ساحة سعد، علت الهمهمات بترتيل الآيات والأدعية، لعل الله يكفينا شر الطريق وشر إنضباط السيطرات العسكرية في مداخل المدن وخارجها.

إلتفت النائب ضابط إلي بعد أن  إنتهى من بسبسته وراح يمطرني بالأسئلة: منين أنت؟

من بغداد..

إجازة دورية لو مساعدة؟؟

فكرت أن أغيضه، قلت: هما الإثنين، إجازة ومعها مساعدة،

كم يوم؟

رددت بخبث: خمسة عشر يوماً..

تنحنح وقال: لازم عندك ظهر قوي؟

أجل، آمر اللواء من أقارب أمي..

أبدى إمتعاضه وأخرج علبة سجائره وراح يدخن ويلتفت إلي بين لحظة وأخرى.

أحسست بنفور غريب منه، فهؤلاء يلاحقوننا في الوحدات العسكرية وفي الشوارع والمقاهي والحافلات، وفي كل مكان، يلاحقوننا حتى في الأحلام.

أبطأ السائق من سرعته واضاء المصابيح الداخلية، ثم صاح بصوت عال:

إخوان سنصل بعد لحظات الى سيطرة إنضباط القادسية، جهزو أوراقكم وأغراضكم، لنمر بسلام.

تسارع وجيب قلبي وتصفد جبيني بالعرق، ندمت على مناكدة النائب ضابط، تمنيت لو أنه يمتلك شيئاً من الإنسانية، ويقف الى جانبي!

صعد عنصر إنضباط، متجهم ، وصاح بصوت عصبي آمر، إنزلو مع أغراضكم وقفوا صفاً هناك.

أدركت بأن الأمر قد إنتهى وبأني سأقضي هذه الليلة وليلة رأس السنة، في توقيف الإنضباط العسكري المهين.

جاء عسكري إنضباط آخر وبدأ بتفتيش الأوراق والأغراض، أمرني بفتح حقيبتي وإخراج مافيها، ثياب داخلية، فرشة أسنان ومعجون، منشفة،  قارورة عطر رخيص، بضعة علب سجائر سومر، دفتر وأوراق أدون فيها أحيانا بعض هلوساتي.

ماهذا؟

فتح ديوان السياب الذي كان يرافقني في كل مكان أذهب إليه.

هل تحب الشعر؟ قالها وظل إبتسام يطفو على وجهه.

أجل، أحب الشعر والقصص والروايات..

سألني عن تصريح النزول، أجبته بأني لا امتلك اي ورقة إذن، سمع النائب الضابط مادار بيننا من حوار.

طلب مني العسكري بأن أقف جانباً، ثم فتش النائب ضابط والركاب الآخرين، وأوعز للسائق بأن يستأنف رحلته..

همس النائب ضابط بإذني: خلي كرايب أمك يفيدك، ثم قهقه وهو يصعد!

أغلق باب الحافلة، فأوصدت أبواب الأمل بوجهي، أمسك الإنضباط بيدي وأصطحبني الى جوارالغرفة المعتمة المخصصة للموقوفين.

هل انت هارب؟ سألني بنبرة ودية، لم أألفها من قبل.

كلا، لست هارباً، غايتي أن أعيش لحظات العام الجديد بين اهلي وصحبي..

اين وحدتك وماهو اسمك الكامل؟

كتب إسمي وعنوان وحدتي في ورقة صغيرة ودسها في جيب قميصه، إستغربت للأمر..

قال: لولا هذا الخبيث الذي سمع حوارنا، لتركتك تتابع سفرك في الحافلة.

هل تسمح بأن تعيرني الديوان، فأنا من عشاق السياب، أتمنى ان تعود بعد يومين، سأكون هنا في مثل هذا الوقت.

تصافحنا بود،وأتقدت عيوننا بمشاعر إنسانية أليفة..

 أوقف سيارة مدنية يقودها ضابط برتبة ملازم، كان متجهاً الى مدينة سامراء ويمر بطريقه على بغداد، رجاه أن يوصلني معه، لم يمانع الضابط وكان إنساناً رائعاً ومرحاً.

إتخذت لي مكاناً قرب النافذة المطلة على الحديقة في حانة الحمراء الساحرة..

شربت كأسين نخب صديقي محمد هيلان وكأساً نخب الملازم وآخر نخب الرجل الشهم، عاشق السياب.

***

علي صالح جيكور

..........................

* ابو خليل لقب يطلق على العسكري آنذاك.

 

 

في نصوص اليوم