نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: انغماس

محمد الدرقاويكان عليه أن ينتظر قليلا قبل أن تحضر الطبيبة، مسح يديه بمعقم قدمته له المساعدة ثم دلف الى غرفة الانتظار..

تكتكات الهواتف المحمولة قذفت فيه شعورا بالانزعاج، انامل تتحرك كأنها في سباق محموم، لا أحد يهتم بغيره، الكل منغمس في هاتفه مدردشا أو متسليا، وجوه تنعكس عليها تعابير قد تثير الشفقة أحيانا، الكل مسلوب يمتصه هاتفه عن الزمان والمكان وكل ما حوله....

دخلت سيدة تئن وجعا، على فمها تضع منديلا، جالت في القاعة بعينين ذابلتين، تتلمس كرسيا قد يريحها، انتفاخ متورد يتبدى من حنكها الأيمن، نظرة فضول خاطفة من البعض جعلت العيون تنسلخ عن شاشات الهواتف ولا تلبث أن تعود للانغماس فيه.. ينسل من مكانه ويتركه للسيدة..

أقبلت الطبيبة تسرع الخطى الى مكتبها؛بحكم الموعد المحدد له سيكون أول من تنادي عليه، فهي تقدر وتحترم مواعيده المضبوطة بالثانية كلما هاتفها من اجل زيارة علاج، وكثيرا ما حددت له اوقاتا تكون خالية من المواعيد أو في نهاية دوامها حتى تدردش معه، تحسه قريبا منها، تنتشي بأحاديثه عن الحركة الثقافية في البلاد وعن جديد المطابع بلغة الضاد التي تجاهد النفس على اتقانها..

أقبلت عليه المساعدة تدعوه، اعتذر وطلب من السيدة ذات الحنك المتورم أن تسبقه، عيون اقتلعت من هواتفها تتطلع اليه شزرا، وأفواه كانت مسدودة انفتحت محتجة بهمهمات، لم يهتم بردات الأفعال، شكرته السيدة ثم دلفت الى قاعة الفحص..

أخرج هاتفه وكتب للطبيبة رسالة قصيرة على الوات ساب:

"الزحمة تحيطك، متى وجدت فرصة أخرى هاتفيني..."

هي طبيبة أسنانه، تجاوزت عقدها الثاني بقليل، منذ اللقاء الأول بينهما وجدها صورة مقيمة في دواخله، أنثى تنغمس مع روحه، يطبق عليها بوله وشغف منذ شبابه، ترشَح بأثر عند كل ذكرى، هاهي اللحظة تتفجر، وترمي كل مخزون قاوم الا يصير شاخصا قد يفضحة أمام طبيبة لا تعرفه ولا سابق صدفة لها معه...

حين أشارت عليه بالجلوس على كرسي العلاج كانت عيناه تلفها بخفقة صدر ولمسة أناملها تكهرب ذاته، كان يلزمه أن يغمض عينيه، يستكين حتى لا ترى اثر انبهاره بها على وجهه، فالصورة المخزونة في أعماقه والتي لم تئدها السنوات، تنبعث اللحظة من وجهها القمحي الدقيق الملامح، بعيونها اللامعة التي تنثرالوداعة والثقة بالنفس، والشفاه المعتدلة التي تحسسك بقوة شخصيتها..

ـ ريحة عطرك زوينة آالحاج !!.. قالتها بعبارة هامسة فاجأته، وكأنها تتعمد ألا تصل الى مساعدتها المنشغلة بتنظيف بعض أدوات العمل.. يرتفع وجيبه وتتفجر صرة سكينته، يمد ذراعه محاولا أن يلفها حول خصرها الملتصق بكرسي الفحص، لكنه يتراجع احتراما لها، فربما قد تؤول الامرالى مالم يتقصده.

ـ شكرا هذا من ذوقك ـ سيدتي ـ

تضحك، وكأنها تتابع حديثا عاديا: الحاج من فاس لا شك.. أثر على أهله ظاهر لا يمكن أن يتخفى أو يتجاهله إنسان ذواق..

يسرقه خياله، وتطفر الصورة المخزونة، تتفجر من اعماقه، الذكرى تطويه بقماط يعتصره بألم حتى أنه ما عاد ينتبه الى ما تصنعه في فمه، مواكب ذكرياته تترادف تباعا، تمتصه عن الإحساس بحاضره فتعود به الى يوم تم تعيينه معلما في إحدى نواحي فاس..فوج التلميذات والتلاميذ يمر أمامه وهم يلجون الحجرة الدراسية الوحيدة بالفرعية المدرسية، قريبا منها على تلة مرتفعة غرفة صغيرة سكنى للمعلمين، تلميذة من بين التلميذات كانت تلفت بإعجاب بين الحضور، سبحان من صور وابدع..

استعادته الطبيبة من غيابه: هل يعلم الحاج أن جدتي لأمي من نواحي فاس؟

مرة أخرى يعلو له وجيب، يتحرك من فوق كرسي العلاج كملسوع بذكراه وما في عيونه غير نفس الصورة التي تهزه اللحظة.. تطابق للصورتين فاق الوصف.. يتنفس بعمق:

ـ اسمها يطو أليس كذلك؟

تستغرب لرده، تتسع عيناها وتتوقف أمامه مشدوهة:

نعم، كيف عرفت؟

يتنهد بعمق، ردة إحساس عنيف تشرع في تمزيق ذاته..صدق تخمينه:

ـ من آيت الطالب نواحي صفرو؟

اندهال من رده يتبدى على الطبيبة فتتسمر في مكانها !!.. من أين له بمعرفة جدتها؟

تزيل قفاز عملها، وتقصد مكتبها وفي نفسها تساؤل محير "من يكون هذا الفاسي

العارف بجدتها؟

الحاج !!..أنت فاجأتني وما تقوله صحيح..

