نصوص أدبية

حاتم جعفر: بالأبيض والأسود

(لم تكوني بالسيدة الفاضلة)*

حين العودة الى جذور الخلاف مع زوجها ومسبباته وبحسب ما ادعته ولعلها في هذا الأمر صادقة في قولها، فسنجد بأنها كانت قد أُجْبِرَتْ على هذه الزيجة من أحد أبناء عمومتها، وهذا أمر مشاع في بلادنا التي لم يزل شروق الشمس بعيدا عنها، لينتقل بها ويسكنها في إحدى القرى النائيات، حيث يقيم ولمّا تزل بعد صغيرة في السن. وﻷن ظروف الحياة هناك شديدة الوطئة، قاسية لا تطاق، وطُرقها مقطعة وغير معبدة أو سالكة بسهولة، مما أدى الى صعوبة التواصل مع ما يحيط بها أو على نحو أدق مع البيوت التي عادة ما تكون متباعدة في مثل هكذا مناطق. فضلا عن انها بنت مدينة ومتعلمة، إذا ما قورنت بزوجها، حيث نشأت وتربت على شيء من الإنفتاح، ونسج ما يطيب لها وما مسموح من العلاقات الإجتماعية. وللأسباب الفائتة وغيرها، فقد صَعُبِ عليها كما تقول التأقلم مع الوضع الجديد، رغم ما بذلته من جهد وصبر في بادئ الأمر، لذا كان لها ما أرادت ولينتقلوا ويتخذوا من المدينة مسكنا ومستقراً جديدا لهم.

ومن خلال ما كان يرد على لسانها وما ثبت ذلك فيما بعد وباﻷدلة القاطعة،. كذلك ما جاء من تشكٍّ، بشكل غير مباشر وأحيانا مباشر، وعلى لسان زوجها وكلما ضاقت به لغة التعبير عن الرفض أوالإحتجاج بصوت مسموع، فقد بدا جلياً بأنَّ أمر إدارة البيت وساكنيه، من حَلِّ وعقد وكل ما يرتبط بهما، بات من إختصاصها وصلاحيتها حصراً بل وحكرا عليها، فعلى لسانها سيأتي القول الفصل في الشاردة والواردة وفي الصغيرة والكبيرة.

أمّا لو سألتم عن باب بيتها فهو مغلق بشكل دائم ومستمر وعلى مدار اليوم والساعة، ويُحَرم دخوله الاّ لمن تشاء هي تحديداً وترغب، ومَن لا يطيب له قسمة كهذه فالبيت وبابه رحبان بما يسعان ولكل مَنْ يريد مغادرته، حتى من دون الإستئذان أو الإفصاح عن الأسباب والدوافع، والمقصود من هذا الكلام وَمَنْ تعنيه هو زوجها طبعاً وليس من أحدٍ سواه.

قصارى القول فيومياتها يمكن تلخيصها بعبارة واحدة: تعيش حياتها تحت تأثير ووطأة  ما أصابها من حيف وظلم، كانا قد وقعا عليها جراء ما فُرض عليها من زيجة وزوج، وهذا أمر لا يمكن إنكاره أو تجاهله. ولأن جروحها عميقة وغائرة، ولكي تُقلل أو تحد من تأثير شحنات الأذى والقسوة التي كانت قد تعرضت لها، ستجدها وفي أكثر اﻷوقات وتحت أي ظرف، وبمجرد أن يُفتح موضوع الإرتباط بالآخر وما يتصل به، على إستعداد كامل في أن تُفرغ ما في جعبتها من مشاكل ومتاعب وحتى من أسرار، كانت قد تراكمت على رأسها مع مرّ السنين.

وعن الكلام المباح الذي درجت هذه السيدة على إسماعه لمن يحطن بها. ففي إحدى المرات وبينما كانت على درجة عالية من الحماس حين كانت تقص على صديقاتها بعض مما أصابها، لكزتها إحداهن وفي حركة متعمدة، كي تخفف من حدة لهجتها ولتقول لها: أشعر أنك ذهبت بعيدا، ففي كلامك ما يشي الى أنك تبالغين كثيرا. غير انها لم تعر لها أمرا. وتعليقا على هذا الإعتراض، فربما كانت هذه المرأة تتعمد هذه الطريقة من السرد، وذلك لغايات وأهداف بعيدة بل بعيدة جدا ويصعب إدراكها.

إذن وبإختصار فقد بات من طباعها، أن لا همَّ لها ولا شاغل سوى نقل الكلام وتناقله بين هذا وذاك، ومن بيت الى بيت ومن  إمرأة الى أخرى، لذا يمكن أن نصفها بأنها وكالة أنباء متنقلة. وفي أكثر اﻷحيان لا يعتد برأيها الاّ من قبل مَنْ هُنَّ أسوء منها أو يماثلنها في الأخلاق. ولولا بعض الإعتبارات يقول إبن سيدة أحد البيوت الذي عادة ما ترتاده وتفضله على اﻵخرين، لكنت قد إشتبكت معها ولأكثر من مرة، بل حتى بتٌ على إستعداد تام لطردها لولا بعض الإعتبارات التي تحول دون ذلك.

