نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: تصاوير مُسيْلَمة

طلبت منّي الكلّيّةُ التي تم قبولي بها صورةً شخصية لإكمال أوراقي الرسمية. حيث تركتُ الكثير من حاجياتي ولاسيما صورة قديمة، في دولاب غرفتي في قريتنا التي جئت منها، قاصداً هذه المدينة التي تم قبولي في إحدى كلّيّاتها. لهذا وجب عليّ الآن أن أذهب لمصوّر قريب، لكي ألتقط صورة جديدة لإكمال أوراق قبولي في الكلّيّة. وبالصدفة كان الفندق المتواضع الذي يقطن فيه الطلّاب، محاذياً لمقهى أجلس فيه ليلاً. أشرب الشاي والقهوة وأطالع مباريات كرة القدم وبعض البرامج. وحين كنتُ جالساً ليلتها سألت العامل الذي يعمل في المقهى عن مصوّر قريب، فأجابني: نعم هناك مصوّر على بعد شارعين من هنا. إنه "مُسيلمة". ليس هناك شخص في المدينة لا يعرف مكانه. إنه أفضل مصوّر في العالم..

في الحقيقة دُهشتُ حين سمعتُ باسمه للمرة الأولى.. مُسيلمة!!.. لاحظ وسمع الحوار بيني وبين العامل زبون من زبائن المقهى. ستينيّ السن كان جالساً لوحده. لديه شارب أبيض يغطي شفتيه، ويرتدي بذلة بنّيّة. أومأ إليّ منادياً وهو يبتسم: هاااا.. استغربتَ من الاسم بلا شك؟. دنوت من مكان جلسته وقلت له: حقيقة الاسم غريب بعض الشيء!!. وفي الحال انبجس ينبوع الصُّحبة بيني وبين هذا الزبون صاحب الشارب. إذ اقترح عليَّ أن أجلس لكي يعرّفني بأهل المدينة لأنني غريب. ولما سألته: كيف عرفت أنني غريب؟! أجابني: أمر سهل بلا شك. ليس هناك شخص في المدينة لا يعرف مُسيلمة سوى الغرباء.. هل تريد مصوراً جيداً يتلقط لك صورة جميلة تريح ناظريك وقلبك؟. فأجبته: نعم. فأجابني ضاحكاً: إذن اسمع كلام القهوجي واذهب حيث أرشدك.. ثم اقترح عليَّ الجلوس والحديث، فقبلت فوراً على شرط أن يحكي لي في البدء عن المصوّر "مُسيلمة" الذي أثار اسمه فضولي. وبالتالي أقضي بعض الوقت قبل الذهاب إلى الفندق. وفي الحال بدأ الرجل حديثه بعد أن اعتدل في جلسته قائلاً: يا سيدي هذا ليس اسمه بل لقبه الذي اطلقناه عليه منذ أربعين سنة تقريباً. في البدء كان لقبه "مُسيلمة الكذّاب"، وذلك بسبب أنه كذب على أهل المحلّة في بعض الحوادث. ابتسمتُ قائلاً له: كيف هذا؟!. فردَّ عليّ جليسي: لقد كان أبوه مصوّراً أيضاً، وقد ورث مهنة التصوير منه. ذات ظهيرة خرج علينا مُسيلمة حاملاً كاميرا تلك التي يخرج منها فلاش أثناء التقاط الصورة. الكاميرا كانت لأبيه، يحملها عند تجواله في الشوارع لالتقاط الصور للناس، ويقطعُ لكلِّ زبون وصلاً يستلم به الزبونُ الصورةَ من الأستوديو لاحقاً. خرج علينا مُسيلمة بتلك الكاميرا من منزله، وبدأ يمطرنا بالصور. فصار الأطفال يجتمعون حوله دوائر، ويلتقط لهم الصورة تلو الأخرى. وحجّته كانت أن في الكاميرا فيلم فائض عن حاجة أبيه، وأن أباه يريد تدريبه على مهنة التصوير، ووعده أنه سيطبع الصور لاحقاً لمن يصوّره الابن مجاناً. هنا سال لعاب الرغبة عند بعض الجيران من الرجال الجالسين على قارعة الطريق. فنادوا عليه وطلبوا منه طامعين أن يلتقط لهم صورة. والنساء اللواتي كنَّ جارات لنا أيضاً صار يلتقط لهن الصور في المنازل. ولم يكتف عند هذا الحد. بل سار ومعه زفّة من الأطفال الذين صاروا يهتفون ويصفقون فرحين. ملتقطاً صوراً متفرقة لبعض الأشخاص في الشارع. لشرطي مرور وبائع خضرة وسائق باص وغيرهم. الجميع كانوا مسرورين بعد أن وعدهم أن يحصلوا على صورهم مطبوعة. ومن ثم حدثت الكارثة. فقد انتبه إليه أحدهم عند إحدى الخربات، وكان برفقته أطفال يهتفون ويضحكون. وصاحبنا ينهال بلقطات من الكاميرا على حمار مربوط جنب عربة!!. وصدفة  كنتُ عائداً للمنزل، فسمعتُ صراخاً وعراكاً بين مُسيلمة وذلك الشخص الذي اكتشف صنيعه وفضحه. ولما احطنا به طلبنا منه أن يعطينا الكاميرا لنرى هل فيها فيلم أم لا. فرفض ذلك لكننا أجبرناه، واكتشفنا بالفعل أن لا فيلم في الكاميرا!!. وأن كلَّ ما في الأمر أنه كان يمطرنا بومضات الفلاش التي كنّا مبتهجين بسببها. هنا اطلقنا عليه لقب "مُسيلمة الكّذاب". وجرى اللقب على ألسنة الناس الذين استشاطوا غيظاً منه لأنه كذب عليهم..

