نصوص أدبية

جمال العتّابي: صورة هارب من السجن (1)

جمال العتابيإلى أين المسار يا محمد الخلف*؟ بعد أن قضيت ليلتك في بيت صديقك المعلم كاظم كيطان الذي تفاجأ بوجودك، وأنت بملابس السجن بين المتظاهرين المحتجين على إنقلاب 8 شباط عام 1963، كان حضوره مصادفة نادرة في إنقاذك من الإعتقال لتعود إلى السجن مجدداً في ظروف أصعب وغير متوقعة، أسرع كاظم بمغادرة التظاهرة وهو يسحب محمد بإلحاح شديد لمرافقته إلى المنزل، بعد أن أدرك  لاجدوى التظاهرات،  مع صراخ البيانات الذي يتصاعد من إذاعة بغداد، وتسارع الأحداث التي توشك نحو سيطرة الإنقلابيين على السلطة. لِيَدخل العراق في نفق جديد من الإحتراب السياسي، والصراع الثأري الدموي.

كانت تهمة الخلف أنه خاطب مودعيه بالقول: إسألوني قبل أن تفقدوني، أثناء مغادرته ناحية النصر (الغازية)، بعد نقله إلى مدينة السماوة بعقوبةٍ إدارية عام 1959،لأنه يشكل (خطراً أمنياً) على الناصرية، لدوره الفاعل بنشرالأفكار(الهدّامة) فيها.

وقف في قفص الإتهام بمواجهة رئيس المجلس العرفي الأول العقيد شمس الدين عبد الله، رافضاً التهمة، مستخفّاً بها، وإمعاناً في إستمرار المهزلة، طلب العقيد من محمد أن يشتم رموز إنتمائه السياسي والفكري، فردّ بسخرية : ( ألعن أبو إبليس لا بو الشيطان) ! فصدر الحكم عليه بالسجن لمدة عام واحد يقضيه في سجن الكوت، مع عزل من وظيفة التعليم !هكذا بهذه البساطة، يترك محمد أفراخه العشرة مع أمهم، لاماء ولازغب!

هل يحق لنا أن نناقش هذه القضية بمنطق العصر الحالي؟ بعقل لايخضع لحماس العواطف الثورية، ربما توفر هذه الممارسة للجماعة فرصة لإختبار قدرة الإنسان للتضحية، وأن أحداً لايمكن أن ينكر أو يتجاهل دور الأحزاب بغض النظر عن عقائدها وايديولوجياتها، في سبيل ذلك لابد من إكتشاف الأرضيات التي تجعل من علاقة الفرد بالحزب علاقة تعاقدية يقدم فيها نفسه كأضحية على طول الخط، وقد جرى ترويض شاق للفرد من أجل تحقيق هذه الغاية، على المنتمي أن يكون مستعداً على الدوام تقبل حالة الطوارىء الداخلية بعمق وإستغراق وجداني، عليه أن يتخلى عن حياته الخاصة أولاً لصالح الحياة العامة داخل الجماعة، أن يتخلى عن المشاركة في الحياة، وبناء الأسرة، ورعايتها، وضمان مستقبل الأولاد، أليست هذه هي المهمات والغايات المثلى؟ . وأن يندفع نحو التضحية بنفسه تالياً بصورةٍ تلقائية حتى من دون أوامر صريحة بذلك، إن مهمة الفرد بإيجاز، هي حراسة الجماعة كطقس أخلاقي من خطر الفناء، وفي سبيل هذا سيتقدم الفرد ثابت الخطى نحو الموت .

أصبح لزاماً على أفراد العائلة وبالتناوب، زيارة السجين محمد في نهاية كل شهر، وكانت الرحلة شاقة تقتضي المبيت في فندق بائس في المدينة، قبل يوم من موعد المواجهة، الذي يعيد لنا صوت الأم من بعيد تصيح بالسجانين، لماذا أغلقتم منافذ الهواء أيها العتاة؟ فما عاد لنا فرح أو بهاء ! فلا نسمع غيرآهٍ تذيب الصخر والعظام، لم يكن بمقدور صبي مثلي أن يسأل عن معنى وجود هؤلاء السجناء (أطباء،مدرسون ومعلمون،مهندسون،طلبة، عمال وفلاحون )، ومن مختلف فئات المجتمع،محكمون بأحكام جائرة وملفّقة، كاذبة، تصدر عن مجالس (الزعيم) العرفية، بحق الأبرياء، والمضحك (المدافعين عن النظام).

ونحن في طابور الإنتظار يتعالى صوت السجناء، تتردد أصداؤه خارج الأسوار، نسمعه وهم ينشدون:

السجن ليس لنا نحن الأباة

السجن للظالمين الطغاة

كنت وقتئذٍ أتمنى أن أزور في تلك اللحظة سجون الطغاة في العالم كله، لأتأكد من عدد القابعين فيها منهم !!

في باحة السجن، لا أعرف بالضبط لماذا إنصرفتُ إلى رصد حالات الإنفعال والشوق والوجد، في وجوه السجناء، ووجوه عوائلهم،الحزن والبكاء، الحكايات والأدعية،القبل الحارة التي تزداد لهباً كلما دنت ساعة المواجهة على الإنتهاء، وأتساءل مع نفسي :ما الذي يحتوي عطش وجوع الأولاد والبنات؟ من يطفىء لوعة الغياب، ويخفف أعباء الأمهات وحزنهن؟ فالحزن آخر حق نمارسه دون دفع الضرائب .

