نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: بلا أثر

محمد الدرقاوياربع مرات يوميا تقطع ناديا هذه الطريق بين البيت والمدرسة، بنفس المشاهد تتكرر، ونفس الأشخاص يخرجون خفافا صباحا، كما يعودون أولا يعودون في المساء، صورة يومية مملة، شتاء اذا زف ريح أو صب مطر، وصيفا اذا يبس الشيح وجف الواد وذبل الشجر..

يوميا تمر عبر قنطرة خشبية لتلتحق بشبه مدرسة من حجرتين: حجرة للدراسة، وأخرى اصغر منها اتخذها المعلم مأوى، المدرسة تناساها مديرالمجموعة المدرسية مكتفيا بمعلم يمارس فيها كل شيء، فهو المدير والمعلم، وهو الحارس والمنظف، كما هوالفقيه كاتب تعاويذ المرضى، وجداول فك السحر، وطلاسم الجلب، وهو كذلك امام محل للصلاة، في غرفة للمتلاشيات المنسية بين الاكواخ المتناثرة حول المدرسة..

لا تذكر ناديا ربيعا طال في القرية، فربيع القرية مات من يوم فقدت صديقها بطريقة غرائبية..

كانت تجري وهو يلاحقها، تصلها ضحكاته من خلفها، وكلماته تملأ الفضاء:

ـ ساصل اليك.. ولو أنك خرجت قبلي.. انتظري ناديا، انتظري..

كانت تحاول أن تسبقه، لكن في قرارة نفسها تتمنى لو يمسك بيدها، يلتصق بها، ثم يتابعان الطريق ؛ كانت أحاديثه اليها مفعمة بالحياة والأمل:

ـ "لو نرحل الى قرية أفضل، بها مدرسة أحسن، فيها معلم لافقيه يستغل فقر القرية وصمت الناس"...

كانت تحمل له عاطفة خاصة هي مزيج صداقة وأخوة وحب ينمو...

فجأة تزفر هبة ريح فينقطع صوته..تلتفت فلا تجده، تتوهمه قد اختبأ في مكان ما.. لكن ليس في الطريق حقل ولا شجر، لا بيت ولا خربة أو مخبأ كيفما كان، حشائش خضراء من بقايا ربيع اطل ثم اختفى بسرعة، حتى خشاش الأرض عصفت به رياح الشرقي فما عاد له على الأرض من اثر، فقط سيارة مسرعة تمرق كالسهم، تترك وراءها سحابة من غبار كما تمر سيارات النقل العشوائي التي تتصيد المتنقلين وما اقلهم بين القرية المنسية والمدينة..

تنادي، تصيح، تبكي.. تدور أكثر من دورة حول نفسها..لا اثر له، فقط صدى ترجيع صوتها ما يعود اليها، كأن الأرض قد انشقت وبلعته، أو كأن سحابة الغبار قد لفته بين عجاجها المظلم، ثم عصفت به ريح الشركي العاتية حيث لا يعلم أحد..لم يصل الى المدرسة فتجده، ولا عاد الى البيت فيخرج اليها كما تعود كل صباح وهو ينتظرها بالباب، وتطويها لهفة شوق الى لقائه..

تهيج القرية وتموج، لا سكان القرية يجدون اثرا يدلهم عليه، ولا الدرك يهتدي لدليل يكشف اين يختفي ؟ما ء قد تبخر وما ترك اثرا من ضباب ولا سحاب، أو حتى سراب خادع قد يبعث أملا في ايجاده..

كانت ناديا طفلة صغيرة تجاوزت السابعة من عمرها بقليل، عينان سوداوان واسعتان، وشعر كستنائي على الكتفين مسدول في قوام معتدل، لون قمحي تضيف له رشاقة الجسم خفة جعلتها لا تسير الا وهي تقفز، او تنط لاهية على قدم واحدة. لا تعبأ بالأرض المتربة القاحلة، ولا بالرياح الهوجاء الدائمة، فقد تعايشت مع كل ذلك كما تعايش أهل القرية مع أكواخهم الحقيرة المتباعدة، وارضهم العقيم الصخرية، وفقرهم المدقع الذي جعلهم متوثبين لكل وافد على القرية جديد يبحث عن خادمة..

