تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

ناجي ظاهر: الغزالة والصيّاد

ما زلت أذكر ذلك اليوم.. وهل يمكن أن أنسى يومًا مفصليًا في حياتي وحياة مؤسستي مثل ذلك اليوم. ذلك اليوم ابتدأ قبل حصوله بثلاثة أيام. كان ذلك عندما ذُكر اسم فتحي المدهون في المؤسسة وراح ينتقل من غرفة إلى غرفة، من عين إلى عين ومن أذن إلى أذن، بل من تقطيبة إلى تقطيبة.. لماذا تأتون بمثل هذا المعلم الازعر الجاهل.. ليعلّم أبناء شبيبتنا؟ ألا يوجد معلمون أفضل منه في هذه البلدة الملعونة؟.. الاسئلة تطرح واحدًا تلو الآخر ولا إجابة تأتي من فم فاهمٍ يريح ويرتاح. وكنا كلّما مضى الوقت نشعر جميعنا بالتوتّر يزحف في أروقة المؤسسة زحف الافاعي في مغائر سرية وسحرية سحيقة الاغوار.. موغلة في السحق والخشية. الوقت يمضي والسؤال يكبر.. لماذا تأتون بهذا الأستاذ.. لا جواب.. وتجرأ.. في اليوم التالي أحد الموظفين ففتح فمه وتحدث بصراحة ووضوح: فتحي المدهون نازل على اللغة العربية نزول.. وهو لا يتقنها ليعلّمها لأبنائنا.. سمعت أنه يتلقى معلوماته عنها أولًا بأول وقبل كل درس.. من عاِرف جليل بالعربية وشؤونها.. ويستعيد بعدها أمام طلابه المرعوبين منه ما تلقاه في الامس.. بل إن ذلك الانتحاري الذي فاه بكل هذا الكلام، ذهب إلى أبعد من هذا، فقال مبتسمًا.. إن شر البلية ما يضحك.. لقد نسي فتحي افندي خلال تدريسه طلّابه إحدى المعلومات.. وعندما قام أحد طلّابه بإرشاده إلى المعلومة الصحيحة.. قام بطرده من غرفة الصف.. وحلف على زوجته بالطلاق مُقسمًا اغلظ الايمان القاضية بأن ذلك الطالب لن يعود إلى مقاعد الدراسة.. قُبالته وأمامه.. وعبثًا حاول أهل الخير إعادة ذلك الطالب المعروف بنباهته إلى مقاعد الدراسة في إحدى المؤسسات.. فقد ذهبت محاولاتهم سدى وأدراج الرياح. ضحك مَن فاه بهذا الكلام وطلب منه مَن استمع إليه مِن زملاء ألا يواصل حديثه ذاك.. إلا إن مدير المؤسسة بادر بعد ذلك بقليل لدعوته.. ليخرج بعدها إلى لا عودة.

في اليوم الموعود.. بعد مضي ثلاثة أيام دخل فتحي المدهون مؤسستنا مختالًا فخوًرا، نظر يَمنة ويَسرة. تفحّص المكان من أوله إلى آخره. كأنما هو يقرؤوه ويتغلّغل إلى أعمق أعماقه، ليعد الاجابة المناسبة لأي سؤال يوجّه إليه، تفحّص كلًا منا، نحن موظفي المؤسسة ومتطوعيها، وأرسل نظرات حافلة بالغموض نحو كل منا، الغريب أننا عندما دخل غرفة المدير وأغلق بابها وراءه، تنفّس الجميع الصعداء، وتبيّن مما فاه به البعض من تعقيبات، أنه يفسر نظرات زائرنا الهُمام بطريقة تختلف عن الآخرى.

بعد أن أغلق زائرُنا، معلّم العربية الجديد في مؤسستنا العتيدة الغالية، تنفّسنا الصُعداء وتوجّه كل منا إلى شأنه، إلا أنا الكاتب المتطوّع في المؤسسة، فقد انتظرت أن تخلو لي الاجواء لأن أتوقّف وراء باب المدير المغلق وأسترق السمع.. بعد الترحيب سادت فترة صمت بين الاثنين داخل الغرفة المدير وضيفه الغامض. حدّ أنني كدت أستمع إلى حفيف الصمت. كانت الانفاس تتلاحق وتتعالى.. وبقيت على ما هي عليه إلى أن عاد مديرُنا إلى الترحيب، فما كان من ضيفه إلا أن انتهره:

-ألا يوجد لديك غير الترحيب؟ قُل أي كلام.. متى سأبدأ.. ومع أي من الطلاب.. هل هم متقدّمون في العربية أم أن علىّ أن ابدأ معهم من الالف باء.

عندها سمعت المدير يقول له:

-طلابنا متقدّمون جدًا.. وسوف يكون إلى جانبك كاتب متطوّع في مؤسستنا..(وذكر اسمي).