ومن بين ما ادعته وسرَّتْ به لوالدتي على سبيل المثال، يقول الإبن، ما شاهدته ولأكثر من مرة وعن طريق الصدفة المحضة وبأم عينيها كما يحلو لها الوصف وتقسم على ذلك بأغلض اﻷيمان، بعض من حماقات وتصرفات، مصدرها هذا الرجل الذي تشغل صورته وللأسف، أكبر حائط في غرفة ولدك، في إشارة بسبابتها اليمنى الى صورة أحد أصدقائي، زاعمة بأنه كان في حالة تدافع وصراخ ملفت للنظر، حتى تعذَّر على مجموعة من الرجال الذين كانوا متواجدين هناك في تلك اللحظة من فك الإشتباك الحاصل، بل بلغت به الحماقة أن حاول إطفاء ما تبقى من سيكارته بوجه أحد خصومه، أمّا كيف أقنعت والدتي وصعدت معها غرفتي وشاهدت ما شاهدت، فهو أمر مُحيّر ولم أستطع التوصل اليه.

حتى اﻵن قد يبدو اﻷمر طبيعياً ولنقل مقبولاً، وقد يأتي لو سلَّمنا أمرنا في سياق حرصها على بيتنا وسمعته إذا ما أحسنت النية حقا، حين سردت لوالدتي ما إدعت مشاهدته ونجحت في ذلك. غير ان القصة لم تتوقف عند هذا الحد الذي أتينا عليه فالقصة ستأخذ منحا آخر، فلا من رادع أخلاقي يشكمها ولا من واعز ضمير يحركها، رغم كل التوجيهات والنصائح التي كانت تسديها والدتي، والتي تؤكد عليها وفي كل مرة على ضرورة كتم ما تراه، فالبيوت فيها الكثير من الأسرار ، ومن الشرف والنبل أن تُفتح أبوابها لمن أهلاً لثقتها، وعلى زائريها أن يطووا صفحاتها، صارفين النظر عمّا فيها، حفاظا على أواصر الصداقة والمحبة التي تجمع طرفيها، عدا عن غلق كل المنافذ  التي تسيء الى البيت  وساكنيه.

وللأسف الشديد فأن كل تلك الوصايا ذهبت أدراج الرياح ولم تجد لها صدى ولا أذنا صاغية، فبمجرد مغادرتها منزل مضيفتها وفي كل مرة، فلا همَّ لها سوى أن تجوب بيوت الحي بيتا بيتا، وفي جعبتها ما إدعت مشاهدته، بل ستضيف عليه من عندها ما سيطيب لها من إفتراءات وأكاذيب، على الرغم من ان أغلب نساء الحي، كنَّ يخشين طول لسانها بل سعين من أجل وضع حدودا لها، خاصة بعد أن بدا التمادي واضحا في أحاديثها وسلوكها وتصرفاتها، بل وحاولن أيضاً التقليل من ظاهرة ترددها على بيوتهن.

وللوقوف من جديد والغوص في أسباب قيامها بهذه الزيارات المفاجئة، فهي تأتي أساسا لتزجية الوقت والتخلص من مهام البيت ومسؤولياته، وأيضا لتتجنب الإحتكاك بزوجها، والأهم من كل ذلك هو تحريض نساء الحي على أزواجهن، خاصة إذا ما لاقت لأحاديثها إستجابة وتفاعلاً، تاركة المنزل لعبث ولديها، أمّا إدارة شؤونه فسيترك بعهدة صغرى بناتها، والتي لم تبلغ من العمر بعد إثنا عشر عاما على أكثر تقدير. وعن إبنتيها الأخرتين، فقد تمَّ التخلص منهما على حد قولها، بعد تزويجهما مبكرا ومع مقدم أول فرصة، صارفة النظر عن طبيعة الزوجين المتقدمين ومدى أهليتهما لذلك.

وبمناسبة طول لسانها فلا بأس من ذكر هذه الواقعة، والتي كان لها أثراً كبيرا علينا وعلى ضوءها كان لنا القول الفصل، يقول إبن سيدة البيت. فبعد مرور يومين أو ثلاثة على آخر زيارة قامت بها لنا، وعلى ما وصل مسامع والدتي، وما يُلفت الإنتباه حقاً، أنَّ بضعة نساء من أهل الحي، كُنَ قد تجمعن وهي تتوسطهن ليصغين لما ترويه، بمتعة واسترخاء، رغم كل الوعود التي كنَّ قد قطعناها سابقا والتي تقضي بماقطعتها وغلق طرق النفاق عليها: عن أي صورة أحدثكم، فأقسم لكم وبأقدس ما أملك بأني لم أشاهد من قبل إهتماماً بأية صورة وطيلة سنوات عمري الذي تجاوزت فيه الأربعين كالذي شاهدته، حيث تصدرت أكبر واجهة في غرفة ولدها المدلل، فَمَنْ يرى حجم تلك العناية بها، فسيظنها تعود الى هدى سلطان أو فريد شوقي وهما في ريعان شبابهما، أو لفتى الشاشة اﻷول عماد حمدي وهو مرتديا روبه اﻷثير، أو لناظم الغزالي وهو يشدو في إحدى صالات أو ملاهي بيروت.