التحقت بالمدرسة كما يلتحق الذكور من أطفال القرية، وقليل من البنات في بداية كل سنة، وكلما تقدمت الأيام قل عدد البنات بالمدرسة فلا يبقى منهن غير ذات علة واحتياج، أما الأخريات فقد التحقن بالمدينة خادمات حتى اذا ما بقي غير بعض الذكور وحدهم تركوا المدرسة بدورهم لمعلمهم الذي يحول الحجرة الدراسية الى خم لتربية الدجاج والارانب ومكان لعلف بعض الأغنام والعجول مما يُهديه له  طالبو خدماته السحرية من خارج القرية..

كثيرون حاولوا اغراء ناديا بمصاحبتهم الى المدينة، لكنها كانت تمتنع باصرار، فان تجوع وهي حرة مع أمها وابيها خير لها من ان تشبع وهي خادمة، محكومة بأوامر غير والديها.. ثم كيف تستطيع بعدا عن رفيقها وهو متنفسها في قرية كل ما فيها يلف بالضجر والملل..

تتوقف ناديا عن الذهاب الى المدرسة فبعد الهزة القوية التي غيبت صديقها والتي احتار فيها أهل القرية جميعا، فقد الناس ايمانهم بما يتعلمه أبناؤهم، فاذا كان المعلم نفسه وهو من كان يتعاطي كتابة الجداول واتقان التربيعات واستنطاق أبالسة المندل على أكف الصبيان لم يهتد للجن الذي خطف ابنهم، فما جدوى السلطة الوهمية التي يتمتع بها بين اهل القرية ؟

تقضي ناديا نهارها بأمنيات يومية كاذبات في عودة صديقها، وتستغل نوم أبيها وامها ليلا لتزحف على أربع، وتقف وراء كوة صغير ة خارج الغرفة، تصخي السمع وتراقب اشباح الليل، عساها تجود بخبر عن الرفيق الغائب..

تنشغل القرية بحياتها اليومية العسيرة عن طفلها الحاضرالغائب، يزفرون حسرة حين يتسلل الى نفوس الاهل كماض أليم، أو تفيض عيونهم دمعا، فالطفل كان بهي الطلعة، ذكي الفؤاد، قوي الشخصية، كان يرفض الجلوس الى معلمه كما كان يجلس غيره من الأطفال كوسيط بين المعلم وسلطان الجن وقد مدوا أكفهم في مندل، كما كان يتعفف عن سؤال من جلسوا بين يدي المعلم عن حقيقة وصدق ما كانوا يرونه في الجدول الذي كان يخطه المعلم على أكفهم الصغيرة..

وحده المعلم كان يؤمن ان الطفل ربما تم خطفه من قبل الجن لانه كان يشكك في وجودهم، ويمتنع أن يصير وسيط كذب بين الأستاذ وطالبي الأغراض كما كان يفعل أترابه في المدرسة مقابل حلوى أو فاكهة جافة أو كسرة خبز مما يفيض عن حاجة المعلم..

هذه ليلة تختلف حتى عن ليالي الشتاء الطويلة، وما أقلها في تاريخ القرية،  أعاصير الرياح كصواري سفن البحر ترفع معها الرمال وتزحزح الحجارة الكبيرة، والأمطار كشلالات غاضبة تقتلع الطريق وتعمق حفرها..يتمازج فيها عواء الذئاب مع قوة الرياح، وكأن كل منهما يرد الصدى على الآخر كرد تلقائي على ألفة خاصة ؛ تحس ناديا وهي من وراء الكوة التي تلازمها كل ليلة برهبة تسري في جسدها، ثم تقبض على صدرها كأنها تعبان مجنون يتجاوز قوة احتمالها، تحاول أن تعود لفراشها فتخور قواها، تنهض فتسقط بلا حراك،

تتمدد على الأرض، عينان جاحظتان بللهما الدمع، وانفاس متقطعة تكاد توقف قلبها عن الوجيب.. بين غيبوبتها وثنايا الظلام ترى سيارة تخترق العاصفة، من بابها المفتوح تمتد يد قوية وتشد صديقها من رقبته الى قلب السيارة..