شعرت أن الزائر قفز من مقعده:

-ماذا تقول.. متقدّمون.. أفهم عليك.. أما أن يكون كاتب مساعد لي.. فهذا ما لا أرضاه.. أنا معلّم ولي تاريخي العريق.. وأعرف العربية وأسرارها.. لست بحاجة إلى مّن يساعدني..

صمت الزائر وبعد صمت قليل.. قال ضاحكًا:

-بإمكان كاتبك المبجّل.. أن يصنع لي القهوة.. لأتمزمز عليها.. أما أن يقف إلى جانبي لمساعدتي فهذا ما لا أحتاج إليه.. خبرتي تشهد لي..

شعرت أن مديرَنا دبّ السبع في قلبه وتوجّه إلى محدّثه قائلًا:

-كاتبنا معروف بمعرفته المتعمّقة للغة العربية.. أنا متأكد أنه سيكون عونًا مساعدًا لك..

سمعت همهمة وزمجرة.. انحنيت لأرسل نظرة عبر ثقب مفتاح الباب، فرأيت مشهدًا غير متوقّع، اقترب الزائر من مدير المؤسسة، مدّ يده إليه. انكمش المدير. لاعتقاده أن صفعة مدوّية ستنزل على وجهه الطري، إلا أن هذا مدّ يده المدرّبة إلى وجه المدير وربّت عليه:

-اسمع يا حبّوب.. ربّما كنت لا تعرفني.. صحيح انني معلّم للغة العربية.. إلا أنك على ما يبدو لا تعرفني جيدًا.. أنا من عائلة المدهون.. الاكبر في المنطقة.. ثم إن جدي وجدّ جدي.. عملًا في توريض الخيول.. أما وقد اختفت الخيول أو كادت.. فقد قرّرت أن أعمل في ترويض البشر.. هل تفهم ما أقوله لك؟

بدا أن الرسالة وصلت إلى المدير، فاخفض راسه، هازًّا إياه علامة الموافقة، واستمعت إليه يتمتم بكلمات فهمت منها أنه وافق على كل ما أراده المعلّم الجديد.

انصرفت مبتعدًا عن ذلك الباب، وأنا أفكر في مروّض البشر ذلك الزائر الثقيل.. إذا كان مديرنا قد وافق على أن يعلّم طلابنا مَن يحتاج إلى معلّم، فإنني أنا الكاتب المُحبّ للغته العربية المولّه المُدنف فيها، في حروفها وكلماتها.. لن أسمح.. حتى لو اقتضى الامر أن أدفع حياتي مقابل موقفي.

في الليلة التالية لم أنم إلا بعد أن هدّني التعب والنعاس، فاستسلمت إلى النوم.. ورأيت لُغتي العربية غزالة ذات عينين عسليتين واسعتين.. ترد الماء بطمأنينةِ من شعرَ بالغُربة وأحبّ الحياة في آن.. وبينما هي تدني فمَها مِن سطح الماء.. التفتت إلى الوراء لترى جسمًا أسودَ قاتمًا يزحفُ نحوَها.. فما كان منها إلا أن فرّت جارية بعيدًا بعيدًا.. غير أن ذلك الجسم الاسود انطلق وراءها مثل صاروخ أمريكي ذكي.. عندها شعرت بالخطر الداهم عليها ففتحت عينيّ.. وغادرت النوم متخذا قرارًا.. لا رجعة فيه.

حملت نفسي في اليوم التالي وتوجّهت إلى بيت ذلك الموظف، زميلنا المطرود من جنّة مؤسسة لغتي العربية.. وما أن فتح لي باب شقته وأطل منها النور يسبقه.. حتى طلبت منه أن نتوجّه إلى بيت ذلك الطالب العليم.. الذي طرده المدهون.. ليخفي ضعفه وقلة معرفته بالعربية. توجّهنا من فورنا إلى بيت ذلك الطالب، وجرى بيننا حديث طويل.. اتفقنا في نهايته على أن نضع حدًا لتلك المهزلة المقتربة من أبنائنا ومؤسستنا.

أعتقد أنكم الآن فهمتم ما خطّطنا له.. بإمكاني أن اختصر ما حدث بكلمات: في اليوم الموعود لبداية درس معلمنا الجاهل.. كنّا أوّل مَن دخل غرفة الصف.. وما ان رآنا المدهون.. حتى تراجع إلى الوراء في محاولة لإشعارنا أنه لم يرنا.. فايقنا أن ما خططنا له قد تكلّل بالنجاح.. وتوجّهنا إلى نافذة المؤسسة.. لنرى ذلك المعلّم المبجّل.. يولّي إلى غير رجعة.. كان ذاك آخر عهدنا به.. وبعهده الاسود..

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم