تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: اللقاء

الفصل الخامس من رواية: غابات الإسمنت

وقد أقبلتْ الليلة الموعودة..

همستْ صديقتي بأذني: (شدّي حيلك) ستقضين نصف المدة.

لو كنت خارج السجن، لقلت إن هناك طبخة ما يعدّها لي طباخ ماهر، مديحة تلمّح ولا توضّح، ربما هو التحفظ والخوف، فنحن خلال فترة التعارف القصيرة لا نقدر أن نكشف كل ما في نفوسنا؛ لكننا نتشابه في الحنين الذي تتنفسه المساءات الموحشة!

وذهبتُ إلى الإدارة.

هناك وجدتُ السيدة النقيب، الحارس نجيّة تؤدي التحية وتقول: هل من شيء سيدتي؟

- سأصحب السجينة إلى الطبيب، انتبهي جيدًا.. كوني بقدر المسؤولية.. لا أريد فوضى.. سأعود قبل الفجر.

وضعتْ القيد في يدي، أهناك من مرض أصابني؟

قلق لاحقني بعض الوقت غير أنه سرعان ما تبدّد.. لا أشكو من شيء.. صحتي جيدة وقوامي رشيق.. لا شحوب على وجهي، سوى تراكم آثار الأحلام والكوابيس ما قبل النطق بالحكم..

دفعتني برفق إلى المقعد الخلفي، لم تستقلّ سيارتها الخاصة، ولم يكن المكان الذي ذهبنا إليه يبعد عن السجن، حسب ظني أكثر من عشر دقائق، يبدو أننا دخلنا مجمّعًا سكنيًا، فقد توقفت السيارة في موقف معتم، ترجلتْ وفتحت الباب الخلفي، فكّت قيدي، ورمت إليّ بثوبٍ طويل واسع، وقالت بحزم:

- البسيه الآن، إنه كاف ليغطي كل ملابس السجن التي عليك.

أجبت بهزّة من رأسي.

همستْ ضاحكة: لا تحاولي الهرب.

- أين أذهب؟ أنا لا أعرف المكان ولا شوارع المدينة والطرقات، وليس لي من بيت أو معارف هنا.

انفرجت أساريرها، لا عليكِ.. أمزح معك.

سرتُ جنبها وكان الهدوء يلّف المكان، تساءلت كيف نكون في مشفى ولا أسمع حركة؟ والبناية تبدو لمن يراها عمارة للسكنى.

دخلنا مصعد العمارة، فارتقى بنا بعد لمسة من أصبعها، ثم فتحت أحد الأبواب وبسطت يدها قائلة: تفضلي ادخلي.

كشف الضوء المفاجئ عن صالة جميلة الأثاث؛ أريكة جلدية، وفترينة زجاجية لأشكال متباينة من الكريستال؛ نخيل وثلاثة خيول، وفي الطابق الأسفل طيور متفاوتة الحجم.. ترتيب يدلّ على ذوق رفيع وحياة ترف، نقيض ما هو مألوف عن حياة الذين يعيشون حياة مهنية خشنة في سلكي الشرطة والجيش.

- أظن أنكِ تناولتِ الطعام هناك، مرّت أكثر من ساعتين ولن يضركِ الحمّام، ادخلي ستجدين بيجامة وكل ما ترغبين فيه من شامبو وعطر، هذه شقتي، اعتبري نفسك في بيتك.

لكن.. هممت أن أقول شيئا فتردّدتُ.

- لا عليك، لا تفكري بالأمر، سنعود قبل الفجر وسأخبرهم أن يعفوك من أي واجب كما أمر الطبيب.

- متى نذهب إلى الطبيب؟

بضحكة خفيفة:

- انسي الموضوع.

وأغلقتْ الباب خلفي، تعريت.. كنت أقف تحت الماء، وأستحم بغسول الجسم المعطّر والشامبو، أدلّك جسمي فأرى له بريقا، وأجده عاد رائقا ناعما، كأن أيام التوقيف لم تؤثر فيه، أنا جميلة.. بشرتي ناعمة، وبهذا الشكل أكون رائعة مثل صديقتي الجديدة التي يزيدها الحزن وسرّ مخفي في عينيها مسحة من الجمال.. مسحة جمال لا يعكّرها إلا شحوب باهت لا تقدر أن تخفيه أية مادة من مواد التجميل.