يطلع نهار جديد ام ناديا تحتار في أمرابنتها.. من حملها الى خارج الغرفة ؟وما سبب غيبوبتها؟ ما علة هذا الامتقاع الشديد الذي يغطي وجهها بصفرة خرقومية تحول الطفلة جثة محنطة بلا روح ؟

لا رائحة البصل ايقظتها من غيبوبة، ولا تعاويذ المعلم الذي اقبل مهرولا لانقاد تلميذته قد نفعت في انتعاشها...

يومان كاملان بليلهما ونهارهما وناديا غائبة، ثم تستعيد أنفاسها، تفتح عينيها وهي تبكي بغصات تتصعَّد من صدرها، تبادر الام اليها، تحتويها بين أحضانها تحس وكأن شمسا وهاجة تلتمع في وجه ابنتها، تسقيها ماء، ثم تعطيها بيضة مسلوقة عساها تنعشها قليلا.. تطوقها بيديها خوفا من أن تعاودها الغيبوبة، وهي تحمد الله على ان وحيدتها تستعيد أنفاسها..تسمعها تتمتم:

ــ رايته يا مَّا، رايته..

تتوهم الام أن بنتها تهذي من حمى، تضع يدها على جبهة ناديا، ليس على الجبهة غير عرق بارد ينز ويسيح على صدغيها، تمسك بيدها وهي تسأل في لهفة:

ــ رأيت من يا حبيبتي ؟، بسم الله عليك من كل وسواس وشر الناس..

تظل عينا ناديا نصف مفتوحتين، وهي تهمس بكلمات كأنها تصدر من قعر بئر:

ـ رأيت إدريس، خطفته يد امتدت من قلب السيارة التي مرت مسرعة كالبرق وتركت غبارا قويا، ثم رايته يتحرك في محطة قطار وكأنه خائر القوة، مسلوب الإرادة، يمسك بيد رجل يجره وادريس لا يدرك ماحوله..

ورايته مرة ثالثة وهو في مخزن للتموين قرب نفس محطة القطار، لم يكن وحده،  أولاد وبنات في المخزن نائمات أو ميتات لا أدري..

تمسح الام جبهة ابنتها بمنديل مبلل بماء، تلفها بغطاء بعد أن شرعت تهتز بين يديها وكأنها تقشعر من برد، ترخي ناديا جبهتها على صدر أمها ثم تغيب في نومة عميقة..

وصل قطار المدينة الليلي متأخرا بساعتين عن موعده المعتاد، ترجل العميد القادم من مهمة بالعاصمة الى مقهى المحطة، طلب قهوة في انتظار وصول سيارة ابنه..وهما خارجان من المحطة قال الابن:

ـ رائحة كريهة تنبعث من احدى المخازن القريبة من المحطة

قال الاب: الحي جديد ربما احدى الكلاب الضالة قد مات في بناية غير مكتملة.. صمت قليلا ثم أضاف: اين؟

عرج الابن بالسيارة يسارا حيث بعض المتاجر الحديثة ومخازن للتموين بالجملة، بخبرة الاب العميد أدرك ان الرائحة قد تكون من طبق تحت أرضي، حين ترجل من السيارة اقبل عليه حارس ليلي يتسقط عما يريد، سأله العميد عن مالك أحد المخازن، فتظاهر الحارس أنه لا يعرفه ؛تدخل الابن مخاطبا الحارس:

انت مع السيد العميد وهو يسألك فاجبه بوضوح ؛

بدأ الحارس يتلعثم وباشارة من العميد تنحي الابن بعيدا، أخرج هاتفه وكلم أحدا ثم عاد..

في اقل من عشرة دقائق كانت سيارة شرطة تقف بالمكان، نزل منها أربعة رجال بزي مدني، بلا ضجة ساقوا الحارس الى مخفرالشرطة ولحق بهم الابن بسيارته ومعه والده..

لم يكن عميد الشرطة ولا كل من اشتغلوا معه لفك خيوط القضية يتصورون بعد ان تم فتح أحد المخازن، ان يكون المخزن متكونا من طابقين تحت الأرض، وان المخزون ليست سلعا فاسدة أولحوما نتنة وانما جثت صبيان وصبيات قد سُملت عيونهم وبترت كلاهم وقلوبهم..

***

محمد الدرقاوي

 

في نصوص اليوم