ثم راحت مكملة روايتها أمام مَن يصغي لها: وكي لا أنسى، فقد جرى تأطير الصورة إياها بأشكال من القلائد والأطواق الأنيقة الموردة والتي لم أر لها مثيلا من قبل، مما أضفى عليها المزيد من الجمال والروعة، لتشد وتجذب إنتباه كل من يدخل الغرفة ومن أول وهلة، فضلاً عن ذلك العطر الفواح الذي لم تتوقف عن رشه حتى أثناء اللحظات التي كنت بصحبتها، عدا عن تلك اللمسات الحانية التي ما إنفكت تقوم بها سيدة البيت بين الفينة واﻷخرى، ولولا تنبيهي لها، لكانت قد إستمرت على عنايتها وإهتمامها.

هنا سيبرز التساؤل، أن كيف حدث ذلك وكيف استطاعت هذه المرأة الإطلاع على ما تحتويه غرفة الإبن اﻷكبر، للإجابة على ذلك ربما كان للصدفة المحضة دورا، ليس أكثر. ففي إحدى زيارات هذه المرأة ولنسميها بالفضولية، عدا عن نعوت أخرى، كان قد جرى إشتقاقها ونحتها وإسقاطها عليها، وبما يتلائم وطبيعتها، كانت سيدة البيت وبعد أن أحسنت إستقبالها وأداء ما يترتب على ذلك من حسن إستقبال وواجب ضيافة، ولطيب نيتها وخلقها الرفيع، وإحتراما لها كذلك وكي لا تتركها وحيدة في البيت، فقد إقترحت عليها مرافقتها والصعود سوية الى الطابق الثاني من البيت حيث غرفة ولدها، لغرض تنظيفها وترتيبها. غير أن ما ترتب على ذلك وللأسف ما لم يكن بالحسبان، حيث تجاوزت تلك الزائرة كل الحدود، إذ ستقوم بنقل ما يطيب لها وما خرجت به مخيلتها من سوء ظن وتصور.

وبالعودة الى ملابسات وخلفيات صعود هذه الزائرة السلم ودخولها غرفة الإبن المدلل كما تسميه، وما رأته وما أضافت عليه من مبالغات، لهو جدير بالذكر حقا. فبينما كانت اﻷم منشغلة بغرفة ولدها، وبدافع الفضول راحت المرأة الضيفة والتي هي موضع حديثنا تتطلع في إحدى الصور المعلقة. في البدء كانت نظراتها خاطفة، غير انها وفي اللحظة التي أوشكت مغادرتها قررت التدقيق أكثر ﻷمر ما ربما شدَّ إنتباهها، وهذا ما جرى فعلاً. فبعدما أعدلت من وقفتها لتكن بمواجهة الصورة تماماً ومن غير أن يرمش لها جفن، ومع الإمعان والتمحيص والتدقيق، إستطاعت التعرف كما إدعت على من يتوسط مجموعة من الواقفين، وقد تجاوزت أعمارهم تواً على حسب تقديرها العقد الثالث. وعلى الرغم من قِدَمْ إلتقاطها والفارق الواضح بين العمر الظاهر في الصورة المعلقة، وعمر صاحبها في الوقت الحاضر، الاّ انها مضت لتزيد من قناعتها والتثبت منها وتحسم أمرها، قائلة فيما يشبه الهمس، إنه هو، نعم انه هو  وليس هناك من مجال للشك.

سيدة البيت من جهتها لم تكن بتلك الغفلة والسذاجة كما قد يظن البعض ويتوهم. فبصرف النظر عن المبررات والتخريجات التي ستسوقها الضيفة لتصرفاتها هذه والتي إعتادت عليها، فقد قررت وبعد أن أدارت الموضوع في رأسها ولمرات ليست بالقليلة، ولإستشارتها كذلك لأهل بيتها وتداول الموضوع معهم وكي لا تظلم أحدا، غلق باب بيتها أمام هذه المرأة الفضولية والى الأبد، ولا ندري إن كانت قد أحسنت التصرف أم أخطأت، ولكم ما ترونه مناسبا من تعليق ورؤى.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

 .......................... 

* في الجزء اﻷول من هذا النص أو القصة أو سمّه ما شئت، كنت قد تطرقت الى إحدى النساء الفضوليات في طبعها. وفي هذا الجزء نكمله، محاولين ربط الإثنين معا وعسى أن يتسق الكلام.

في نصوص اليوم