نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: ورقة منسية

محمد الدرقاويحين خطط عبد الله مشروع قصته التي لم ينشرها، ما كان يتصور أنها ستكون سببا في تحقيق امنيته مع سيدة مسيحية شابة تسكن الطابق الأول من العمارة، تعلق بها وصار شوقه اليها ينمو يوما عن يوم على روح مرتعشة، تخشى المغامرة بسمعته، وتقدير سكان الحي له. فالشابة زوجة جاره الشيخ المتقاعد الذي انهكه الرعاش وصار لا يتنقل الا داخل كرسي متحرك؛ هو من بقايا الفرنسيين الذي فضلوا البقاء في المغرب بعد نهاية خدمتهم، ماتت زوجته الأولى وهو في سن الأربعين ثم تزوج بعدها أرملة يهودية لم تدم عشرتهما أكثر من سنتين لتغادره بعد خصومات كثيرة .وقد ظل بلازواج لمدة عشر سنوات الى أن ائتمنه أحد أصدقائه على بنته وديعة لديه قبل موته، تؤنسه و تعوض غياب أخته التي سكنت معه بعد أن هجرته اليهودية، ثم ما لبثت الأخت أن تعلقت بثري خليجي صادفته في خمارة احدى الفنادق ففرت معه الى احدى جزر اليونان ..لما بلغت الطفلة سن الرشد أغراها الجار بما يملك، واقنعها بالزواج .وقد وجدت أن الارتباط به خير من فقرها، ولربما منت النفس بارث قريب قد يؤمن لها حياتها.

لم يكن عبد الله يحتل غير غرفة صغيرة، في سطح عمارة كانت تكفيه لقضاء أيامه الروتينية، نهارا في مؤسسة حرة كأستاذ متعاقد للادب الحديث، وليلا للقراءة والكتابة، وهما شغفه الذي منعه من الزواج، فلا انثى قد تتحمل انشغال زوج بدخل يسير وانشغال عنها بأوراقه وكتبه وترك السرير كلما دندنت في عقله فكرة....

بدات الحكاية حين كان عبد الله جالسا بمقهى الحي يوم عطلة مدرسية يخطط محاور رواية شغلته أحداثها عن عمله ونومه، يكتب كل الافكار التي ترد على النفس والعقل، ولم ينتبه الى أن الجارة كانت مشدودة اليه تتابع من نافذة بيتها كل الحركات التي تبين أنه كان مشوش الفكر، وكأنه مشغول بأمر يهم سياسة الدولة أو أمنها.

ما كانت سيدة عادية، فهي من نوع النساء اللواتي يحرقن بكلمة أو يقتلن بنظرة، وبها كنت المحروق المقتول، أنا الضائع وهي التي يحتويها بيت متكامل حتى ولو كان يضمها ظل رجل ..

ـ ستائر نافذتها تهتز على ذؤابات الضوء، لعلها من تحركاتها على سرير، يعذبها زوج يصر على اثبات قدراته، وماهو بقادر على ان يتنازل عن أوهامه ..

ـ شيخ وشابة على سرير ذاك أوج التناقض وانا بينهما الضائع التائه..

احست الجارة وهي تقرأ تلك العبارات أنها المقصودة، فقد لاحظت مرارا وميض عيون عبد الله ولهفته وهو يحييها كلما التقيا، صعودا او نزولا على سلم العمارة، وكم تمنت ان تتجاوز تحيته لها دعوة لجلسة بعيدا عن الحي ..اكثر من مرة فكرت ان تقتحم عليه بيته، لكنها كانت تخشى ردة الفعل وما يمكن ان يتصوره عنها، تمتمت لنفسها:

كم حولتني كلماتك مرجلا من الرغبة اليك وفيك، مناجاتك حركت كل كامن ومتيقظ في نفسي ..

شرعت تستعيد صورته أمام عيونها شريطا يؤجج رغبتها، فقد كانت تهواه لطول قامته، وبنيته الرياضية، وأدبه واهتمامه بهندامه ونوعية عطره الذي لا يتغير ابدا، وبه تعرف نزوله الى العمل أو عودته منه .. كانت تعلم أنه غير متزوج، وكانت تشفق على رجل مثله ..فهما معا يعيشان الحرمان، الفقر ووصية ابيها ما حتم حرمانها، وربط مصيرها برجل كم ندمت على قبول عرضه، لكن عبد الله ماذا يتخفى وراء حرمانه ؟

رجل في أوج شبابه ما الذي يمنعه من الزواج ؟ ربما الفقر رغم انه يبدو دوما انيقا وذوقه فيما يلبس يعكس اناقة وحسن اختيار ..

بسرعة جلست على مكتبها وخطت الرسالة التالية:

جاري العزيز

انت ضيعت فصول قصة حين تجاهلت ورقة قد سقطت منك سهوا، وكان من حظي بل من حظنا ان ألمحها فبادرت الى استعادتها، وانا لن اضيع لحظة في الاعتراف لك أني مع زوجي كنت بجلسة قداس، لا جلسة حب، فالحب في حياتنا انتحر من لحظة زواجنا الاولى، أما معك فاحب ان اصير جسدك، سمعك وبصرك، فكرك وروحك، بل أحب أن ينصهر أحدنا في الآخر لنكتب معا على ورقة منا لن تضيع ابدا: ماخلق العشق الا لنا معا

جارتك الحسناء

ادرك عبد الله ان القدر كان يرتب امره، فهو لم يتقصد سقوط الورقة لتكون بريد عشق الى انثاه، الآن قد عرف مغزى تلك النظرات التي كانت ترسلها الجارة كلما تصادفا عبر السلم، كانت نظرات متأملة سابحة في حلم بهي، كم ارقه وشغله عن قراءاته وكتاباته، بل وللحقيقة ربما تلك النظرات هي ما كان يحفزه على متابعة ما ينوى ان يضمنه قصته ..

