نصوص أدبية

صفاء الصالحي: الفـِطـرَة

استيقظ باكراً بعد ليلة دخل فيها إلى النوم بصعوبة حاملاً أحلام سعادته يترقب بلهفة شروق الشمس وحلول الصباح، حتى ذرّت الشمس خيوطها على نافذة الغرفة؛ أسرع بحماسة نحو الصالة مزاحماً أفراد الأسرة وهي تحزم مستلزمات الرحلة السياحية، يسبقهم في حشر ألعابه ومستلزماته الخاصة في صندوق السيارة. بينما تشق السيارة قلب الطبيعة خلف أرتال السيارات الهاربة من سجن المنازل إلى أحضان الطبيعة للتنزه والاستجمام، تباهج أنظارهم مشاكسات الغيوم لقرص الشمس، وتراقص الأشجار والأزهار وسط ألوان الطبيعة الخلابة. حالما أقاموا في الرَّبع تحت ظل شجرة صفصاف تغازل أغصانها الطويلة المتدلية مياه النهر، شرع الأب بترتيب مكان الاستراحة وموقد النار، بينما انطلق كنان متوقداً بالمرح يطارد ذكر فراشة تشابهت ألوانه مع ألوان الطاووس الذكر قبل اقترابه من عائلة تجاورهم بالموضع الذي نزلوا فيه حتى ارتطم بصبية تماثله العمر تشع من وجهها بشاشة ساحرة حدق بها طويلاً، ثم تبسما ابتسامة ودية اقتحمت بعمق فطرتيهما الغريزية، فهب معتدلاً التقط يديها الممتدة إليه ساعدها على النهوض وأسبل ثوبها الملتف حول نحرها، فأخذا ينفضان أيديهما من التراب العالق بهما ثم انطلقا يتعقبا الفراشة حتى وجدوه راكن على غصنٍ شجرة وملتحم بشعيرات أنثى فراشة. بينما كان الأب يحتطب من شجرة عظيمة الارتفاع وكثيفة الأغصان برفقة والد الصبية ليان شاهدا في جويف الشجرة طائر يكبر السنونو حجماً لكنه يتشابه معه بالألوان يجثم فوق بيضاته، اقتربا بخطوات وئيدة من العش، فهمس أحدهما بتعجب قائلاً:

- يبدو إنه طائر فريد! يضارع المارتليت في شعارات النبالة.

- السمام كغيره من الكائنات والظواهر الطبيعية الخاصة بالإنسانية والطفولة التي لم تسلم من تسخيرها لنزوات أنانية تنتهك جمال الطبيعة وتنسبها إلى دلالات تغير المعنى الذي وجدت من أجله.

- وما أنزله؟ أليس طائر دائم التحليق في السماء!؟

- لا يهبط السمام إلا حينما تناديه غريزة التكاثر والإنجاب؛ بدافع المحافظة على الذات والنوع واستمرار الحياة.

- حقاً؛ الجنس غريزة فطرت عليها أغلب الكائنات الحية من أجل استمرار الحياة والحفاظ على النوع، لا وسيلة للإمتاع فحسب.

- كل هذه المخلوقات الجميلة التي نراها في الطبيعة ما هي إلا خلاصة هذه العلاقة المقدسة بين الذكر والأنثى؛ وما غير ذلك يتنافى مع مقاصد وجودها.

عاد الأب بما جمع من حطب فحشره تحت ألسنة اللهب المتراقص مع  دخان الموقد، وأخذ يتسلى بتحريك هواء الموقد، يوقد لهب الجمر المكدس تحت وجوانب الإبريق، لا يبالي بالدخان الذي يغطي ملامح وجهه، مستمتع بفواحة عبير الهيل الممتزج برائحة الشاي، تناسلت نظراته بنظرات زوجته، وماجت الغرائز مداً وجزراً مع رشقات الابتسامة المكللة بالأنوثة الباذخة التي تطلقها وهي تهدهد صغيرها في المهد، ومع نسمات الهواء العابق بالربيع وتناثر الخيوط البرتقالية لأشعة الشمس التي تخترق أوراق الشجرة أخذ يفتل خواطره ويدونها على الورق ويتطلع إلى المنظر الفردوسي للسهول والجبال وهما مكتسيتان بالثوب الأخضر المرصع بشقائق النعمان الحمراء، أدام نظره إلى السماء يتابع حركة غيوم داكنة تمضي بجموح مسرعة نحو قرص الشمس، فأسترسل بالكلام مع زوجته؛ الربيع عروس الفصول؛ إنه موسوم التزاوج؛ سيولد الجمال، ومع تقعقع صوت السماء؛ تراقصا الصبية فرحاً على أنغام موسيقى المطر، وتهللت وجوه الجميع بالبهجة وهم يشهدون ولادة القوس قزح.

***

صفاء الصالحي

في نصوص اليوم