أخذ الرجل ثوان ليرتشف ما تبقى من الشاي الذي أمامه، فاستثمرت الوقت القليل في سؤاله: وحتى هذه اللحظة لم ينس الناس لقبه؟!. سعل الرجل واضعاً قبضته على فمه التي افترش عليها شاربه الأبيض قائلاً: اللقب بقي كما هو ولم تتبدل سوى الصفة. فسألته مستغرباً: كيف يعني؟! فأجاب: لقد تحوّل لقبه من مُسيلمة الكذاب إلى "مُسيلمة النّصاب".. خرجت من فمي قهقهة وطلبت منه أن يكمل كيف تحولت الصفة بهذا الشكل فاستدرك قائلاً: بعد سنوات توفي أبوه. وورث مُسيلمة الأستوديو والمهنة أيضاً. وصار يقلّد أبيه في الخروج والتجوال في الشوارع لكي يلتقط الصور للناس. في البدء كنّا نسخر منه حين يمرُّ علينا ونحن جالسين. وكانت الأصوات تتقاذف عليه كالحصى من كلِّ جانب.. ها مُسيلمة هل نسيت الفيلم؟.. يبدو أن الكاميرا لا يوجد فيها إلا البطارية.. إذا التقط لنا صورة ستظهر بيضاء. وهكذا من هذه العبارات الساخرة، وكلُّ هذا بسبب كذبته علينا حين كان صبياً. ولكن رويداً رويداً، بدأ الناس يذهبون له للأستوديو لالتقاط الصّور، أو ينادون عليه في الشارع حين يعمل مصوراً جوّالاً. هنا تبدّل لقبه إلى "النّصاب". بعد أن امتعض الناس من رداءة الصور التي يلتقطها لهم. وكانوا يقولون له أن أشكالهم في الواقع أفضل من تلك التي في صوره القبيحة. في الحقيقة ولكي أكون مُنصفاً. الصور التي كان يلتقطها هي ذاتها صورنا وأشكالنا. لأنني التقطتُ عنده في حينها الكثير من الصور، فلم أر غير صورتي مع قليل من المفاجأة. فكما تعلم نحن حين نرى صورنا أو نسمع أصواتنا في تسجيل نستغرب، ونرفضها ولا نقبل بها مع انها منّا تماماً. على أية حال فقد ساء الوضع مع مُسيلمة في ذلك الوقت. فقد هجره أهل المدينة ولم يلتقط عنده الصور سوى الغرباء. ولم نسمع صراحة أن غريباً عن المحلة لم يرض عن صورته، إلا بعد سماعه بالحادثة الأولى وألقابه التي تداولتها الألسنة. وهذا الأمر من الغرائب، فقد صادفتُ ذات مرة غريباً جلس في مكانك بالضبط، يسكن في هذا الفندق الذي تسكن فيه أنت. التقط صورة عند مُسيلمة وقد كان راضياً عنها في البداية. إلا أنه قد بدّل رأيه سريعاً بعد سماعه بلقب مُسيلمة الكذاب ومن ثم النّصاب حين كان روّاد المقهى يتحدثون!!. حين اكمل الرجل كلامه ابتسمتُ وقلت له: لقد القيتَ التّردّدَ والشك في قلبي منه، وربما لن أذهب إليه غداً لالتقاط صورة للكلّيّة!!. لكن الرجل جليسي في المقهى أشار بكفّيه رافضاً وهو يقول: لا..