نصوص أدبية

عقيل العبود: أنفاس جسر ممحوق

عقيل العبودبات الجسر جثة مهشمة وسط اضطراب مائي، تميل ألوانه إلى الزرقة الداكنة، وهو يودع ذكريات مواسم التمر، والنخيل، وزوارق الفرات، والعابرين؛ ذلك بعد اختلاط أمواجه بأكسيد الوقود المحترق، إثر سقوط قذائف الطائرات، وصواريخها المتعاقبة.

**

اختفت جلبة المارة، وضاعت ضحكاتهم، لتتلاشى صاغرة لاضطراب دوي القنابل، محاولة أن تطلق ما تبقى من صرخات استغاثاتها الأخيرة، ولكن دون جدوى.

**

تداعى أكبر معلم هندسي مثل حصان هرم في ظهيرة يوم مشمس، وبعد انقضاء ساعات الدوام الرسمي، ليسقط فجأة في منتصف نهر الفرات، مكبلاً بجراح مشاهده، التي اتعبتها تجربة هذه الحزمة المتوالية مَن السنين، ودفنت أحلام المارة بعد أن ابتلعتهم أمواج النهر الذي تطايرت أثوابه، يوم استسلم لحطام كتل كونكريتية، تم إبادتها مثل جثة بشرية أطلق الرصاص عليها، وبطريقة طائشة.

**

كان يحمل طلاب مدارس وجامعات، وعمال بناء، ومعلمات، ومهندسين، وباعة متجولين، ومجموعة أطفال، وشباب، ارتبطت أحلامهم جميعاً مع بشائر مستقبل يستجير بألوان شروق الشمس، وطيف غروبها.

**

وعلى جوانب ضفتيه، طافت أشلاء ممزقة لجثث بشرية، ومعها حمير، وأحصنة، وكلاب، وبعض الطيور، اخترقتها رصاصات انتشرت في ذات المكان، على نحو لا يعرف فيه مصدر إطلاقها، أما أنياب الطائر المخيف، فقد بقيت مصحوبة بآثار خراب، اختلط الخوف فيه مع الموت، والترويع، والجوع، والأحزان.

**

اصطبغ الليل في يومها بتجاويف أجنحة الخراب، أمست الكتل الضخمة للمقذوفات ترتطم بواجهات البنايات بشكل مرعب، أصبحت شظاياها تختلط مع فتات الركامات الحجرية المتماسكة، وهي تلتقط آخر ما تبقى من صيحات ضحاياها، تأخذها بعيداً، بعد أن تقبض على أنفاسهم تحت الأنقاض.

***

انقسمت أرض الفرات إلى جهتين، وصار الناس ينتظرون القوارب، والعبارات، لذلك ومواساة، تم استخدام بعض جذوع النخل المحترق، ليستعين به المارة للعبور.

**

تحولت البنايات إلى ما يشبه المومياء؛ أطلال ترك الانكسار على جدرانها أصداء الهلاك، الدفاع المدني، الدوائر المجاورة، حتى المدارس، تحولت كلها إلى دكات، لا يمكن مواساة الليل فيها إلا بأضواء شموع واهنة.

**

استلقت خارطة احزاني خاشعة تستقطب هموم وطن آثر المنافي، على أمل أن يتنفس ما تبقى له من حياة.

***

عقيل العبود

........................

*مشهد تسعيني لجسر الناصرية وهو يتهاوى بفعل القذائف التي أطلقتها طائرات قوات التحالف في تسعينيات القرن المنصرم، حيث تحولت الأحياء السكنية، والبنايات إلى ما يشبه مدينة المومياء- الموضوع عبارة عن نص كتب بعنوان: آخر المطاف..حقائق غير هامشية، وتم أعادة صياغته على شكل حلقات، سيتم نشرها تباعاً.

 

في نصوص اليوم