انتبه عبد الله الى حركة غير عادية هذا الصباح في الحي، وان الصدى الذي يأتي من سلم العمارة يثير الفضول، صادف منظفة العمارة وهو نازل الى عمله فسألها، أتى ردها مفاجئا: جارنا المسيحي توفي او مات لا ادري والشرطة تحقق في موته ..

استغرب متى كانت الشرطة تحقق في وفاة الناس؟

أحس فزعا يرين على صدره، الامر مثير و مخيف حقا ان كان قد مات بيد غيره ؟ من كان وراء موت الرجل المسن؟ هل تكون جارته قد استعجلت أمرها ؟ لايمكن فوداعتها لن تسمح لها بذلك، واليها لن يتطرق شك .. أنثى عاشقة لا يمكن ان تؤذي، فبالاحرى ان ترتكب جريمة ...عذاب هائل قد ملأ صدره ..

قبل أن يتخطى الشارع سمع من خلفه شخصا يناديه التفت اليه، لم يكن غير ضابط شرطة دعاه يستفسره عن علاقته بزوجة الميت، هل سبق له الدخول الى شقتها؟ هل هي زارته مرة في بيته؟

ما سر الورقة التي وجدت قلب مذكرة السيدة ..

هل كان يلتقي بها خارج العمارة؟

كان يجيب بهدوء مشوب بخوف وقبل ان يتركه الضابط قال: انت ممنوع من مغادرة المدينة الا بإذن ..

لم يكن عبد الله يتصوران حبه قد يقوده الى موقع شبهه، وهو الرجل الوديع الذي وزع حياته بين عمله وكتاباته وحصصه الرياضية الأسبوعية في أحد الأندية ..

قضى عبد الله شهرا كاملا وهو في عذاب وتوجس وخوف، هجر النوم عينيه وبدا يتغيب عن وظيفته مما لحقه من ارهاق الارق.. لم يعد يرى جارته الحسناء، فهي لا تغادر البيت، وحين سال عنها منظفة العمارة، قالت:

هزلت صغيرتي، وهي تبكي بالليل والنهار، حرام ان تتهم بشك أنثى مثلها، وهي وديعة كحمل أليف ..

تنهد ثم قال: أجلى الله همها باظهار الحق ..

ذات مساء سمع جرس الباب، ليس من عادته ان يزوره احد في مثل هذا الوقت، احس بنوع من الخوف فرجال الشرطة وحدهم يداهمون البيوت بليل، قام متثاقلا، ثم فتح الباب بحذر، لم تكن غير جارته الحسناء، اهتز قلبه، فتح الباب على مصراعيه، لم تمد يدها للسلام عليه، بل ارتمت عليه فضمها، شدها اليه وقفل الباب ..دفنت وجهها في صدره وتركت لدموعها غزو شعيرات الصدر بللا حارا ارتجف له عبد الله ..

كان بين خوف وسعادة، جلسا على كنبة، اخذت نفسا قويا ثم قالت:

أخيرا انتهى الكابوس لقد توصلوا الى قاتل زوجي، بسرعة قال وهو يمسح قطرات من عرق لفظتها مسامات جبهتها: من ؟؟

ردت وصدرها يلهث من اثر الركض على الأدراج وهي صاعدة اليه:

لم تكن غير اخته التي لم يعرف أحد متى عادت بعد هروبها، تخلى عنها الخليجي، وعادت لتنفذ خطة حقيرة، انتهزت خروجي من البيت، وتسللت اليه ثم قتلته بوضع وسادة على وجهه ؛كانت تريد ان تسلبني ماكتبه باسمي في وصيته ..

تنفس إبراهيم الصعداء، أحس كان جبلا قد انزاح عن كاهله، وأن انثاه الاسيرة قد صارت حرة الآن، لعق دمعات نزلت على خدها، وقد داهمه هاجس اقلقه، حتما هي تفكر في الزواج فهل يملك الكفاية المادية لاسعادها ؟ بخبرة الأنثى أحست به، سالته: مابك عبد الله فيم تفكر ؟ شاركني ...ألم يسعدك تحرري، أنا صرت لك متى أردت ..

مسك بيدها ثم قال: حبك قد استدرجني الى أحاسيس هي مزيج بين اليأس والامل، ربما أنت لا تشعرين بما اشعر به الآن ..

رفعت يده الى فمها قبلتها ثم قالت:

هون عليك عبد الله، فالامر لايبدو بالصورة التي تفكر فيها، أنت وصلت الى قلبي وانا على قلبك قد أطبقت .. وأنا من بادرتك بالزيارة لاعلن انفراج همنا، وما جئت لاسمع خطبة خوف منك وحذر، أو موعظة حكيمة حول قيم الآباء وتقاليد الأجداد، فقد كانت لهم آلياتهم ولنا آليات، واقعنا الذي سنعيشه بلا خلفيات، انا جئت اليك لأهون عليك كل ما صعب، فانت رجل شهم بمبادئ، وأناأحبك حقيقة لاأمنية أتمناها، اهبك نفسي وما صرت أملك، ارم بثقل نزعاتك العربية وطوباويتها، انهض استدعيك للعشاء في مطعم بعيدا عن الحي ثم سهرة رقص تغسل هواجسنا ..

وقفت وقد شدته من يده، سارمعها وهي تردد وبه تلتصق:

كن شجاعا وبلا تفكير رجعي يتلاعب بعواطفك، اريدك قويا ان كان يهمك مستقبلنا ..أحبك عبد الله وأشتاقك، الا تقبلني قبل الخروج؟؟!! ..

 

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

في نصوص اليوم