لا.. أرجوك اذهب إليه فأنت لن تحصل على صورة جيدة في المدينة كلّها الآن إلا عنده. فتساءلت في دهشة: كيف تقول هذا بعد كلِّ الذي حدث؟! فأجابني الرجل بعد أن تنحنح وضحك ضحكة خفيفة: مُسيلمة حين شعر أن الزبائن انفرطوا من بين يديه كما تنفرط خرز المسبحة. استعان بمصوّر محترف شاب عاد إلى الوطن بعد ان كان مهاجراً في بلد أجنبي. يعمل على آلة الحاسوب. وقد أدخلوا في هذا الجهاز العجيب كما تعرف، كلَّ برامج التعديل والتجميل. ومن حينها وحتى هذا الوقت صار الجميع لا يلتقطون صوراً إلا عند مُسيلمة. الفتاة التي تريد عريساً تذهب إليه لكي يمنحها زينة على شكلها في الصورة. الموظف الذي يطلبون منه صورة لسجل الخدمة يذهب إليه. رب الأسرة الذي يريد صورة عائلية يذهب إليه. حتى السياسيون الذين يعلنون عن أنفسهم في الانتخابات، يذهبون إليه لكي يلتقط لهم صوراً جميلة من أجل نشرها في لافتات الدعاية. ولن أقول لك عن عدد الشباب والشّابات الذين يقفون عند باب الاستوديو، من أجل التقاط صور لهم لكي ينشرونها في يومياتهم وصورهم الشخصية في صفحات التواصل الافتراضية. حتى نسي الناس لقبيه السابقين (الكذاب) و(النّصاب)، وصارت المدينة كلّها تطلق عليه الآن لقب "مُسيلمة الحبّاب". هذا الرجل جعل الناس منشرحة صدورهم بصورهم التي يتفنّن صبيُّهُ الماهر في تزويقها وتجميلها. حتى أن كثيراً من الناس صاروا لا يعجبهم النظر في المرآة. لأن المرآة تعكس الصورة ذاتها التي لا يريدون رؤيتها. بل يريدون رؤية صورهم الجميلة الساحرة البهيّة التي يصطنعُها لهم ستوديو مُسيلمة.. يااااه.. الوقت قد تأخر ويجب عليَّ العودة إلى المنزل. لا تكترث وخذ بعضك واذهب إليه يا بني. سيلتقط لك صورة جميلة للكلّيّة. أغلب زملائك السابقين التقطوا عنده فلا تخش شيئاً من كلامي السابق. إلى اللقاء وحسابك في المقهى واصل..

شكرته وصرتُ أراقبه وهو يغادر المقهى على مهل. ونسيتُ صراحة حتى سؤاله عن اسمه!!.  على أية حال الأمور تمضي كما هي، لأنه أيضاً لم يسألني عن اسمي. لم أنتظر طويلاً بعد أن غادر الرجل، وعدتُ إلى الفندق الرث وأنا أفكر بكلامه والحكاية بكلِّ تفاصيلها. وحين دلفتُ إلى غرفتي، نظرتُ في المرآة طويلاً إلى شكلي.. لقد كان مُتعباً وشاحباً!!. هناك هالتان سوداوان أسفل عينيَّ!!. وتلك الشامة التي كأنها حصاة سوداء ملتصقة على جانب أنفي. اضافة إلى أنني لا أملك بذلة فاخرة وربطة عنق لكي ألتقط بها صورة أنيقة!!. أنا بحاجة إلى صورة جميلة أتباهى بها في مشواري الجديد.. شكراً للتكنلوجيا.. شكراً لِمُسيلمة..

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

في نصوص اليوم