إلى جوار جلستنا إلتمّ جمع آخر حول سجين شاب يافع، بعينين ملونتين تسكن فيهما إشراقة، أحاطه الأهل كما يحيط البردانون المدفأة في يوم ثلجي، لم يكن يبدو عليه التعب، وجهه في النهاية يقود إلى كنز مخفي، عجبت من غبطة فيه متواصلة مع الحياة، انه فخري كريم  قادته مكتبتة في الحبانية الى السجن، لأنه يوزع جرائد علنية ومجازة لاتنسجم مع فكر السلطة، قال لي الوالد، وذاك القريب منه من يكون ؟ فأجاب :

هو محمد الخضري، المعلم من مدينة الخضر جنوب السماوة، وجهه الوسيم يحيلك إلى آخر يبحث عن السعادة في مكان نقيض لمايسعى إليه البشر، انه لايشعر بالحيف والأسى، ما هو عليه أشبه بومضة إكتشاف أن يكون إستثنائياً حتى الموت، لم يكن يعلم أو يتصور أن رصاصات غادرة كانت تترصده وهو في حالة رغد وهمي، أعتقد أن هناك من الأشخاص من يقرر أن يكون ثورياً للترويح عن نفسه، متميزاً ليس محشوراً بين العوام،(الخضري وفخري تمكنا معاً من الوصول إلى العاصمة، بعد أن أمضيا أسبوعاً كاملاً مشياً على الأقدام).

قضى محمد الخلف ليلته مشدوداً لشاشة التلفزيزن في منزل صديقه حميد، الدم ُ موثق بحمرة قانية على البلاطات، وراديو بغداد في عرس من الإنتصارات بعدد الضحايا .وهو يعيد ويكرر بيان رقم 13، والموت يجثم فوق الصدور،الخلف لايعرف تلك اللحظة إلى أية إنتصارات ينتمي، الوهمية منها، أم الإندحارات المأساوية ؟؟ محمد لايعرف ما تخبئه له الأيام، وما تؤرخه المقادير،عن أيما هدف يبحث الآن؟ في عشية وضحاها بات طليقاً، ثم ماذا بعد ذلك ؟هل أنني أعيش لأنني أخاف الموت ؟ نحن نحب  الحياة،لكننا نعتبر السجن سعادة، والموت شهادة،هل أعود إلى السجن من جديد ؟يتساءل مع نفسه، من يعين إمرءاً مثقلاً بالأسئلة ؟والعيون ظلت مسهدة حتى آذان الفجر.

عليك أن تقرر يا صديقي إلى أين تتجه بوصلتك صباح الغد ؟منذ هذه اللحظة عليك إن تقرر!، ننتظر طلوع الشمس، فالليل اشباح تمد في الظلام مخالب من حديد وحجر، نعم يا أخي حزمت أمري، سأعود إلى جذري السومري، إلى أهلي في ريف الغرّاف، أجاب محمد.

لم يهدأ له جفن طوال الليل، (الويل لمن يتنصت على قلبه، أو يسترق السمع إلى رئتيه).

ما عاد متسع للإنتظار، في الغبش كانت غرفة منام محمد غارقة في الصمت، سرعان ما تعالى فيها صوت صاحب الدار :عليك الآن أن ترتدي هذه البدلة والحذاء يا أخي، وإحرص على أن تلبس نظارتك السوداء وقت العبور، ثم دسّ في جيبه ديناراً واحداً يمكنّه من الوصول إلى غايته، إياك أن تتلفت يميناً ويساراً، أو إلى الوراء، إتجه إلى السدّة وأعبرها مشياً على الأقدام بثبات دون خوف، عرفتك هكذا يا محمد . إحترس جيداً، فالوقت مازال مبكراً في تبليغ نقاط التفتيش بأسماء السجناء الهاربين، وإحذر أن تصدر عنك أية كلمة تكشف عن هويتك، وأنت بلا هوية تعريف، إياك الكلام ! في الصمت النجاة، انه لغة التفاهم، ومملكة الإنسان السرية الداخلية، في بلدنا يقتل الصمت، ينزعونه منك بالتعذيب، بقلع العيون والأظافر أو بالإغتصاب .

على جثة السدّة سرتُ، ومن كل صوب وحدب تحاصرني طوابير من الحراس، وريح تئن كأنني في القفار، كنت في خطوات العبور عند عتبة السد الأولى مثل من يتنفس ناراً تجتاح أوردته، أرى نهر دجلة خطوطاً متعرجة بلا جريان، أو نوارس، أتلمس الحديد مثل سور يمدّ حباله حول رقبتي ويشنقني، أنظر الى الضفة اليمنى من النهر، يا هولها المسافة التي تبدو كأنها ثعبان يتأهب لمهاجمتي، كدت أرى دواليب ماء هناك مثل قيود سجان تؤرق معصمي، فأرفضها، يضحك الجلاد من وهمي ويركلني، أضيق بالحاجز الحديدي، فأصيح سوف أهدمه . وخيول مغول تركض ورائي، تلفّت فلم أجد أحداً، ها أنا في الضفة الثانية أعفّر وجهي من فرط الحزن . فأنا ذاهب إلى أرض يكثر فيها البائسون والتراتيل والرقم الطينية.

 

جمال العتّابي

 

في نصوص اليوم