يتبسم وعيناه تخترقان كل جزيئة في وجهها وقدها:

ألست لها شبيها بكل تفاصيل تقاطيعها؟

غصة تصعد الى حلقه، يبوسة يحسها في فمه، يطلب ماء باشارة وقد شرع يهتز..

تحس الطبيبة أن الحاج قد تلبسته حادثة تتجدد في عقله فتسلبه نفسه، تشل

 تفكيره، تقترب منه فتضع يدها على كتفه:

ـ الحاج !!..مابك هل أنت بخير؟

تجر كرسيا وتجلس قبالته تمسك بكلتي يديه، تخرج منديلا ابيض من جيب وزرتها تبلله بماء وتشرع تمسح به وجهه.. ينتعش قليلا فيتطلع اليها..

ـ أين هي الآن؟

ـ من؟ جدتي !!.. في البيت، تقيم معي، هي من ربتني، فوالدتي توفيت من لحظة مولدي... هل تعرف جدتي؟

ـ لي عندك رجاء، أريد أن أراها !!..

كان هو آخر زوارالمساء، طلبت منه الطبيبة ان يدخل مكتبها دقائق الى أن تعود اليه..

حملت له المساعدة قهوة، كان في أمس الحاجة اليها.. شرع يستعيد صورة يطو.. بنت الرابعة عشرة.. كيف صارت؟ خمسين سنة مرت على آخر لقاء بينهما، يوم كلم أباها عن نية الارتباط بها فأتى الرد قاسيا:

يطو مخطوبة وكتابها مكتوب على ابن عمتها ضابط في الجيش، وانت هل ترضى عائلتك الفاسية أن تزوجك بربرية؟

ليلا وهو في غرفته القروية سمع طرقات خفيفة على الباب، ارخى السمع:

ـ المايسترو !!.. أنا يطو، افتح..

تملكه الرعب.. ليس من عادتها أن تطرق الباب قبل ان تنقر شباك النافذة !!.. من معها ؟ ولماذا؟..

فتح الباب فدلفت يطو بسرعة الى الداخل، ذابا في عناق استفاقا منه على دموعها..

ـ جئت لأعترف لك بالحقيقة، كان يلزم أن أخبرك من مدة، لكن خفت أن تتركني.. أنا حقا مخطوبة لكن أكره خطيبي، وثق أن زواجي به لن يتم.. صمتت قليلا ثم تابعت:

اعرف أنك لن تستطيع ترك وظيفتك، ولا التضحية بعائلتك لكن أنا قادرة، وجئت الليلة لأودعك..

كلمات قليلات لكنها أحرقته بقلق، حاول ان يعرف منها ما تخطط وفيما تفكر، فأصرت على الصمت..

من يومها لا أحد عرف لها وجهة أو وجد لها أثرا، وحده صار متابعا من قبل خطيبها، مراقبا من قبل أهلها والدرك الذي ظل يحقق في غيابها..

سنتان ورغم انتقاله الى مدينة فاس ظل يعاني مع السلطة وكان لا يملك غير رد واحد:

لا اعرف عنها شيئا سوى أنها تلميذة في المدرسة أعجبتني فخطبتها من أبيها الذي أخبرني انها متزوجة من ابن عمتها، ثم توقفت عن الدراسة...

 تعود الطبيبة ومعها أنثى تتجاوز الستين بقليل، أنيقة، ماكياج خفيف يعطى لوجهها تألقا، ترتدي جلبابا شبحي اللون، وعلى جيدها قد لفت شالا بنفسجيا فاتحا؛ما أن رأته حتى هوت على كرسي، ثم ما لبثت أن وقفت وأرتمت عليه، صار العناق دموعا، زفرات وقبلا، جعل الطبيبة مشدوهة لما تعاين وترى، هل حقا هي ذي جدتها الصارمة التي كانت لا تبتسم أو تتكلم الا بمقدار؟

كيف استمر هذا الحب مكينا عمرا تجاوز الخمسين سنة؟ وكيف ظلت جدتها وهذا الرجل منغمسين في جذوته وعنفوانه؟ هي تيقنت من أثره في نفس مريضها من خلال حديثه معها، ومن وجهها الذي فجر صورة جدتها في عيونه، يقينها من لهيب هذا الحب في نفس جدتها التي كانت كلما تحدثت عن صباها اخذتها غصة وقهرتها دمعة...

كان لا يريد منها الا معرفة اين اختفت؟ بعد إصرار منه قالت:

أنا معك الآن، ماجدوى أن تعرف؟ مرة أخرى ترتمي بين أحضانه وهي تهمس:

كنت الرجل الذي لم يغب عن عيوني ولا عقلي..هل عرفت من تكون الطبيبة التي تعالجك؟ حفيدتك يا حبيبي..!!

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

 

في نصوص اليوم