شحوب أحسّه ينبع من عينيها الواسعتين، ولا يوحي أنه مرض فتاك.

هذا ماكان يبعث الراحة في نفسي.

طرقات خفيفة على الباب..

- هل أدخل؟

ودخلت.. هل أنتِ خجولة.. هل أدعك ظهرك؟

استديري..

راحت تضع الشامبو على راحة يديها وتفرك ظهري، يداها تصعدان إلى رقبتي وتهبطان على ردفي، ثم تنزلان إلى فخذي فباطن الركبتين.

- رائع جسدكِ ويا لحظّكِ التعس، هكذا هم الرجال لايقدّرون المرأة.

قالت ذلك وأردفت: أليس كذلك؟

- للأسف نعم.

ثم صعدت يداها ثانية إلى رقبتي كانت تدعك بحنو مفرط، وسمعت أنفاسها تهبط وتصعد، وكلما تصاعد شهيقها بطأت يداها في النزول:

- ردفاك رائعان.. كأنهما منحوتان من مرمر.

- حقا؟

- صدقيني صدقيني.

- شكرا لك سيدتي.

بقيت يداها لثوان على ردفي، وكانت أناملها تنقر نقرات خفيفة، وسألتني أن أستدير، قالت ذلك أشبه بالهمس.. استدرت نحوها، فجاءت عيناها بعيني فهمست:

- لا.. لن أترككِ للسجن، اطمئني.

بدأت شفتاها تسترجيان.. ثم اندفعت نحوي وضمتني إلى صدرها وهوت بشفتيها على شفتي.

غثيان مفاجئ أصابني.. دوار.

نفور..

أنفاس كاللهيب تحرقني..

حاولتُ أن أتخلّص منها، فدفعتها بعنف وتراجعت إلى الحائط، نظرت إليّ مذهولة بعينين حزينتين وقالت:

- هل غضبتِ؟ أنا أحبكِ ولا أروم بك شرا.

كنتُ ألهث.

رحتُ أنشج ثمّ انفجرتُ في بكاء محموم.

صفعتُ وجهي بأطراف أناملي.

وقبضتُ على شعري أجرّه.. لا أدري لِم جاءت ردّة فعلي بهذه الصورة، كنت حزينة ولم أكن خائفة، مع كلّ ذلك لم تبدُ لي السيدة النقيب بشكل وحش يحاول أن يفترسني، فتقدّمتْ نحوي، وعلى شفتيها ابتسامة حنون أنسني البكاء وطعم القبلة الغريبة.. كل ما أحسّهُ أني بحاجة إلى البكاء.. نسيت الكلام، فقالت:

- ابكي.. ارتاحي.. البكاء يريحك.. أنا نفسي أحيانا ألجأ إلى البكاء.

خلتُ أنها تهمّ بالمغادرة، فخشيتُ أن تتركني وحدي في الحمّام ولا أحد يوقف بكائي، ظننتُ أني أظل أبكي طول العمر، وشَخصت لعيني بركة من دم يسبح بها زوجي وصديقته، مشهد تجاوزته من المشنقة إلى السجن عبر ليالي قاتمة، فهل هناك شيء أبشع من مشهد ترسمه الدماء؟

فازددت هلعا، نسيت القرف واندفعت نحوها، ارتميت على صدرها وأنا ألهث وأنشج ويداي تطوقانها، فكانت تمسح على شعري وتضمني إلى صدرها.

قالت: انسي الحياة الماضية، وابني حياة على النقيض منها.

نسيت القرف تماما، كان هناك عالم آخر ينتظرني لم آلف له شبها من قبل.

أنا الآن غيري..

امرأة أخرى من عالم جديد.

من كوكب آخر.

لم أفكر مثل قبل أين أذهب، وماذا أفعل حين أقضي حكم السجن، أيّ مكان يؤويني وأي مجتمع يقبلني.. على الأقل هناك في هذه اللحظة يد رحيمة تمتدّ لي، تعاملني صاحبتها معاملة طيبة، تجفف دموعي، وتعدني بالأمان، تطلعتُ في السيدة التي تبحر عيناها في عيني وقلت لنفسي:

لأكن امرأة أخرى.

***

ذكرى لعيبي

 

في نصوص اليوم